في وداع سيد الشعراء العرب مُظفّر النوَّاب ، قصيدة : -صُرّةُ الفقراءِ المملوءةِ بالمتفجراتْ- ، وَصْفٌ وترجمة 1-2-3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7313 - 2022 / 7 / 18 - 22:36
المحور: الادب والفن     

وصف القصيدة
يقدِّم الشاعر لموضوع قصيدته بهذا النص الموجز و المعبر :
""أبو مشهور مقاتلٌ فلسطيني ، قاومَ في مذابح الأردن ، ورفضَ أن ينسحب ، وماتَ بظروف غامضة بعد ذلك . في "أبو مشهور" فردٌ ورمزٌ في القصيدة ."
إذاً ، فموضوع القصيدة هو قصة ذلك المناضل الفلسطيني الحر الصلب المؤمن بقضيته و الذي يعرف الطريق الصحيح المؤدي لها عبر المقاومة المسلحة ، فيبقى متمسكاً بها بأي ثمن ، حتى لو اقتضت ضرورة الثبات على شرف الموقف المقاوم الجود بالنفس على مذبح الثورة للظفر بالحرية : الموت ثابتاً في الموقع و لا الانسحاب . و عبارة "مذابح الأردن" تشير الى مذابح "أيلول الأسود" التي اقترف جرائمها صنيعة الغرب ، الملك حسين بن عبد الله ، غدراً ضد الفدائيين الفلسطينيين الأبطال عام 1970 ، و التي راح ضحيتها بكل خسة و نذالة مالا يقل عن 5000 بطلاً فلسطينياً أعزل ، ناهيك عن عشرات آلاف المصابين . أما عبارة "مات بظروف غامضة" فتستحضر الشهادة بفعل الغدر الخفي المبيت للإنسان لأخيه الانسان . و يردف الشاعر هذا الايجاز بالقول : " في "أبو مشهور" فردٌ ورمزٌ في القصيدة " لتثبيت كون الشهيد أبا مشهور – علاوة على بطولته الشخصية في مطاولة الظلم حتى النفس الأخير – إنما هو الرمز لكل شهداء الثوار طوال القرن العشرين في كل أرجاء العالم ممن جادوا بأنفسهم بكل نكران ذات فاستحقوا مجد البطولة ، وإن لم يحفلوا بالشهرة قيد شعرة ، و بقيت أسماء أكثرهم شبه مجهولة ، إلا في الذكريات العزيزة المختزنة بضمائر رفاقهم و معارفهم ، و التي ما تلبث أن يمحوها في غياهب النسيان تقادم الأزمنة. و ينم اختيار الشاعر لكنية "أبو مشهور" عن التوكيد بأن أعظم شهداء الثورات ضد الظلم عبر التاريخ إنما هم من ذوي الأسماء المجهولة ، لذا فهم الأحق من غيرهم بهذه الكنية المعبرة عن حقيقتهم و ما يجب أن يكون ، عكس تجليات الوقائع اليومية المشهودة في الصراع القائم بين أنصار الحرية و العبودية و الذي يشعل أواره و يموت دونه الشجعان و غالباً ما يقطف ثمار شهرته الانتهازيون و الخونة .
تتألف القصيدة من أحد عشر مقطعاً شعرياً متنوع الطول ، منظوماً على البحر الكامل (بتكرار تفعيلة "مُتَفاعِلُنْ" ست مرات) التام و المضمور ("مُتَفاعِلُن" تصبح : "مُسْتًفْعَلُنْ"). و من المعروف أن الكامل هو أحد أجمل و أغنى البحور الشعرية العربية بموسيقاه ، لكونه الوحيد الذي يحتوي على ثلاثين صوتاً متحركاً ، أي أنه أكثر حركات من كل بحر آخر ؛ كما أنه أسلسها في التطويع لمقتضيات التعبير الشعري لتعدد تنويعاته. ومن الجدير بالذكر أن العديد من الأناشيد (مثل النشيد النبوي : طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيـات الوداع) منظومة على هذا البحر لجمال ايقاعه .
و لا يحفل الشاعر في هذه القصيدة – كما في العديد من قصائده الأخرى المنظومة بالعربية الفصحى – بالقافية كثيراً ، و إن يحرص على قفل مقطعه الستة الأولى و المقطع التاسع بقافية الألف المتبوعة بالهمزة المسكَّنة : (الأسماء ، الأسماء ، العرجاء ، بدون حياء ، الفقراء ، الشهداء ، الصحراء) ، فيما يقفل بقية المقاطع الأربعة بحرف الروي الممدود (أخرى ، كبرى ، بتربتها ، بتربتها) .
ينص المقطع الأول للقصيدة على :

"أفَلَ الليلُ ،
وَقبرُكَ في الأُفُقِ الشرقيِّ يُوازي الشمسَ ،
يُوازي همَساتِ السَّعفِ ،
وَثمةَ طيرٌ منكفئٌ تَدفعُهُ الريحُ ،
ورأسُكَ في الطينِ الباردِ ساكنةٌ
ترتاحُ إلى حَجَرٍ أرحَمَ من هذي الدُّنيا وسفالتِها ـ
فالعالمُ آلةُ إيذاءْ .
لا تتغيرُ بعد الآنَ ، ولا الأرضُ ،
فإنَّكَ بالاسمِ الأولِ أحلى الأسماءْ ."

يقدَّم هذا المقطع – مثلما يحصل في مستهلات النصوص الدرامية و القصصية – لزمان و مكان الحدث : قبر الشهيد وقت الفجر وهو يوازي الشمس الطالعة و همسات سعف النخيل ، فيما الريح تدفع الطير المنكفئ . هذا المشهد الرهيب يماهي قبر الشهيد مع طلوع الشمس و همس السعف و انكفاء الطير المحلق في الريح : ثلاثة رموز متضاربة في ثلاثة مصاريع شعرية متتالية . أولهما يذكرنا بتجدد الحياة رغم الموت، وثانيهما بخلودها ، وثالثهما بانكفائها القدري ضد الأحرار . ثم يتحول للقبر المجهول للشهيد ، فيصف رأسه الساكنة في الطين البارد على حجر هو أرحم من هذه الدنيا . الطين البارد و الحجر الأصم (الطبيعة) هما أرحم من الدنيا و السبب في هذا تعلنه بعدها مباشرة الجملة الضربة : "العالم آلة إيذاء" بفعل ظلم الانسان لأخيه الإنسان . و مادام الشهيد قد مات و ارتاح من ظلم هذه الدنيا ، فلن يصيبه المزيد من الأذى بمقامه الأخير هذا لكون الطين و الحجر غير مؤذيين كالبشر ، و سيبقى معروفا بإسمه الأول "أبو مشهور" الذي هو أحلى الاسماء لشهيد مغدور مجهول القبر . الشاعر هنا يواسي الشهيد و يعظمه .
يلاحظ في هذا المقطع الاستهلالي – مثل كل أشعار سيد الشعراء العرب مظفر النواب – مبلغ ضبط الشاعر لموسيقاه الشعرية و حرصه على رسم الصور الفية الجديدة و على صياغة الجمل و التعابير المكتنزة بالمعاني المستحدثة في الشعر العربي . و سنرى كيف سيحلق الشاعر ببطله هذا من القبر الى عوالم ملحمية لبطولات تحبس الانفاس قبل أن يعيده مرة الى جدثه .

يتبع ، لطفا .