فلسفة السياسة العراقية تاكيد للمسارالفوضوي وضبابية الهدف والمنهج


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7416 - 2022 / 10 / 29 - 13:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لمناسبة تشكيل حكومة عراقية جديدة في إطار من اللا خيارات وخضوعا للأمر الواقع التي فرضته الطبيعة التكوينية التي أسست ملامح هذه المنظومة الغارقة في تخبطات اللا قرار واللا رؤية الوطنية، أعيد نشر مقالة سابقة تدرس طبيعة وماعية التفكير السياسي لدى منظومة الحكم في العراق لما بعد عصر 2003.
نفترض جدلا أن المرحلة السياسية التي مر بها العراق بعد 2003 تشكل ملامح مدرسة من طراز خاص فيها وعليها ومنها ما يمكن أن يعطي أنطباع أولي عنها ممكن تلخيصه بالنقاط التالية:.
• بما أن التغير السياسي كان جذريا وإنقلابيا نتيجة تغير قواعد الحكم وأساسيات بناء دولة ونظام تحت الأحتلال، فالنتاتج الطبيعية منه لا بد أن لا يكون العمل السياسي محايدا عن قوى الأحتلال ولا معاديا لها ولا حتى معارضا بشكل أو بأخر، فمنذ أن تولى الحاكم المدني بريمر قيادة الإدارة المدنية للأحتلال تملك معها كل أسباب القوة السياسية مضافا لها ما موجود على الأرض من قوة عسكرية، فالمتعامل مع هذه الإدارة يدرك وجوده في مفاصل الدولة والسلطة مرتهن بالبقاء بين قواها أو الخروج منها، وفقا للطريقة التي تقربه أو تبعده عن الحاكم المدني العسكري المطلق في الواقع، هذا يعني أن كل المنخرطين في العملية السياسية منذ البداية هو أدوات وصناع بريمر، وينفذون سياسة المحتل وأهدافه البعيدة والقريبة رضوا بذلك أم أبوا، وإن كان البعض منهم براغماتين أو مصلحين ينتظرون الفرصة فأولئك لا يمكن إخراجهم من طائفة الأتباع لبريمر مع كل التبريرات والأعذار.
• شهدت مرحلة بريمر الإقصائية العنيفة وعودة القوى السياسية للعراق وخاصة المهاجرة أو المهجرة، وحل إدارة الدولة السابقة ومنها القوات المسلحة وكبار القادة المدنيين وملاحقة النخب الفكرية والثقافية والإدارية بقانون أجتثاث البعث، إن تسلقت قوى هجينة أمية قليلة الخبرات وفاقدة للمهنية وحتى لأبسط مبادئ الإدارة والأقتصاد والسياسة المواقع العليا والمراكز القيادية في الدولة، مما ساهم بشكل رئيسي في ظهور معادلة (المنصب الحزب) دون أن يكون هناك عملية أنتقالية تأهليه بين فلسفة ونظام إدارة راسخ وبين بديل لا يحمل هوية ولا يملك رؤية أو تصور لمعالجة المشكلات السياسية ولا الإشكاليات الإدارية، هنا هيمنت التلقائية والتخبط وردات الفعل على سياسة الدولة، وأصبحت المصالح الحزبية في صراعاتها البينية هي أول ملامح المدرسة السياسية ما بعد 2003 والتي يمكن وصفها بسياسة الصلوات، تسويات مرهونة بحسابات خارجية وداخلية تتحرك وفق مصلحة من وضع الحسابات حتى لو كانت ضد مصلحة العراق وشعبة.
• المملح الثالث في توصيف هذه المدرسة إن جاز لنا التعبير هي ضعفها الدائم في أن تعطي رؤية أو تصور أو تختار أستراتيجية وطنية ذات ملامح معلومة وأهداف معلنة، فهي تتقلب وتتنوع وتتبدل وفقا لمعطيات الصراع الداخلي والخارجي مستثنين الطرف الكردي الذي له خطوط سياسية واضحة، ولا يتردد في إعلانها شاء الشركاء أم رفضوا، وهذا ما منحة القدرة على التحكم بالقوى الأخرى وفرض الإرادات الفئوية على الجميع، ملوحا في كل مرة بالانفصال أو التهديد بملفات النظام السابق أو حتى بأبتزاز الكثير من قادة العملية السياسية بملفات مخابراتية وفضائح متعددة الأشكال والأنواع، لذا فالجزء الأكبر من قادة العمل السياسي في العراق هم تحت ضغط الملفات وإدارة صراع نوعي داخل مكوناتهم، يمنعهم هذا من المس بالخطوط الحمراء كي لا يفقدوا الأمتيازات والمصالح، والفرصة في البقاء ضمن منظومة سياسية مفككة تتيح للجميع اللعب بالواقع السياسي دون مسئولية ومحاسبة.
• بعد إنقسام الواقع السياسي بعد 2014 ودخول داعش ضمن القوى السياسية والعسكرية المؤثرة في الواقع العراقي، تبع هذا الإنقسام إرتداد وطني كبير مس قاعدة الحكم الديمقراطي وهم الشعب الذي يختار، فلم تعد هناك عناوين وطنية جامعة وانقسم الشعب طولا وعرضا على نفسه فأصبحت مصطلحات السياسة تتمحور حوا حواضن الإرهاب ومدافعين عن تهميش السنة وبيئة موالية للدواعش نتيجة الفرز الذي أعقب أحداث الطائفية 2006 الى 2008، بالمقابل برزت فتوى النجف كمحفز طائفي نوعي مغاير ومضاد ساهم في تعميق الهوة بين مكونات الشعب وأصبح الجميع أمام خيار الضد أو الـــ مع، هنا أيضا لعبت المصالح الإيرانية دورا في توجيه العداء المفتعل بين الشيعة والسنة في كبان العراق الواحد، من خلال إدارة صراع الأدوات مع النقيض المذهبي السياسي القومي السعودية ودول مجلس التعاون، وتحت عنوان عريض ووهمي أن السعودية والقوى الحليفة هي من تدعم داعش.
• جاءت أحداث ما عرف بالربيع العربي ووضعت المنظومة السياسية العربية ككل ومنها العراقية أمام تحديات البلقنة والتفتت والصراعات العميقة داخل الوحدة الوطنية ذاتها، وبالرغم من أن العراق ليس بعيدا أساسا من أسباب الربيع العربي ومفجراته، إلا أن التصرف السياسي لم يكن بالمستوى المطلوب لأحتواء المد الجماهيري المعارض والرافض لسياسات التبعية وفقدان القرار الوطني، توضح الأمر جليا بشكل سافر ومعلن في 30 تموز 2015 وظهور شعار (بسم الدين باكونا الحرامية)، هذا الشعار الذي هز كل منظومة الحكم السياسي في العراق، والذي في غالبيتها العظمى تبنى منهج الإخوان المسلمين في طرح رؤياه وأفكاره عن شكل الدولة وكيفية ممارسة العمل السياسي حتى ضمن المنظور الشيعي.
• بعد أنتخابات عام 2018 أتضح بشكل جلي أن بناء المنظومة السياسية في العراق متين من الخارج بدليل تنامي القوى السياسية وتغولها حتى على القانون والدستور، لكنها من جانب أخر فهي مجرد مؤسسة خاوية من الداخل وضعيفة تدافع عن نفسها بقوة السلاح وسياسات الأقصاء والعداء مع الشعب من الداخل، مستندة في أهم مفاصل قوتها على العنصر الخارجي المتمثل بالضغط الإيراني على كامل مؤسسة الدولة العراقية، التي وثقته بعلاقات أقتصادية أحادية الجانب تصب في مصلحة طهران، وأسندت قوة الحماية فيه لفيلق القدس الذي يرعى المليشيات الخارجة عن القانون والمنضوية تحت أسما لا فعلا، بقيادة المايسترو السياسي والعسكري الجنرال سليماني، كانت الولايات المتحدة تعرف تماما هشاشة المؤسسة السياسية العراقية برمتها، وتعرف أن الكثير من مفاتيحها الشيعية والسنية بيد سليماني وتابعه المليشياوي المهندس، فكان قرار التصفية بالرغم مما يحمل من خطورة وتهديد هو القرار الأهم الذي من خلاله يتم تقصيص الجناح الإيراني من جهة، وإضعاف دور المليشيات العراقية التي وجدت نفسها في حالة تخبط وعدم قدرة على الفعل دون عراب قوي ومسيطر.
• أثبتت الأيام ومن خلال التجربة على الأرض أن الطبقة السياسية الحاكم طبقة مصالح شخصية وغنائم ومكاسب تحت أي عنوان المهم أن تستحوذ وتتضخم قبال تهميش دور الدولة والمجتمع الجماهيري، معتقدة ومؤمنة أنه لا يمكن مواجهتها بالقانون أو الدستور لأن كلاهما بني وفق طبيعية نفعية ذيلية تبعية لها، الدستور الطائفي المفصل وفق رغبات هذه المنظومة وبأداوته التنفيذية مثل المحكمة الأتحادية السابقة برئاسة مدحت المحمود سيء الذكر والقضاء العراقي المتوج على رأسه الدعوجي فايق زيدان ربيب المالكي وحزب الدعوة، هم أولاد غير شرعيين لهذه المسميات ولا يمكنهم أن يتمتعوا بالصلاحيات والواجبات المناطة بهم قبل الرجوع للمنظومة السياسية التي جاءت بهم، وجد الشعب وخاصه قواه الطليعية من شباب ومثقفين وأصحاب المصلحة الحقيقية في عراق مزدهر وأمن، أن كل الطرق إلى روما مغلقة وليس أمامهم إلا نطح الجدار السياسي بكل قوة حتى لو كلف المئات من الشهداء والألاف من الجرحى والمعوقين، أو الأستسلام والتهادن مع سلطة لا تحترم ألتزاماتها ولا تحترم وجودها كإدارة للدولة، أمام هذه الخيارات تفجرت أنتفاضة تشرين المجيدة وأمتلأت الشوارع والساحات المنتفضة بالدم، وسقط الشهداء واحدا تلو الأخر دون أن تشعر السلطة وأحزابها بالذنب أو تأنيب الضمير.
• تحول توجه الطبقة السياسية من أهتمامها بمصالحها الذاتية ومحاولة الأطباق على الواقع العراقي من خلال السيطرة على كل أجهزة الدولة وإقصاء أي صوت معارض، مستخدمة قوانين الأجتثاث أو من خلال المكائد والمؤامرات الحزبية التي تدار من داخل الإدارة، نفسها كما فعلوا مع العديد من الوزراء والمسئولين الذين لم يرضخوا أو ينصاعوا لهم، ومحاصرة ذوي الأختصاص والتضييق عليهم ليتركوا أماكنهم لمن هم أقدر على التملق ومجاراة مطامعهم، هنا تحولوا إلى أستراتيجية العصا الغليظة وقمع دموي من خلال المليشيات والعصابات المنفلتة تحت غطاء حكومي وقضائي صامت لا حول له ولا قوة، وترهيب للمؤسسة الأجتماعية والدينية مع تهادنها معهم وسكوتها المعلن بشعار نحن على مسافة واحدة بين الجميع، وأطلقت يد المليشيات للتصفية الجسدية والقتل خارج القانون والقضاء في محاولة لأمتصاص زخم الفعل التشريني المتصاعد، مع كل شهيد يسقط تتعرى العملية السياسية وتشكيلاتها وقواها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، فلا بد من خيار يقلل خسائرها ولو التضحية ببعض رموزها، فسقط القاتل الجزار عادل عبد المهدي ولكن دون محاسبة أو سؤال، ليأتوا بشخص من البطانة الخفية بوجه مدني يمكن أن يمرر بعض الإصلاحات الفوقية والترقيعية التي لا تغني ولا تشبع ولا تعالج أساس إشكالية السلطة السياسية مع المجتمع، ومنها جعله كبش فداء يمكن التضحية به بسهولة والعمل على محاصرته قدر الإمكان ليكون اللعبة المزدوجة، ومن جهة أخرى إعلانهم أن هذه الشخصية المهزوزة هي نتاج ثورة تشرين وعلى الثورة أن تتحمل كل أخطائه وإخفاقاته.
• هذا التحول والدهاء المستورد بتوجيهات خارجية لا يمثل ذكاء للطبقة السياسية ولا يمثل قدرة حقيقية للتعامل مع الأحداث بعللها وأسبابها الحقيقية، إنها إملاءات من أجل مصلحة المشغلين ووقودها الشعب وقواها الحرة الرافضة للتبعية والخضوع لمنطق القوة، لو كان للعملية السياسية شخوص وأليات فعلية تنبع من مصلحة الوطن وإرادة الشعب، لكان الأمر مختلف على الأقل درء للكثير من الخسائر التي تأكل من جرفهم دون أن يشعروا بفداحتها، حتى جاءت أنتخابات تشرين مع كل المقاطعة الشعبية لها لتصدمهم مرة أخرى من أن طريق العنف والقتل إنما هو طريق أنتحار بطيء لهم، حاولوا التشويش وأختراع الكثير من الألعاب الصبيانية التي تدل على عدم نضج وفهم لحركة المجتمع، وعن غياب وعي كامل بما يدور خارج غرفهم وأجتماعاتهم، ليخسروا المزيد من المواقع وينكشف ضعفهم وهزيمتهم التي تلوح بالأفق حتما.
• إن الفشل المتكرر وعدم وجود عقلانية وحكمة في إدارة الواقع السياسي هي أبرز ملامح المدرسة السياسية خاصة العربية منها سنة وشيعة بدون تفريق، فكلاهما يتخبط بالحلول التكتيكية القصيرة التي تؤمن حاجة طارئة لكنها لا تبني فكر ولا تؤسس لمشروع وطني، فأعداء الأمس خونة العراق كما يسمون أصبحوا بقدرة قادر رموز وطنية لا يجوز المس بها أو تجاوزها، بينما الذين كانوا بالأمس فرس مجوس وعملاء لأعداء الوطن أضحوا أيضا بقدرة نفس القادر أشقاء وأحباب وأصحاب تاريخ جهادي ونضالي حرر الوطن من الطغاة، عندما أتفقت تلك التحولات الكوميدية أصبح المحتل الأمريكي عدوا للشعب ولقواه المؤمنة بحق المقاومة والتي تصطف مع قائدة المقاومة العالمية ضد الأستعمار الأمريكي لتخليص العالم من شروره، فلا عجب أن يجتمع الذئب مع الثعلب على مائدة الوطن ليتقاسموا فضلات الكعكة التي تركتها الجارة المؤمنة بالله جدا فوق المعتاد ليخرجوا للعالم بأنهم ثوار القرن الحادي والعشرين ليطالبوا الوجود كله بدم الإسلام الذبيح.
• القراءة الأولية من كل ما تقدم يتضح منها أن النظرية السياسية العراقية ما بعد 2003 لا تمثل أي شكل منهجي أو ملامح واضحة لها، بقدر ما تمثل حالة فوضوية عبثية تتصارع من أجل أهتمامات وقضايا لا تمثل أبسط قواعد السياسة ومدارسها التي تبنى على أساس أنها تمثل إرادة وتوجهات الشعب للتعبير عن نفسه، وبصراحة القول أن هذه السياسات المتبعة مجرد إنعكاسات لواقع الصراع الإقليمي تتحكم بإدارته وتسيير شؤونه تفاعلات تلك الصراعات، وبالتالي حتى نفهم توجه السياسة العراقية الحالية علينا العودة إلى ضوابط الصراع الإقليمي وتحكماته، من هناك نعرف القادم من توقعات أو تنبؤات ما سيحدث بالعراق على كل المحاور والمجالات، فالسياسة التبعية الارتدادية الذيلية هو مجمل ما يمكننا به وصف لشكل وبنية السياسة العراقية بعد 2003.
• أخيرا لا بد من الإشارة إلى الإشكالية المعضلة في بناء الفكر السياسي للقوى اللاعبة في الوسط السياسي الحكومي أو التشريعي، وهو الخلط والتخبط بين خيارات الطائفة والدين والمذهب وحاجة السياسة إلى البرغماتية الأصولية التي لا تقدم مسلمات ولا تعتمد على خيارات ثابتة، فأرتباط القوى السياسية الشيعية بأكثر من مرجع ديني نقل الصراع بين المراجع ونظرياتهم الدينية إلى داخل العملية السياسية، فأربكوا المشهد ولم يستطيعوا البناء على وحدة المذهب، كذلك أرتباط القوى السنية بالصراع ما بين قوى تؤمن بالسلفية العقيدية وتدعمها في صراعها مع حركة الأخوان المسلمين التي تجد لها مساحة واسعة داخل الإطار السني العراقي، شتت هذه القوى خاصة بعد أستمالة الكثير منهم لإيران وأصطفافها مع حركة الأخوان المسلمين، أضافة للدعم التركي لهم وفق حسابات جيو ستراتيجية واطماع تأريخية في الأرض العراقية، عقد المشهد السني أيضا ومزق النسيج الوطني فيه نحو ولاءات خارجية متصارعة على مصالحها.
• الملخص من كل ذلك ووفقا لما بينا هو العراق أرضا ووجودا وشعبا ومستقبلا نتيجة تحكم طبقة سياسية لا تتقن فن السياسة ولا تعرف أبسط مقومات العمل السياسي السليم، إضافة إلى دور العامل الديني السلبي الذي وقف مشجعا وداعما للتحولات ما بعد 2003، أعقبها مرحلة صمت وتردد وخيبة وخشية من عنف التكتلات والميلشيات وقوة الدولة الخفية داخل بناء الدولة العراقية، هذا التردد والخوف أيضا أكل كثيرا من جرف المؤسسة الدينية التي كانت تستحوذ على أحترام عال وتقدير قطاعات واسعة من الشعب العراقي، اليوم تتلقى النقد واللوم والتجريح العلني بدون أن تحرك ساكنا أو تدافع عن موقف مبدئي أو ديني أو أخلاقي، لتورطها بعمق في الفساد المستفحل في كل جوانب الحياة العراقية، ولا يمكنها تزكي نفسها منه بعد أن أصبحت كل الأمور واضحة أمام الشعب والعالم.