(زَمَنُ اللِّقاءِ، ومَكانُ الوَداعِ)


سعد محمد مهدي غلام
2025 / 4 / 28 - 02:48     

1
نُريدُ:
سَماءً،
لِتَهوي عَلَيْنا إذا ما سَقَطْنا
وتَنهَضَ إنْ نَحنُ قُمْنا،
نُريدُ جدارًا يُلائمُنا،
يصلُحُ، حينَ نَميلُ عليهِ،
للاتِّكاءِ الطويلِ...

2
فليسَتْ جميعُ البحيراتِ ساكنةً،
ولَيسَ السُّكونُ،
هوَ البحرُ،
ليسَتْ جميعُ السَّواكنِ ـ ماءً!

3
دهليزُنا،
ديجوريُّ الظِّلالِ،
وفيهِ نَنامُ على غَفلةٍ
لا نَعي:
متى، أينَ،
كيفَ التِقاءُ المنامِ؟

الفُقدانُ والحَيرةُ المُزدَحمةْ...
صرحُ الطّينِ أمامَ عيونِ المَدى،
تَبدو على جِدرِهِ صُورُنا،
كأنّ الظِّلالَ التي فيهِ
بساتينُ "أبي الخصيبِ"،
نُخالُها مرآةً
وفي غفلةِ الحُلمِ،
نَهفو لِحُضنِ الأمومةِ.

جِراحُ الطُّفولةِ تُورِثُنا السُّهدَ،
تُسهدُنا…
طيورُ المحبةِ،
تنقُرُ دَمعَ العيونِ المُتكلِّسِ
فوقَ الرُّموشِ…

وفي عَتمةِ النبضِ،
تَلغُ الكلابُ البُكمُ،
تنهشُ ما قد تَكَدَّسَ فينا…
ذاكَ هوَ الشّتاتُ.

4
لِيَ ظِلِّيَ الشامخُ،
صَريحُ الملامحِ،
لَيسَ نَشيدًا
ولا عَلَمًا
أو خَريطةً،
هوَ اللُّغَةُ المُستطابةُ،
رَغيفُ الحَياةِ،
ضمادُ الجِراحِ،
وسادَةُ نومِ الغريبِ،
هوَ القَلَمُ الناقشُ الحُبَّ
فوقَ الجُذوعِ:
أسماءُ مَن عَشقوا قبلَنا،
هوَ رَصيفُ التّعبِ،
نُصلّي،
ننامُ،
نُرتِّلُ فيهِ الحُلُمَ.

كانَ الحُلُمُ لِأبي،
ثُمَّ لي،
واليومَ يَنبُتُ في كَفِّ ابني.

في الطَّيفِ،
يَظهرُ جارٌ،
بِاختياري،
الشارعُ أعرفُهُ،
أعلمُ كيفَ شقُّوهُ،
رَصفُوهُ،
عَبَّدُوهُ،
وغَرَسُوا على جانِبَيهِ
أعمدةَ النورِ،
أشجارًا باسِقةً...

هذا هوَ الوطنُ المُقيمُ بِنا.


5
دَمٌ نُعْطِيهِ،
دَمٌ نَأْخُذُهُ،
لا نَشْتَرِيهِ،
ولا نَبِيعُهُ،
لا نُؤَجِّرُهُ،
لا نَسْتَأْجِرُهُ.

نَنامُ مِلءَ الجُفونِ،
بابُ الدِّيارِ مُشَرَّعٌ،
والنَّوافِذُ فَجْرٌ...

نَخُوضُ الفَيافي،
ولا نَلْتَفِتْ،
نَعرفُ كَيْفَ الطَّريقُ،
وكَيْفَ الصَّوَاهْ.

نُحِبُّ اللُّهَجاتِ جميعًا،
تُطرِبُنا،
نَنبُضُ – حينَ تَصِلْ –
كأنَّ الفُؤادَ
يَشقُّ الصُّدورَ لِيَخرُجَ من حَبسِهِ.

وحينَ نُغادِرُهُ،
الوَطَنُ:
زَمَنُ اللِّقاءِ،
ومَكانُ الوَداعِ،
مَهدٌ إذا ما رَضَعْنا،
وقَبرٌ إذا ما وَدَّعْنا الحياةَ.

نَسْكُنُ فيهِ،
وفيهِ الكَعْبَةُ – مَثْوانا –
نَحُجُّ لِفيهِ،
ومِنهُ نَعودُ.
6
نَجُوعُ إذا ما جاعْ،
ولكِنَّهُ
لا يَدَعُنا نَجُوعْ.

نَزَعقُ صَدى الشَّوقِ،
يَجري بِنا
منَ الهامَةِ
لِلأخمصِ – صَدًى...

لا سَبَبَ في الفِراقِ،
هوَ الزَّقُّ،
مِثلُ القِرْبةِ المُعلَّقةِ
كالنِّيرِ
على العُنُقِ المُتْعَبِ النَّاحِلِ...

مِنهُ نَنوءُ،
وبه نَستجيرُ.

لا وَجودَ لهُ،
لكِنَّنا نَستَقيهِ
إذا مَسَّنا الظَّمأُ المُسْتَعِرُ،
نُصيبُ ارتِواءً عَجيبًا.

إذا ما استغَثْنا،
أوِ استغاثَ بنا غَيْرُنا،
شَبَبْنا لَهَبًا،
كأنَّا المَطَرُ
يَلثمُ وَجهَ الظِّماءِ.

والمَوجَةُ – حينَ تُعانِقُ صَخرةً –
تَصيرُ عروسًا...

تَصيرُ الزُّهورُ مَدى،
والأشجارُ قُضبانَ فولاذِ عشقٍ
نُسَجِّلُهُ فيهِ،
وبه نَكونُ...

لا غَوايةَ،
لا هَوايةَ،
لا رِوايةَ.

هوَ الوَسواسُ،
يُميتُ سِوانا،
ويُحيينا.

هوَ المكتوبُ على الأصداغِ،
نَخافُ عليهِ،
ولا نَخافُ مِنهُ.

يَجري بِنا،
ويَجري مِنَّا،
نُعطِيهِ،
ويُعطينا،
كُلُّ الذي فينا مِنهُ،
وكُلُّ الذي فيهِ مِنَّا،
منَ الشَّكِّ حتى اليقينِ...

هذا هوَ الوَطَنُ.
7
اِسْكُبي،
مِن فيضِ ما تَكرَعينَ
مِن أشواقٍ،
مِن حنينٍ،
مِن نُورِ فَجرٍ باسِقٍ
يَنبَلِجُ في سَماءٍ صافيةٍ
بِزُرقةٍ نقيَّةٍ...

كُلُّ الخُضارِ،
وما تلبسُ الرياضُ مِن الألوانِ
مَطبوعٌ
على أهدابِكِ الزَّاهيةِ،
فـاِسقِينا إيَّاها،
إنِّي الصَّدى!
8
عانقيني
حينَ ترَيْنَ الحُزنَ يُغرِقُني،
واثْريني
برُموشِكِ الكثيفةِ،
وازمَليني...

فأنا عليلٌ،
ما إنْ أسمعَ اسمَ الوطنِ
حتَّى تَنتابَني شطَحاتٌ...

أنا وأنتِ
على قاربٍ
في غابةِ لفاءِ،
لهُ أجنحةٌ
تَرفرفُ
تشقُّ عُبابَ الأجواءِ...

كُلُّنا – في أوطانِنا –
سَحَرةٌ،
عُشَّاقٌ.
9
التوجُّسُ –
يَسكُنُني حُزنًا مُعتَّقًا...
أستَعيذُكِ،
فهوَ في وجهيَ عُيونٌ
تَلبسُني
مُنذُ سنينَ...

استقطَبَ الغرباءُ أجسادًا مِنَّا،
خَلَعوها
عن أرواحِها،
وحملوها
في حقائبِ سِفرٍ،
دَمغوها أرقامًا مُشفَّرةً...

حملوا معهم الضِّياء،
وخَلَّفوا لنا
عَتماتٍ خائبةً،
أخافُ أن تَرتديها أوطانُنا...
10
الزَّمَنُ – في المنافي –
يَجدِلُهُ الهَجرُ
مع حُثالةِ الذِّكرَياتِ،
شالاتٍ
تَلتفُّ بها أكتافُ الغُرباءِ...
تَصيرُ لَهُم،
عَلاماتٍ للتيهِ
ولِلنسيانِ.
11
الأُرْجُوزُ،
والارتِعاشُ البَليدُ،
بَديلٌ عن الحُبِّ...
والإيروتيكُ عِوَضُ العِشقِ...

العِناقُ – ربْتةٌ على الأكتافِ –
لا تَوهُّجَ فيها،
لا نَجمَ،
ولا ضوءَ عِناقِ العُشَّاقِ!
12
الحدودُ:
ليست سَواترَ تُرْبانٍ،
إنَّما...
المِحنْ.

والزِّحامُ،
أنْ يَصيرَ المنفيُّ
عُلبةَ سردينٍ،
تُصفُّ على رُفوفِ المولاتِ!
13
اِضرِبي عن هواهُم،
واسفِري عن نِقابِ الهمومْ...
تَعالَي...
بِالمِلحِ نُداوي الجُرحَ،
ونَنكَؤهُ
ليَلتئمَ – من جديدٍ...

ونَعودَ – من جديدٍ،
بِلا نِقابِ الوجَعِ،
ولا الأضغانِ...

لِنَبنيَ وَطنًا،
يَكادُ
يَضيعْ.