ماذا علَّمني أبي … وأبي؟


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7343 - 2022 / 8 / 17 - 12:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

هذا أبي… علمني أبي أن أختصمَ، ولا أكره. أن أختلفَ في الرأي، ولا ألعن ولا أبغض. أن أساجلَ خصومي فكريًّا، ولا أدعو على أحد بالموت والويل والعذاب. علمني أبي ألا أتمنى الشرَّ لأي كائن حيّ، حتى لو آذاني أو ظلمني. علّمني أبي أن القوة في العُلوّ والتسامي والتسامح، لا في التصاغر والتدنّي والانتقام. علمني أن أقولَ: "سلامًا" لمن لا يستحقُّ المجادلة. علمني أن أكون من "عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". علمني أن أساجل الأقوياء وليس الضعفاء والموتى. الضعافُ ليس لهم إلا المساعدة، والموتى ليس لهم إلى تمنّي الرحمة والمغفرة. علّمني أبي أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله، وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا. علمني أن من يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخر بأن " جهاز الكراهية" في داخلي مُعَطلٌ ولا أسعى لإصلاحه. ولم أقبض علي نفسي أبدًا متلبّسةً بالدعاء على أحد، مهما ظُلمت. فقط أدعو بأن يفصلَ اللُه بيني وبين الظالمين وأن يكشف كيدَ الكذبة المنافقين.
هذا أبي المتصوف الجميل الذي حلّت ذكرى رحيله أمس الأول في ١٣ أغسطس، رحمه الله وأحسن مقامه. وغير أبي الجميل هذا كان لي العديد من الآباء الروحيين الذين تعلمت منهم الكثير مما لا نتعلمه على مقاعد المدرسة. منهم الفنان الجميل المثقف، والمتصوف أيضًا "سمير الإسكندراني" رحمه الله. ومن مفارقات القدر العجيبة، أن يرحل "أبي الروحي" في نفس يوم ذكرى رحيل أبي الحقيقي؛ فيتحوّلُ وجعُ اليومِ إلى وجعين، وأفقدُ أبي في اليوم ذاته، مرتين. في ١٣ أغسطس من كلّ عام أتذكّرُهما معًا، ولا أدري عمَّن أكتبُ. فكلاهما غالٍ وكلاهما مُعلِّم، وكلاهما أبٌ، ولكليهما يدٌ بيضاءُ فوق هامتي. تعلّمتُ منهما أن الإنسانَ كلما نضج فكريًّا وروحيًّا ومكانةً، صار أكثر رهافةً وقدرة على الحبِّ والتسامح والعلوّ. “سمير الإسكندراني" صاحب إحدى أعظم الحناجر في هذا الكون، شدا في حبِّ مصر بخمس لغات: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، اليونانية، مازجًا النغمَ الشرقي بالغربي في ضفيرة أنيقة، بحنجرة عزَّ نظيرُها؛ فكان المطربَ والكورالَ والمؤلف الموسيقي والموزّع، في آن. كان الإسكندراني جبلا هائلا من المواهب والعبقريات. وإلى جوار تلك المنح الإلهية، كان فارسًا وطنيًّا يعشقُ مصرَ ويفتديها بالعزيز الأكرم. لهذا رثته المخابراتُ المصرية المحترمة يوم رحيله في جريدة "الأهرام" بكلمات خالدة راقية: “… الفنان سمير الاسكندراني الذي قدّم لوطنه خدماتٍ جليلةً جعلت منه نموذجًا فريدًا في الجمع بين الفنّ الهادف الذي عرفه به المصريون، وبين البطولة والتضحية من أجل الوطن.”
قبل رحيل "سمير الإسكندراني" عام ٢٠٢٠، أوصى أن يُصلَّى عليه في "مسجد السيدة نفيسة" رضي الُله عنها. فقد كان لنفيسة العلم، كريمة الدارين، عاشقةِ مصرَ والمصريين، مكانٌ ومكانة في قلبه، مثلما في قلوب جموع المصريين. قُبيل الصلاة عليه، وقفتُ أمام نعشه أقرأ الفاتحة وبعضًا من كلماتٍ تطمئنُ بها القلوب، أنهيتُها بسورة "الفجر": "يا أيتُها النفسُ المطمئنة ارجعي إلى ربِّكِ راضيةً مرضية، فادخلي في عبادي وادخُلي جنتي"، ثم غلبني البكاءُ، فإذا بصوته يشدو: “يا غُصنَ نقَا مُكلّلاً بالذهبِ، أفديكَ من الردَى بأمّي وأبي." جفلتُ، ونظرتُ إلى نعشِه فإذا الجثمانُ الطيّبُ مُسجًّى في كفنه الناصع صامتٌ لا يغني. جاء صوتُه الشجيُّ من هاتفي. لأن أغنياتِه هي نغماتُ رنين هاتفي الدائم منذ سنواتٍ.
هذا "سمير الإسكندراني" الذي عشقه المصريون مطربًا فريدًا، وبطلا قوميًّا عرّض نفسه للتهلكة، حين تحدّى جهاز الموساد الصهيوني من أجل مصر، وهو بعدُ طالبٌ في كلية الفنون الجميلة. حاولتْ إسرائيلُ تجنيدَه جاسوسًا على مصر مقابل ثروة من المال والمغانم، فداسها بحذائه وأخبر الرئيسَ "جمال عبد الناصر”. وصدر قرارُ جهاز المخابرات المصرية بأن يتجاوب مع الموساد ويجاريه؛ لكي نُحبِط أعمال الصهاينة. وبالفعل، استطاع "سمير الاسكندراني" بذكائه وثقافته ووطنيته أن يصفع الموسادَ صفعةً تاريخية لا تُنسى. فكرّمه الرئيسُ جمال، في ستينيات القرن الماضي، ومنحه لقب: “ثعلب المخابرات المصرية". وصنع بهذا نموذجًا للفنان البطل؛ الذي لم يكتفِ بالتعبير عن حبه لمصر بالغناء بصوته الذهب، بل أقرنَ الشدوَ، بالفعل الوطني الخطِر، وهو شابٌّ في مقتبل العمر لم يُكمل العشرين.
أناشدُ الرئيسَ العظيم "عبد الفتاح السيسي" بتكريم اسمه بوسام وطنيّ يليقُ بتاريخه المخابراتي الرفيع، وإطلاق اسم "سمير الاسكندراني" على أحد شوارع القاهرة، وعلى أحد مدرجات "كلية الفنون الجميلة" التي تخرّج فيها ودرَّس. رحم الله أبي وأبي وأحسن مقامهما.
                                               ***