التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 30


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 7361 - 2022 / 9 / 4 - 10:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

لجان التحقيق في عراق الاحتلال روبسبيرية, من مشتقات فائض المتعة: انها تعمل عمل مصاصة الأطفال pacifier بعد ان تحيل البالغين من أفراد الشعب الى أطفال Infantilization!

في الحلقة السابقة تطرقت الى مفهوم الشويسانس لدى لاكان. باختصار، بعرف الفيلسوف الهيغلي-ماركسي والمحلل النفسي اللاكاني فاسلاي جيجيك, أن المزيد من المتعة هو عدو المتعة: الشيوسانس!
The Varieties of Surplus
Slavoj Žižek
P. 9
https://problemi.si/issues/p2017-1/01problemi_international_2017_1_zizek.pdf
يعمل "اكتساب المتعة" أو كسب المتعة من خلال التكرار: يخطئ المرء الهدف و يكرر المحاولة مرة أخرى وأخرى، بحيث لا يكون الهدف الحقيقي هو الهدف المقصود, بل الحركة المتكررة نفسها لمحاولة الوصول إلي الهدف ستكون هي المقصود. فمثلا, في العديد من الأغاني العربية-أغاني السيدة الراحلة أم كلثوم مثال بارز, ولربما غيرها أيضا, حيث نحن, المستمعون نستمع الى, ونتلذذ ب, الكثير من آهات وتأوهات الأغنية بسبب ألم البعد عن الحبيب والشوق لرؤيته. كلما زادت شدة التألم بسبب الفراق كلما زادت المتعة كدليل على مقدار تعاظم الحب: المحب يؤكد لنفسه من خلال معاناته حبه للحبيب: المتعة هي في الاشتياق والرغبة في رضى الحبيب. المتعة هي الرغبة في اللقاء وما يصاحبها من متعة التلذذ في الرغبة الى الوصال: الم الفراق, الشيوسانس, هو المتعة. والهدف هو ليس الوصال بل الرغبة في الوصال .

بعرف جيجيك, يمكن للمرء ان يفهم الشيوسانس من حيث الشكل والمحتوى. حيث يرمز "الشكل" الى طريقة الاقتراب من المحتوى المطلوب: بينما المحتوى المرغوب (الشيء) يعد بتوفير المتعة، ويتم اكتساب متعة فائضة من خلال الشكل (الإجراء) ذاته لملاحقة الهدف: الشيوسانس يتحقق بتكرار المحاولة الى تحقيق الهدف, وليس في تحقيق الهدف: الأغاني كلها ستتوقف عن الترنم والإنشاد بتحقق الهدف لأنه ليس هنالك من آهات وتأوهات (الشكل) عند تحقق الهدف: المحتوى, اللقاء مع الحبيب.
وتحضرني بهذه المناسبة قصة إسبانية قصيرة قرأتها قبل سنوات عديدة ولا يحضرني اسم كاتبها الآن. تدور احداث القصة حول صبي من الأندلس يضل طريقة فيجد نفسه في مدينة مراكش, حيث يبدأ البحث عن العمل في اسواقها. وفي احدى المرات قادته خطاه الى محل جواهرجي, فأخذ الصبي بالتوسل بصاحب المحل للعمل معه حتى بدون اجر وفقط لتدبير لقمة العيش والمنام. تأفف الجواهرجي وامتعض من الحاح الصبي الصغير واخبره اكثر من مرة إن محله في حالة بائسة كما هو ظاهر للعيان وللكل ولا يحقق ربح وهو لا يستطيع توظيفه معاه او توفير لقمة العيش له. ولكن إلحاح الصبي كان اكبر من أن يقاومه الجواهرجي فبدأ الصبي العمل معه. تخبرنا أحداث القصة إن عمل الصبي مع الجواهرجي كان فاتحة خير للأخير فتعاظمت ثروته كثيرا خلال بضعة سنوات. وفي احدى المرات اختلى الاثنان الى بعضهما البعض فسأل الجواهرجي الشاب الآن -الصبي سابقا: "هل تعلم ما هو حلمي (رغبتي)؟" اجابه الشاب "كلا!". اردف الجواهرجي بالقول "ان رغبتي هي الحج الى بيت الله الحرام". فسأله الشاب "ولكن ما الذي يمنعك من تحقيق حلمك او رغبتك وانت الآن تملك أموال قارون؟" فاجاب الجواهرحي "اذا حققت حلمي فما الذي سيبقى لدي كي أعيش من أجله؟" الحلم هو الذي يبقيه متشبثا بالحياة, ولا معنى للحياة عند تحقق الحلم الحج أو الوصال مع الحبيب.
جيجيك يسرد مثال الرضاعة عند الطفل. في حين أن الهدف من مص الثدي هو رضاعة الحليب، فإن اللذة تتحقق من خلال حركة المص المتكررة التي تصبح بالتالي غاية في حد ذاتها. المصاصة pacifier قد تحل محل الثدي لدى الطفل لتحقيق نفس متعة التكرار . جيجيك يسرد شيئا مشابها ليس من حيث المحتوى في قصة (مشكوك فيها) عن روبسبير كثيرا ما تُذكر من قبل نقاد اليعقوبية! عندما كان أحد حلفاء روبسبير قد اُُتهم بالتصرف بطريقة غير شرعية، وطالب (مما فاجأ المقربين منه) أن تؤخذ التهم على محمل الجد واقترح تشكيل لجنة خاصة على الفور لتقربر صحة الادعاءات؛ وعندما عبر أحد أصدقائه عن القلق بشأن مصير المتهم ("ماذا لو أدين؟ ألن يكون هذا خبرًا سيئًا بالنسبة إلى اليعاقبة؟ ") ، رد روبسبير بهدوء وابتسم مرة أخرى: "لا تقلق بشأن ذلك، بطريقة ما سنحافظ على حياة المتهم ... ولكن لدينا الآن اللجنة!" اللجنة التي ستبقى تحت تصرف اليعاقبة لتطهير أعداءهم - بالنسبة لروبسبير، كان هذا هو المكسب الحقيقي من تشكيل اللجنة ليبدو وكأنه تنازل للأعداء. وهذا يذكرنا بموضوعة اللجان التي شكلتها او تشكلها الحكومات العراقية للتحقيق في قضايا فساد او قتل وجرح عشرات الألوف من منتفضي تشرين. اللجان حققت هدفا واحدا وهو اكتساب المتعة من قبل السلطة بتمييع الأمور والمراهنة على عامل الوقت وتسويف الامور الى ابد الأبدين, إضافة الى, كما في حالة اليعاقبة, لأظهار تأليف اللجان وكأنه تحقيق لمكسب شعبي: اللذة هي في تأليف اللجان وتكرار الأمر كوسيلة للوصول الى الهدف, وليس في تحقيق الهدف بكشف الجناة. السلطة تحيل الشعب الى أطفال حيث تعمل اللجان لإسكاته كما تعمل المصاصة لإسكات الطفل!

(اتباع) لاكان وماركس والماركسية
لقد تمت معالجة قراءة المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان لكارل ماركس بشكل شامل في ادبيات التحليل النفسي والماركسية, كمثال انظر
Hegemony
and Socialist Strategy
Towards a Radical Democratic Politics
https://files.libcom.org/files/ernesto-laclau-hegemony-and-socialist-strategy-towards-a-radical-democratic-politics.compressed.pdf
ERNESTO LACLAU
and
CHANTAL MOUFFE
https://files.libcom.org/files/ernesto-laclau-hegemony-and-socialist-strategy-towards-a-radical-democratic-politics.compressed.pdf
و
From Historical Marxisms
to Historical Materialism:
Toward the Theory ofIdeology
Rastko Mocnik
https://www.pdcnet.org/8525737F0058189B/file/BD43B2679D31A6FE852573CB006271D2/---$---FILE/gfpj_1991_0014_0001_0121_0141.pdf

عادة ما تكون التحليلات مصحوبة بتأملات واسعة مستوحاة من لاكان. بالطبع، هذه التأملات يمكن العثور عليها أيضًا بدون تحليلات قراءة لاكان لماركس، وهي قد استبدلت قراءة أخرى أجريت بأسلوب لاكاني. كان هذا العمل مثمرًا بشكل غير عادي في الثلاثين عامًا الماضية، وأنتج عددا لا يحصى من القراءات اللاكانية لماركس وللمفكرين الماركسيين.

أناقش في هذا الحلقة ولاحقا الطرق التي تُقرأ بها الماركسية من خلال نظرية لاكان من قبل أتباع لاكان وليس من قبل لاكان نفسه, حيث سأميز بين المقاربات اللاكانية المختلفة للماركسية وبين تأثيرات لاكان المتنوعة على الموضوعات التي تتم معالجتها. سأفحص خمسة تأثيرات إيجابية، وبالتحديد تلك الخاصة بمَشكَلة ،تأريخ وتعميم وتأكيد واستكمال ما يقرأ.
اشرح هذه التأثيرات بإيجاز عند مناقشة الأعمال الكلاسيكية في الثمانينيات من القرن الماضي و ثم بإسهاب في تقديم مقاربتي اللاكانية للماركسية. وساعرض كيف أن تحقيق مثل هذه الآثار يعني ضمنا خلق "الماركسية اللاكانية" التي أفترضها صراحةً كتاب مختلفون.

الآن، قبل معالجة موضوعة اليسار اللاكاني، دعونا نراجع قليلاً كيف تعاملت اللاكانية التقليدية, التي عادة ما تكون يمينية أو يفترض أنها غير سياسية, مع ماركس والماركسيين.

المحلل النفسي اللاكاني التقليدي على دراية ببعض "أخطاء" الماركسية على الأقل, حتى أنه قادر على قراءتها من الذاكرة. ماركس والماركسيون كانوا مخطئين في تأجيل الرغبة وتحويلها إلى قضية ما بعد الثورة، لتخيل أن المشكلة كانت الرأسمالية لا اللغة وسخطها لحساب الفائض الذي لا يحصى للمنعة وبالتالي بتحويله إلى فائض قيمة، لتفسير الأعراض كعلامة وليس كدالة، الفشل في رؤية الثورات كعودة إلى نقطة الانطلاق والاعتقاد بأنهم يتطلعون إلى الحرية عندما أرادوا سيدًا، وأن يظلوا اسري خطاب السيد: الشيوعيون وما يسمى المدنيون والديموقراطيون وغيرهم في عراق العملية السياسية هم اسرى خطاب السيد. انهم فقط يسعون الى تجميل السيد واستخدام كل مساحق التجميل لأظهاره بأبهى صورة, وافضل مساحيق تجميل لديهم تستحصل من الرؤوس المفلوجة والأطراف المبتورة. واللجان المقترحة للتحقيق هي روبسبيرية ومن تبعات فائض المتعة.

ولكن كيف يعرف اللاكانيون التقليديون أخطاء الماركسية على هذا النحو؟ من الواضح أنهم لم يكتشفوها بأنفسهم، لكنهم تعلموها من لاكان، أو ربما من اللاكانيين التقليديين الآخرين الذين كرروا مرارًا وتكرارًا ما تعلموه من لاكان. ومن بين ما تعلموه دائمًا هو أخفاقات ماركس والماركسيين وليس نجاحاتهم، وفقا لمعيار انتقائي الذي قد يكشف عن فكرة واحدة وفريدة من نوعها، التي فحواها إن الماركسية ضرورة خاطئة.
يتبع