القرآن محاولة لقراءة مغايرة 117


ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن - العدد: 7411 - 2022 / 10 / 24 - 18:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

إِن يَّنصُركُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُم وَإِن يَّخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذي يَنصُرُكُم مِّن بَعدِهِ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ (160)
القرآن حاول حل إشكالية ما إذا كانت نسبة الأفعال ونتائجها إلى الإنسان وإلى المسببات الطبيعية الذاتية والموضوعية، أو نسبتها إلى الله كم في هذه الآية «إِن يَّنصُركُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُم وَإِن يَّخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذي يَنصُرُكُم مِّن بَعدِهِ»، وكذلك في النصوص الأخرى التي تجعل كل شيء يجري بقرار مسبق من الله، مثل: «إِنَّما قَولُنا لِشَيءٍ إِذا أَرَدناهُ أَن نَّقولَ لَهُ كُن فَيَكونُ»، «وَما تَشاؤونَ إِلّا أَن يَّشاءَ اللهُ»، «فَلَم تَقتُلوهُم وَلاكِنَّ اللهَ قَتَلَهُم وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلاكِنَّ اللهَ رَمى»، «قُل لَّن يُّصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا». لكن الله حسب القرآن من جهة أخرى يطالب المسلمين بإعداد العدة بقول: «وَأَعِدّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ وَّمِن رِّباطِ الخَيلِ». وهذا جعل المفسرين واللاهوتيين المسلمين يذهبون مذاهب فلسفية شتى، بين من يقول بالجبر، ومن يقول بالتفويض، ومن يقول لا جبر ولا تفويض إنما هو أمر بين أمرين، وللاهوت التنزيه فهمه الخاص.
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَن يَّغُلَّ وَمَن يَّغلُل يَأتِ بِما غَلَّ يَومَ القِيامَةِ ثُمَّ تُوفّى كُلُّ نَفسٍ مّا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ (161)
الغل هو الخيانة أو إخفاء ما لا يجوز إخفاءه لتمرير شيء في مصلحة الغالّ، إذ افتقد المسلمون في غزوة بدر شيئا ثمينا من الغنائم، فاحتمل بعض المسلمين أن النبي قد استأثر به لنفسه وأخفاه عنهم، ويبدو أن بعض المسلمين كانوا ينقلون إليه ما يدور من كلام في غيابه، فانتهى إليه قولهم ذاك، فاستنزل كالعادة آية من ربه في تبرئته، حيث تنبئ الآية باستحالة أن يرتكب أي نبي مثل هذا الفعل. ومن الناحية الفلسفية المحضة، مع افتراض وجود ثمة أنبياء ورسل مبعوثين من الله، وبما أن الله لا يخطئ الاختيار، وبما أنه من الحكمة واللطف أن يختار من هو أهل لأداء هذه المهمة، من الناحيتين الذهنية والأخلاقية، وبما أنه يعلم ما تكنه الأنفس وما تخفي الصدور، فمن المنطقي ألا يختار نبيا يمارس أفعالا تتعارض مع المثل الأخلاقية. وهذا له علاقة بموضوعة العصمة، التي اختلف مفسرو القرآن ولاهوتيو الإسلام في تحديدها عموديا وأفقيا، وكان الاختلاف على أكثره وضوحا هو ما بين الرؤيتين السنية والشيعية، فالأولى هي أقرب إلى نفي العصمة مستندين إلى بعض آيات القرآن، إضافة إلى بعض سلوكيات نبيهم، فكانت نظرتهم هي الأقرب لمطابقة الواقع، بينما كانت الرؤية الثانية هي الأصح فلسفيا، رغم مخالفتها للواقع، ولما تشير إليه بعض آيات القرآن. فأكثر السنة ينفون العصمة عن نبيهم – باستثناء التبليغ - بينما ينسبونها عمليا إلى الصحابة والخلفاء وأمهات المؤمنين، لا من حيث القول بعصمتهم من حيث المبدأ، وإنما من حيث رفض نسبة أي خطأ لأي منهم، غير ملتفتين إلى أن نفي الخطأ عن إنسان ما هو القول بعصمته ضمنيا، وربما اعتمدوا نفي العصمة للنبي، لأن العصمة أصبحت من أسس الفكر الشيعي. وبعكسهم الشيعة، صحيح إنهم استندوا إلى رؤية فلسفية في العصمة، لكن أكثرهم إنما يهمهم القول بعصمة أئمتمهم أكثر مما يهمهم القول بعصمة نبيهم، ولكن بما أن النبي كما هو مفترض في عقيدتهم هو أفضل من الأئمة، فلا بد للقول بعصمته لتبرير القول بعصمة أئمة أهل البيت، ومنهم من غالى في العصمة. وحسب عقيدتهم تكون عصمة الأئمة صحيحة فلسفيا، إذا افترضنا صحة ما يعتقدونه أو يدعونه، ألا أن الأئمة قد اختارهم الله، كما اختار أنبياءه، مع الفارق بأنهم لا يوحى إليهم كما إلى الأنبياء. وبعضهم قال بالإلهام، كون الوحي خاصا بالأنبياء، كما نسبوا إليهم الكرامات، تمييزا لها عن المعجزات، الخاصة هي الأخرى بالأنبياء، وفعل مثلهم أتباع الطرق الصوفية.
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضوانَ اللهِ كَمَن باءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللهِ وَمَأواهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصيرُ (162)
فحسب العدل الإلهي لا يجوز فعلا أن يتساوى الناس في مصيرهم في ثمة حياة بعد هذه الحياة، إذا ما سلمنا بوجودها، كلازم من لوازم العدل الإلهي. وبالتالي هناك من يستحق رضوان الله وهناك من يستحق سخطه، إلا إذا افترضنا أن فريقا من مرتكبي الأفعال السيئة هم مجبرون على ذلك، وهنا يمتنع العقاب عقلا على ما هو جبري، أو يكون بمقدار نسبة عناصر الاختيار إلى عناصر الجبر، والتي لا يعلمها علما دقيقا إلا الله. وفي كل الأحوال فإن أكثر أسباب استحقاق العقاب حسب الدين، وبكل تأكيد طرق العقاب والعذاب، لا يمكن إلا أن تكون ممتنعة عقلا. فكل من الثواب والعقاب حسب تصوير القرآن، هي إما اقتباس من بعض ما ذكرته أديان سابقة للإسلام، وإما هي مما نسجه خيال مؤلف القرآن.
هُم دَرَجاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصيرٌ بِما يَعمَلونَ (163)
وهذا صحيح من الناحية الفلسفية، وفي ضوء العدل الإلهي المطلق، فالمساواة في الجزاء والمصير تبدو متعارضة مع موازين العدل.
لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِّن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُّبينٍ (164)
مع فرض صدق نبوة محمد، فمعاني هذه الآية صحيحة فلسفيا بل وجميلة. فالآية وهناك آيات مشابهة لها باللفظ والمضمون، تشير إلى المهام الأساسية للنبي المرسل، في حالة افتراض تحقق وجوده. فبما أن المضمون الداخلي للإنسان يتكون من عالمين، عالم الذهن والإدراك والفهم، ويمكن التعبير عنه بعالم (العقل)، وعالم المشاعر والعواطف، ويمكن التعبير عنه بعالم (النفس)، أو التعبير مجازا عنه بعالم (القلب). وإذا صلح هاذان العالمان صلح الإنسان وكان من المصلحين. من هنا نجد إن مهمة النبي المفترض هي التوجه إلى النفس بتزكيتها وتهذيبها وتقويمها، لتسمو إلى مراتب الألق الإنساني، ثم التوجه إلى العقل بالتعليم، وقد كان مؤلف القرآن موفقا في تقسيم التعليم إلى تعليمين، هما التعليم النظري المعبر عنه بالكتاب، والتعليم العملي المعبر عنه بالحكمة، أي بتنمية العقل النظري والعقل العملي. بعض الناس يحتاجون فعلا إلى معلمين من جهة، ومن جهة أخرى إلى مربين وواعظين، ومن الناس من لا يحتاج إلى ذلك إلا في مراحل ما قبل اكتمال الرشد، ولكن كلما زاد رشده، عبر تجربة الحياة وإعمال العقل والاستجابة لنداء الضمير، أصبح إلى حد كبير مستغنيا عن المعلم والمربي، بل قد يبلغ هو مرتبة أن يكون معلما أو مربيا لغيره. ولو إن الصحيح ألا يستغني إنسان عن أن يزداد تعلما وتنمية لعقله وتزكية لنفسه، وألا يستغني عن أن يكون متعلما ومتزكيا على يد غيره. لأن بلوغ الكمال المطلق محال للإنسان، ولذا يجب أن يكون هناك سير تكاملي ذهنيا ونفسيا، وبعض الناس تراهم عندما ينظرون إلى أمسهم وما كانوا عليه، إن كان من الناحية المعرفية والرشد العقلي، أو من الناحية الشعورية والأخلاقية، تراهم ينقدون أمسهم، ويقرون أنهم إنما كانوا في ضلال مبين، أو في ثمة قدر من الضلال، فكريا وسلوكيا.