الكادحون بين الرأسمالية والتنزيل - الشورى
طلعت خيري
2025 / 5 / 17 - 09:58
لقد كان للتهديد والوعيد والفطرة السلمية والكتاب والميزان دور بارز في كسر استاتيكية التاريخ والتراث ألاعتقادي ، فلم تصمد اللحمة الديموغرافية المكية أمام الآيات القرآنية الداعية الى الإيمان بالله واليوم الأخر ، مما شكل طائفة مؤمنة أخذت على محمل الجد العاقبة الأخروية ، فنالت بشرى غفران الذنوب والخطايا عند الله ، قال الله والذين امنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك الفضل الكبير، ذلك الذي يبشر الله عباده الذين امنوا وعملوا الصالحات ، ونتيجة لتفكك المجتمع المكي تعرض المؤمنون الى مضايقات اجتماعية واقتصادية من بعض الأقرباء ، على أثرها طلب المؤمنين من النبي بمقاطعتهم ظنا منهم ان المقاطعة من دواعي العمل الصالح ، انتقد الله تلك السيكولوجية الافتراضية قائلا ، قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ، ان الله غفور شكور
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ{23}
نشب جدال بين المؤمنين حول مقاطعة القربى من المشركين ، الطرف الأول أصر عليها ، مدعيا ان ما جاء به محمد بخصوص عدم المقاطعة القربى افتراء على الله ، وأهواء سياسية ليس من الوحي ، رد الله عليه قائلا أم يقولون افترى على الله كذبا ، فان كان ادعاء محمد من الأهواء فهذا هو عقابه ، فان يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته انه عليم بذات الصدور، برا الله ساحة النبي من الادعاء مؤكدا على عدم مقاطعة القربى من المشركين ، فبرز طرف ثاني من المؤمنين وبخ الطرف الأول فقال ، لا توبة لكم عند الله رد الله عليه قائلا، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون ، ويستجيب الذين امنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ، والكافرون لهم عذاب شديد
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{24} وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ{25} وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ{26}
شكل الله المصالح طبقة رأسمالية فضلت نفسها على الطبقات الأخرى ، مما لفت انتباه الطبقة الكادحة الى الاختلاف الشاسع بينهما ، ومن خلال المقارنة رأت ان الله المصالح أكثر اهتماما واعتناء بطبقة الأغنياء ، عكس الله رب السماوات والأرض المحافظ على مستويات المعيشة ضمن نسب محدودة ، ذلك مما أعطى انطباع وتصور خاطئ لديها ، ولكي تتضح الصورة أكثر، قال الله ولو بسط الله الرزق لعبادة لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر، والقدر يعتمد على مدى قناعة الفرد بمصدر دخله ، للإجابة على سؤال يطرح نفسه لماذا لا يفتح الله كافة أبواب الرزق للعباد ، الإجابة لو بسط الله الرزق للعباد لبغوا في الأرض ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء انه بعباده خبير بصير ، شرذمة من الدول الرأسمالية عاثت في الأرض فسادا ، فكيف أذا أصبح العالم كله رأسمالي ، ان الله بعباده خبير بصير
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ{27}
تراكم رأس المال لدى طبقة الله المصالح ، غيب حقيقة بسط الرزق بالقدر الذي ينزله الله للعباد ، فالطبقة الكادحة تشعر دائما بالنقص والحرمان من جراء الأزمات الاقتصادية التي يسببها المناخ ، إذا ما قارنت نفسها مع طبقة الله المصالح وفق معاير مغلوطة ، ولإيصال مفهوم بسط الرزق بقدر، تطرق التنزيل الى ذكر طبقة كادحة تعتمد على الأمطار في الزراعة وتربية الأغنام ، لقد كان لانقطاع الأمطار لسنوات أو تذبذبها سببا في كمش دخل الأسر العاملة في هذا القطاع ، قال الله وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ، البعد العقائدي من هذه الاية لتسفيه مزاعم أفضلية الطبقة الرأسمالية عند الله ، لتعلم الطبقة الكادحة ان اختلاف مصادر الرزق هو من يحدد دخل الأسرة والأفراد ، ولا علاقة للأفضلية الدينية أو الاعتقادية بتفاوت رأس المال والدخل ، بل التكالب الرأسمالي هو من يصنع التفاوت الطبقي بين المجتمع
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ{28}
الكائنات الحية لا تتكاثر ولا تتجدد في الطبيعة إلا وفق ضوابط زمنية كالفصول ، ومناخية كدرجات الحرارة والرطوبة والأمطار ، فالزراعة والثروة الحيوانية مرتبطتان بالمناخ ، والمناخ مرتبط بالسماوات والأرض فالمواسم مجددة للإنتاج الحيواني والنباتي ، ربطت الرأسمالية الملائكة بنات الله بالإنتاج الحيواني والنباتي ، لاغيه دور خالق السماوات والأرض في توفير مصادر الرزق على الأرض ، فاستغل التنزيل تجدد وتكاثر المادة على الأرض كدليل على عظمة الخالق في بث الحياة ، وبنفس الآلية ستبث الحياة من جديد لجمع الناس يوم القيامة ، قال الله ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة ، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ، الدابة تعني كل متحرك يحدث تغيرا ماديا على الأرض كالكائنات الحية ، أو تغيرا زمنيا كالشمس والقمر والليل والنهار
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ{29}
ان التكالب على مراكمة رأس المال من المصادر المتعددة ، لم يعطي للرأسمالية فرصة التفكير بالمصالح الدنيوية كالاقتصادية والسياسية ولا بالمصير الأخروي ، فالمال المتراكم عند الله المصالح أعطى أفضلية اعتقاديه للطبقة الرأسمالية على الطبقات الأخرى ، وبالرغم من الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تتعرض له الطبقة بسبب الكسب اللامشرع كالربا والغش الصناعي والتجاري والاستغلال الامبريالي والاستعماري غير أنها لم تتعظ لمستقبلها ، قال الله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، فالمصائب سببها الكسب المالي اللامشروع ويعفو عن كثير ، استغل التنزيل المصائب التي تحل بالأنظمة الرأسمالية للتهديد بالموت السالب للرفاهية فقال ، وما انتم بعجزين في الأرض ، غير عازين على الله إذا أراد القضاء عليكم ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ{30} وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ{31}
عرض التنزيل بعض آياته على المجتمع المكي الرافض للإيمان بالله واليوم الأخر، للاطلاع على المواقف الصعبة التي يمر بها الفرد أثناء الرحلات البحرية ، ليعكس علمية الخالق في الذات البشرية ، ومدى تأثير الانهيار الاقتصادي والأمني والمالي على وصحة وسلامة المتكالبين على لمال لصعوبة تعامل العقلي مع الأزمات ، إما المصائب المهلكة فلا مفر منها ، قال الله ومن آياته الجوار مفردها جارية وهي مراكب الصيد والسفر والملاحة في البحر كالأعلام الأعلام الأشرعة التي تدفع المراكب مع اتجاه الريح ، ان يشأ الله يسكن الريح يوقف تيارات الهواء فيظللن رواكد على ظهره ، فالمؤمن بالله القانع بمصدر رزقه سيتعامل مع الأزمة بعقلية منفتحة كالصبر والشكر، ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور، أما المتكالب على المال سيدفع بنفسه الى السفر دون الانتباه الى الظروف المناخية التي تلاؤم الرحلة فيقع تحت تهديد الغرق والهلاك أو يوبقهن بما كسبوا ، يوبقهن يغرقهن بما كسبوا ويعف عن كثير، ويعف عن مهلكات كثيرة في البر والبحر
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ{32} إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{33} أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ{34}