أسس الديانة العراقية القديمة ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7449 - 2022 / 12 / 1 - 16:39
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

مرتكزات وأسس الديانة العراقية القديمة
قبل البدء في سرد وإظهار مضامين وأسس الديانة العراقية لا بد لنا أن نفهم حقيقتين أساسيتين لبلوغ البحث مجاله الحقيقي دون أن نقع في مطبات الأفتراض والتأمل الغير واقعي، وهاتين القضيتين تتعلقان ليس بكونية الدين العراقي ولا تركيبته ومضامينه، ولكن تتعلقان بطريقة إدراكنا لما في هذا الدين من محمول وصل إلينا عبر الكتابة القديمة المدونة على مختلف وسائل التدوين التقليدية، من أختام ونقوش وكتابات ومسلات ونصب ورقم طينية أو حجرية، عليه لا بد من أن نعطي مسألة الأهتمام بالكتابات وباللغة التي دونت بها وليس بما نقله أصحاب الأختصاص عبر سلسلة من الترجمات التي أفقدت النص الأصلي معناه ودلالاته، النقطتين هما:.
1. بالعودة للنصوص لا بد أن يكون نطق الحرف باللغة العراقية القديمة وبالصوت ذاته لكي نفهم لا نقدر، مثلا أن العراقيين ما زالوا يطلقوا على الملاك أسم (ملچ) بالجيم المضخمة وهي عراقية أصلا وليست فارسيه أو دخيلة على اللغة العراقية وهو ذات النطق والصوت القديم عندما يشار لملاك في اللغة العراقية القديمة (أدر ميليك ADRA MELECH) وزوجته (عني مليك Ana (Melech، بالرغم أن النقل من العراقية إلى لغة ثانية ومنها العربية أفقد الصوت واللفظ العراقي معناه، لكن بالعودة للأصل، فالملاك وزوجته ورد أسميهما بلفظ (ملچ).
2. ترد تسميات وصفات وألقاب قد لا نقبل بها في ضوء مفاهيمنا الحالية المأخوذة من الدين الإبراهيمي، فهناك من "الملايچة" الملائكة ما هم أشقاء أو أزواج أو أباء وأبناء أو شركاء، في الأديان الإبراهيمية مع إقرارها بأن الله خلق من كل زوجين أثنين بأعتبار أن الله قد أطلق وحسب العقيدة الإبراهيمية كلمة شيء على كل كائن معروف (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فنفي المزاوجة والتزويج والولادة عن الملائكة يخرجها من مفهوم ونطاق النص، ولا أحد يمكنه أن يقول أن الملائكة لا شيء، ولا أحد يستطيع أن يثبت بنص أو تلميح حتى أن بعض الأشياء لا تخضع لمنطق الآية، وبالتالي فالإطلاق هنا محدد ومقصور ينص وهذا ما لم نجد له أثر في كل التراث الديني، إذن فما يسري على الأشياء بطبيعتها يسري على الملائكة ومنها الجن والملائكة بأعتبارهما القيمي والمثلي يتحدان في خصيصة عدم الرؤيا أو الانكشاف للحاسة البشرية، فالملائكة صنف من صنوف الأشياء المحكومة بقانون الثنائي النوعي وإن كان البعض يصر على أنهم أناث فقط (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ۚ إنكم لتقولون قولا عظيما) الإسراء٤٠، وأيضا ما ورد من نفي الإدعاء هذا (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمٰن إناثا ۚ أشهدوا خلقهم ۚ ستكتب شهادتهم ويسألون)، أو يسمونهم تسمية الأنثى فقط وهذا ما نفاه النص ولم ينفي أن يكون أنثى وذكر (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثىٰ).
إن الأخذ بهاتين النقطتين يمكننا ومنذ البداية أن نفهم ما جاء في النص المتناثر والمجموع على قلته، أن الدين العراقي القديم ليس كما نقل لنا من أنه أولا مجموعة ديانات لا رابط بينها سوى الوثنية، وثانيا أن كثرة الآلهة والأرباب تدل على تقلب العقيدة الدينية العراقية القديمة مع التغيرات والتحولات التي تخضع لواقع متحرك مضطر نتيجة هجرات مزعومة وأرتحالات مستمرة له، وكل هجرة أو رحلة تأت معها عقائد وأشمال تعبدية وألهه مختلفة، الملاحظة المهمة أن كثرة التماثيل والمنحوتات المنسوبة للآلهة أو للملايچة، قد تفسر بأنها وسائب تعريف أو وسائل عرض كأمثال بغياب النصوص النازلة من الله في وقت لم تتطور بعد ولم تنتشر الكتابة، فالصورة المجسدة الحسية التي تمثل شكلا منسوبا لله كانت أمثر قدرة على رسم الإيمان الديني في مجتمع ينهض ويتطور ويعرف كل شيء.
من هنا نبدأ إذا في البحث المجهد والمضنى في تاريخ الدين الأصل الذي منه وردت كل الأديان التي نعرف اليوم، لقد كان من أولى ملامح الدين العراقي القديم وأساسياته أنه ليس دين عبادة وإيمان بمثل وقداسة وتعظيم، إنه كان دينا عمليا مختلطا بالواقع وراسما خطوات التمدن والتحضر بين شعب العراق ليكونوا رسل الله إلى العالم، لذلك لا نستغرب أن في كل حدث سياسي فكري أدبي أجتماعي نجد بصمة الدين المرشد لا بصمة الدين المتطفل، حتى ظن الكثير من المؤرخين والآثاريين وعلماء الأديان أن العراقيين القدماء مستغرقين في الدين لأنهم يخضعون أساسا لسلطة الملك التي هي سلطة الإله على الشعب، ومنها جاءت مثلا فكرة الملوك الآلهة أو الآلهة الملوك التي دونوها في كتبهم ليربطوا بين الدين والسلطة، إنهم ظنوا وصدقوا ظنونهم دون أن يفهموا أن دور الدين كان مباشرا مع الإنسان وبدون حواجز، لأن الدين لم يكن متقوقع بكتب ومعابد وأسرار بيد الكهنة وأصدقاء الله.
لقد لعب الإيمان بالله من خلال المباشرة التي كان عليها واقع الدين دورا مهما في تثبيت العلاقة بين ثلاثة أطراف، هم الله والأرباب "الوسطاء" بين الله والشعب وما يتبعهم من أرواح شريرة "جن" وأرواح خيرة " ملائكة"، والعنصر الثالث الشعب، لم يكن هناك رسل ينقاد لهم الشعب بل كان الدور الأعظم للأرباب الذين كانوا ينقلون رسالة الله عبر فعل متخصص أو موجه من الله، لقد عثر المنقبون الآثاريون على نصوص دينية وتراتيل تمثل هذه الحقيقية في مكتبة أشور كواحدة من الوثائق الهامة التي تعطي مساحة واسعة ومكشوفة لطبيعة الدين، هذه المقطوعة مترجمة ما اللغة العراقية القديمة
(اللهم الذي لا تخفى عليه خافية في الظلام، والذي يضيء لنا الطريق بنوره
انك الاله الحليم الذي يأخذ بيدِ الخطاة وينصر الضعفاء
حتى ان كل الأرباب تتجه انظارهم الى نورك
وشياطين الهاوية تلتهم انظارهم وجهك
حتى كأنك فوق عرشك مثل عروس جميلة تملأ العيون بهجة
و رفعتك وصلت عظمتها، اقصى حدود السماء) 1 .
من تدقيق هذه المقطوعة الشعرية التي أنشدت كأبتهال لله لا نجد روح تعدد أو أشراك في من وجه له النداء، اللهم الذي لا تحفى عليه خافية... أليس هذا هو منطق التوحيد الإبراهيمي الذي جعل من قاعدة العلم المطلق إحدى أهم صفات الله ومواصفاته الوحدوية، إذا لمن كان السبق لإبراهيم أم بقوم إبراهيم من أهل العراق وأسلافهم المعدان والشروكية، الذين أمنوا أن الله هو الحليم الذي يأخذ بيد الخطاة وينصر الضعفاء بدون واسطة لأنه قريب جدا منا وحتى من الأرباب الذين ينفذون أمره ويطيعون له وتتوجه أنظارهم له بكل خشوع وعظمة، أليس هذا هو ما لا يريد أن يظهره المشركون عبدة الأوثان البشرية الذين يقولون على العراقيين القدماء عبدة أوثان ومتعددي الآلهة والأرباب ؟....
هناك ملاحظة ربما علينا أن نفهمها لحقيقتها لا كظن أو أحتمال، وهي أن الديانات القديمة ومنها بالتأكيد الديانة العراقية التي بلغت أوج عظمتها وتكاملت كل أركانها وأسسها نتيجة ظهور الكتابة وحرفة التدوين في بلاد سومر، أو أن الكتابة والخط والتدوين كان نتيجة تكامل الدين والإيمان به على المستوى العام والخاص، هو من شجع على أن يبدأ الإنسان العراقي رحلة الحضارة الكبرى قد ترجم التصورات الدينية على شكل تصورات حسية مجسدة، يعكس فيها رؤيته وإحساسه للرمز الديني سواء أكان الله أو الأرباب أو الملائكة أو حتى عوالمهم العليا والسفلى، لذا كان يأخذ صور من الواقع الطبيعي ويجسد أفكاره عنها، مثلا في قضية الأبو الكل (أبگال ABGAL ـ هم الحكماء السبعة الرُسل في الأساطير السومرية والذين أرسلهم إنكي إلى الأرض في بداية الخلق، لمنح البشر " ألمه" (قوانين الحضارة)، والمعرّفون من قبل الأكديين والبابليين باسم "أبكالو Apkallu " أو " سمك الأبكالو Apkallu Fish " وهم عبارة عن رجال بجذع سمكة، رؤوسهم و أذرعهم وسيقانهم بشرية، وأحياناً مع الأجنحة، الذين خلقهم الله أولا كبداية للسلسلة البشرية التي تعيش الآن، جسدها العراقي القديم كشخصية (فيها ثلاثة رموز أرضي اشري وجسد مائي سمكة وجزء حركة أجنحة الطيور)، هذا التجسيد ليس عبثيا ولا هو مجرد تعبير خال من إنعكاس حقيقي منتخب ومراد، إنه العراقي الذي يربط كل شيء من حوله بذاته، فالأبكالوا هم مجموعة متداخلة من الأفعال والتأثيرات المتبادلة في رؤية واقعية للعالم الذي يعيش فيه مستفيدا من رموزها لتعكس رؤيته.
هذا الأمر ليس منحصرا فقط بما يفعله العراقي القديم، وإنما أستطيع أن أجزم إنه فهم كامل وعام ومشترك عند كل البشرية، ففي المجتمعات البشرية التي كانت تتركز عبادتهم على ما في بيئتهم من أساسيات تتعلف بوجودهم مثل الصيد وتوعيته، كانت الفرائس التي تمثل لهم سر بقائهم تتحول لا شعوريا ومن خلال العلاقة الروحية التي تربطهم بالواقع إلى رموز دينية، تماما كما تحولت السمكة والطائر والثور والسنبلة وزهرة الأقحوان رمزا عند العراقيين، رمز يفصح عن رؤية فكرية وليست وسيلة تعبير فقط، فقد كان صائدي الدببة في العصور الحجرية يتخذون من الدب رمزا مقدسا معبودا بالرغم من أنه مجرد فريسة في صراع مستمر معها (في العصر الحجري القديم العلوي، فقد اختلطت عبادة الحيوان بطقوس الصيد، فعلى سبيل المثال تؤكد الأدلة الموجودة في الفنون وبقايا الدببة التي تم العثور عليها، أن عبادة الدب كانت تصاحبها بعض الطقوس الدينية حيث يتم اصطياد الدب بالـسهم، ثم يتم قتله بسهم في الرئة، ثم يُدفن بشكل شعائري بجانب تمثال من الطين على شكل دب مغطى بفراء دب، وتُدفن عظام الدب وجسم الدب منفصلين عن بعضهما البعض) .2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. . حضارات بابل وأشور _ غوستاف لوبون / صفحة 68-69
2. https://wikiarticle.xyz/i - ويكيبيديا الموسوعة الحرة.