أشقائي … شهداء كنيسة -أبو سيفين-


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7347 - 2022 / 8 / 21 - 10:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

عقودٌ طوالٌ من التعنّت غير المبرر في بناء الكنائس وترميم المتهالك منها، أورثنا ثمارًا مُرّة، كان آخرها فاجعة كنيسة أبو سيفين بالمنيرة التي أودت بأرواح بريئة كانت تصلي في بيت من بيوت الله. عهود سابقة طوال كان فيها بناء كنيسة جديدة بمثابة عمل أسطوري من الخيال العلمي، يستوجبُ موافقاتٍ وتراخيصَ خرافيةً طولها كطول الكمد، وكأنها تصاريحُ لبناء مفاعل نووي شديد الخطورة! وغالبًا يتعطل البناءُ في اللحظة الأخيرة بسبب موظف صدّق تاجر دين يكره أن يُعبدَ الله إلا من خلاله، بينما يقول ربُّ العزة: “ولو شاءَ ربُّك لجعلَ النَّاسَ أمَّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين" هود-١١٨. ترميمُ جدار متهالك في كنيسة، إصلاحُ ماسورة مكسورة تُصدّع الحوائط بنشع الماء، إعادةُ تثبيت منارة تُنذر بالسقوط، أو حتى تغيير جلدة صنبور تالف، تستوجب موافقةً موثقة ومختومة من رئيس الجمهورية شخصيًّا!!!! فتصوروا حجم العسر في بناء كنيسة جديدة مرخصة! ضربُ مستحيل! وأشقاؤنا المسيحيون يريدون الصلاة والتعبد وإقامة شعائرهم الدينية، شأنهم شأن جميع البشر! شأننا نحن المسلمين حين نشيد المساجد والزوايا حتى نُعمّرها بالصلاة والعبادة ومناجاة الله. بعضنا يبني المساجد تقربًا لله وطمعًا في رضوانه، وبعضنا يبنيها أسفل العمارات الشاهقة حتى يُعفى العقارُ كاملا من الضرائب! وماذا يفعل المسيحيون في ظل هذا العنت غير المبرر؟ يلجأون إلى بناء كنائسهم داخل عمارات قديمة لا تحقق شروط السلامة للتجمعات الكثيفة أثناء إقامة القداسات وفي الأعياد الدينية ومدارس الأحد والحضانات التي تضمُّ مئات الأطفال والنشء الصغير. فتحدث الفواجع مثل حريق كنيسة "أبو سيفين" التي صدّعت قلب مصر وجعًا على أبرياء معظمهم من الأطفال حوصروا بالنيران داخل جداران الكنيسة القديمة بعدما انفجر مولّد الكهرباء العتيق، فمنهم من ألقى بنفسه من الدور الرابع ليلقى حتفه على أسفلت الشارع الضيق، ومنهم من اختنق بسحب الدخان الكثيف وأسلم روحه إلى بارئها.
ونحن الآن في "الجمهورية الجديدة" في عصر جديد راق متحضر. عصر مَنَّ اللهُ علينا فيه برئيس سويّ مثقف العقل نظيف القلب لا يغازل قوى الرجعية ليكسب شعبية زائفة على حساب الوطن. رئيس قوي يؤمن بأن قوة الوطن لا تتأتى إلا بالعدل بين أبناء الوطن، وعدم محاباة فريق على حساب فريق. رئيس يضرب بحسم على يد المتطرف الآثمُ قلبُه الذي يفجرّ الكنائس أو يعطل بناءها وترميمها لغرض خبيث في نفسه. قال الرئيس السيسي في أحد لقاءاته: “أنت زعلان ليه لما تشوف كنيسة وأنت مسلم؟!! عشان كده احنا عملنا ممارسات فعلية تؤكد احترامنا لعقائد كل الناس. وبقول الكلام ده من منظور ديني، مش بس من منظور حضاري وثقافي وفكري” هذا هو رئيسنا المحترم الذي أعلن منذ يومه الأول في الحكم أنه رئيس لجميع المصريين على اخلاف عقائدهم، بالفعل لا بالكلمات البراقة، فدخل الكاتدرائية في عيد الميلاد عام ٢٠١٥، في سابقة رئاسية حضارية لم يفعلها من قبله رئيس آخر. إنه الوعي، أهم قضايا حقوق الانسان في مجتمعنا. محاربة التدين الزائف الذي ينتهج الإقصاء وكراهية الآخر المختلف عقديا. وعلّ تلك الفاجعة تكون سببًا لمراجعة صيانة جميع الكنائس القديمة وتركيب أجهزة إنذار حريق تتصل مباشرة بوحدات المطافئ، فيكون ذلك هو اليسرَ في العسر: “إن مع العسر يسرًا"، وأما اليسرُ المشرق في تلك الفاجعة المروعة فظهرت في تلاحم الشعب المصري في المحن وهي سمة المصريين منذ منشأ الحضارة. فهذا شيخُ الأزهر الشريف، الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، يفتح مستشفيات جامعة الأزهر لاستقبال المصابين في حريق "كنيسة أبو سيفين”، ويصدر قراره بصرف إعانات نقدية عاجلة لأسر المتوفين. وأما معدن الشعب المصري الأصيل فقد تجلّى بوضوح على صفحات التواصل الاجتماعي التي ضجّت بتغريدات الحزن والرثاء لشهداء الكنيسة الذين استشهدوا وهم صائمون يناجون الله في عيد أطهر نساء العالمين، عليها وعلى ابنها السلام. وأما على أرض الواقع فكانت الصورة أنصع وأجمل وأفعل. هرع الجيرانُ من كل صوب إلى الكنيسة لإخماد النيران وإنقاذ الضحايا، ومنهم من ألقي بنفسه في لهيب النيران لإنقاذ أطفالنا من الاختناق في الكنيسة، مثل السيد: "محمد يحيى" وغيره الكثير. «مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمّى.”
رحم الله القسَّ الأب عبد المسيح بخيت الذي استشهد في الحريق قائلا: لن أخرج إلا مع خروج آخر طفل وآخر مُصلٍّ من الكنيسة. فلقى وجهَ ربه في قداس عيد السيدة العذراء مريم، عليها وعلى ابنها السلام. رحم الله أشقاءنا شهداء كنيسة أبو سيفين، وأرخى بالصبر والسلوان والعزاء على قلوب ذويهم.


                                               ***