7- البلطجة الرسمية وثقافة الغباء الجمعي


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7312 - 2022 / 7 / 17 - 16:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

في مخطوطة مصرية قديمة تعود إلى عام 1861م، تتكون من 56 صفحة بعنوان: "تعليم البلطجة" كتبها أحمد أفندي العلمي، توضِّيح المنهج النظري الذي كان يُدرَّس لطلاب فرقة عسكرية في جيش الاحتلال التركي العثماني. وفيه إشارات تلمِّح إلى أن مؤلفه الأصلي فرنسي، وعاش في القرن التاسع عشر. وتكشف المخطوطة عن أنَّ ”البلطجة“ كانت واحدة من الوظائف النبيلة في الواقع العسكري المصري، ومن قبله في الدولة التركية العثمانية، إذْ كان لقب "البلطجي"، يُطلَق على أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة، تكريماً لهم وتشريفاً على أدوارهم العسكرية، ولم يكن يطلق على الأشقياء المستهترين الذين يجورون على حقوق الضعفاء، كما هو الحال الآن. راجع المقال التالي:
https://www.alaraby.co.uk/%22البلطجة%22-وظيفة-تاريخيَّة
تتكون الكلمة من قسمين: "بلطه"، وهي أداة حادة معروفة لها ذراع خشبية تستخدم أساسًا في تقطيع الأشجار، وقد تستخدم أيضا في القتال. و"جي" وهي أداة لغوية تركية الأصل نسبة إلى الحرفة؛ فيكون البلطجي هو حامل البلطة، والمختص باستعمالها. وذلك كما في كلمات أخرى مثل: ”القهوجي“ عامل القهوة، و“الجزمجي“ صانع الأحذية و”البوهجي“ الدهَّان مستعمل البوية أو (البوهية بالعامية) وكذلك ”العربجي“… إلى آخره. ويبدو أنَّ البلطة وهي تشبه من حيث الشكل والاستعمال الساطور، كانت إحدى أسلحة المواجهة المباشرة بين الجيوش قبل المواجهة عن بعد بالرصاص والقنابل والمدافع والألغام وخلافه.
تغيَّر مفهوم البلطجة في الوقت الراهن، نتيجة لتغيُّر استعمالها من قبل الأشقياء والمرضى النفسيين وغيرهم، فغدت كلمة منبوذة، تمثل مشكلة خطيرة ذات عواقب سلبية على المجتمع، وأصبح البلطجي هو من يميل إلي القيام بسلوكيات جانحة وشاذة عن القانون والأعراف الاجتماعية، ويجعل أفراد المجتمع يشعرون بالضيق وفقدان تقدير الذات وعدم الأمان، بيد أنها ليست ظاهرة مستقلة عمّا يعتري المجتمع من تغيرات جذرية، فهي نتيجة حتمية لحدوث متغيرات سياسية واقتصادية وثقافية في المجتمع، وتراكمت على مدار سنوات وسنوات. في عام 1937، أصدرت الدولة المصرية قانون العقوبات رقم 58، الذي يعرِّف البلطجة بأنها: الأفعال التى من شأنها الترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة. وحدد العقوبات الناتجة عن هذه الأفعال، وجاء في نص المادة 375 مكرر: « يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من قام بنفسه أو بواسطة الغير باستعراض القوة أو التلويح بالعنف أو التهديد بأيهما أو استخدامه ضد المجنى عليه أو مع زوجه أو أحد أصوله أو فروعه، وذلك بقصد ترويعه أو التخويف بإلحاق أي أذى مادى أو معنوى به أو الإضرار بممتلكاته أو سلب ماله أو الحصول على منفعة منه أو التأثير فى إرادته لفرض السطوة عليه أو إرغامه على القيام بعمل أو حمله على الامتناع عنه أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو التشريعات أو مقاومة السلطات أو منع تنفيذ الأحكام، أو الأوامر أو الإجراءات القضائية واجبة التنفيذ أو تكدير الأمن أو السكينة العامة، متى كان من شأن ذلك الفعل أو التهديد إلقاء الرعب فى نفس المجنى عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو إلحاق الضرر بشىء من ممتلكاته أو مصالحه أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره».
حسنًا، لنترك القوانين جانبًا، خاصة تلك التي تشكل غابة سوداء وقد أُعِدَّت في العقود الأخيرة بشكل سيء، لأغراض خاصة أو بناء على أهواء شخصية، أو من باب الرفاهية والمنجهة (من فاكهة المانجو أو المانجة بالعامية) أو كديكور للتباهي أمام الأمم، وفي الغالب، لتطبيقها على البسطاء والمغفلين وقليلي الحيلة وحدهم، لننظر في أسباب انتشار وباء البلطجة بين المصريين، وظهوره بشكل واضح وجلي في المجتمع برمته.
في التسعينات من القرن الماضي كان الإرهاب الإسلاموي يضرب مصر في جميع الاتجاهات، فكتب الكاتب الكبير نجيب محفوظ في 11 يوليو 1994، في جريدة الأهرام اليومية تحت (وجهة نظر) بعنوان: أسرة الإرهاب“، يقول:
« لعل أبسط تعريف للإرهاب هو استعمال القوة غير المشروعة في سبيل الوصول إلى غاية ما، إن صح هذا التعريف فليس الإرهاب المعروف هو الإرهاب الوحيد الذي يمارس في المجتمع، كل ما يتحقق بالقوة لا بالقانون أو الشرعية فهو نوع من الإرهاب. والقوة لا تعني الرصاص والقنابل فحسب فهناك أيضًا قوة النفوذ والقرابة والحزب والأسرة والطائفة والدين، فيمكن القول بأن أية قوة تستعمل لخرق الشرعية أو تخطي القانون فهي إرهاب، ويجب أن نعتبرها كذلك، وأن نضعها في كافة واحدة مع الإرهاب الذي نطارده صباح مساء. فالوصول إلى السلطة قد يكون نتيجة جهاد مشروع أو ثمرة لعنف إرهابي. وشغل الوظائف العامة قد يكون بحسب المجموع أو من خلال امتحان نزيه وقد يعتمد على قوة النفوذ والواسطة أي على الإرهاب . والصفقات التجارية قد تعتمد على قوانين السوق وقد يتحكم فيها النفوذ والرشوة وغير ذلك من وسائل الإرهاب الاقتصادي. وعلى هذا النحو تجري الخدمات ، فانظر إلى ما يقع في الطريق والمستشفى والمواصلات والمصالح الحكومية، هل تتم المعاملة وفقًا لنظام ثابت شامل لا يفرق بين شخص وآخر أم أنه يفتح ذراعيه بحرارة الترحاب لأناس ويصب على الآخرين عذاب المعاناة بغير حساب؟»
ويواصل قوله: « بعد هذا التمهيد فإنني أدعو كل قارئ لتأمل ما يحدث في مجتمعنا وليحكم بنفسه أهو مجتمع قانوني شرعي أم مجتمع إرهابي.
وأظنك تتفق معي على أن أولى درجات الحضارة أن يتحول المجتمع من جمع يقوم على الغريزة والقوة إلى مجتمع يحيا في ظل القانون والشرعية ليحقق الحرية والعدل»
ما يعنيه نجيب بأسرة الإرهاب كان واضحًا تمامًا، ولذلك، وبعد أربعة أشهر - فى 14 اكتوبر 1994 - جرت محاولة لاغتياله في الشارع، وقالت الطغمة الحاكمة آنذاك بأن الفاعل متطرف دينى، بعدها توقف نجيب عن الكتابة في الجرائد الحكومية أو غيرها!
بالطبع لم يكن يخطر بفكره وهو يكتب عن أسرة الإرهاب آنذاك أن يتضخَّم إرهابها في يوم ما، ويتحول إلى بلطجة حكومية متعمَّدة وممنهجة. هذه البلطجة تعد أسوأ أصناف الإرهاب على الإطلاق، إذ أنها عمل معدٍ، تسقط بسرعة من المستويات العليا في الدولة إلى السفلى، ويتحول جميع المسؤولين - إلَّا من رحم ربك - إلى بلطجية يتلقون رواتبهم الشهرية من أموال الشعب لإرهاب الشعب بدلا من خدمته. ويصبح الموظف الأدنى مجرد أداة قمع وبلطجة لصالح المسؤول الأعلى منه؛ والذي أطلق يده لإخضاع وتركيع المواطنين مقابل توفير الحماية له، والوقوف معه عندما يستدعي الأمر ذلك... وبمرور الوقت وتكرار أعمال البلطجة يصاب الموظف البلطجي بحالة نفسية أقرب إلى لإدمان، ويصبح شخصية سادية تتلذذ بتعذيب المواطنين، ولا تتحقق نشوته ، إلا بالنجاح في إخضاعهم وتركيعهم من خلال العنف المادي أو اللفظي .. فلا يجد المواطن العادي من ناحيته سوى ممارسة البلطجة مع منَ حوله قدر إمكانياته، ليفلت بنفسه من بلطجة الحكام. وبذلك يتم التزاوج بين البلطجة الرسمية والبلطجة الشعبية لحساب القادة والزعماء المستبدين وقطاع الطرق المستفيدين.
البلطجة في مصر محصلة حتمية لثقافة الغباء الجمعي الطاغية على جميع مناحي الحياة، وأداة في نفس الوقت لترسيخها وإطالة أمدها. قد تتواجد البلطجة في كثير من الدول وبدرجات متفاوتة كأحد مقومات الفساد، ولكنها في مصر أخذت منحًى تصاعديًا بدرجة مخيفة، وأضحت سلوكًا متصلًا ومتوارثًا على جميع المستويات، نتيجة لتحالف السلطتين الفاشيتين العسكرية والدينية الإسلاموية منذ يوليو 52، مما يشير إلى خلل في توازن القوة والسلطة في تعاملهما مع الشعب، نتيجة لجهل الحكام وعجزهم عن معالجة هذا الخلل. يقول الخبراء: « إذا كان لديك حيوان تقوم بضربه باستمرار، منذ الصغر وحتى بعد الكبر، فالنتيجة هي أن هذا الحيوان سينظر إلى كل من يقترب منه على أنه معاد له»، هذا يفسر مدى كراهية المواطنين للحكومة وللممتلكات العامة بوصفها (مال حكومة)، رغم أنها من أموالهم. هذا هو حال المواطن الذي يتعرض يوميًا للبلطجة الرسمية، فهو ينظر إلى الآخرين نظرة سلبية، إلى درجة أن مجرد رؤيته للذين يرتدون زيًّا رسميا، تجعلهم بالنسبة له أعداءً محتملين، وطالما يتعرض للإيذاء عبر حياته، فإنه يعيش مجردًا من أية صورة إيجابية تجاه المجتمع، ومن ثَمَّ تزيد احتمالات التقوقع على ذاته ويصبح شخصية غير مبالية، ومصابة بالبلادة، فمعظم الصغار الذين يتعرضون للمتاعب وهم كبار، كانوا قد تعرضوا أصلاً للإيذاء وهم في الصغر. هذا ما كشف عنه الجنرال السيسي ضمن أقواله الارتجالية: « حينما كنت صغيرا كان الأطفال الآخرين يضربوني، ولكني كنت أصبر حتى أكبر وأكون أقوى منهم وسأضربهم جميعا». وبالفعل يضرب الآن بيد من حديد كل من يعارضه أو يحتج على ممارساته ولو بكلمة واحدة، بداية برجل الشارع العادي إلى أكبر رجال النخب المختلفة في المجتمع، الجميع دون استثناء لا يسلمون من قبضته الحديدية!
كتب الأستاذ محمد أحمد طنطاوي مقالا قصيرًا في جريدة اليوم السابع بتاريخ 21 أكتوبر 2019، يحذر فيه من أن ”جرائم البلطجة لا تقل خطورة عن الإرهاب“:
https://www.youm7.com/story/2019/10/21/جرائم-البلطجة-لا-تقل-خطورة-عن-الإرهاب/4467569
ربما لم يطَّلِع أحد على هذا المقال، ومن المؤكد أن أحدًا لم يستمع إلى ما يقوله، ولم يتجاوب أحد مع تحذيره، وذلك لأن البلطجة في الأساس تتبانها الدولة، فالعسكر بقيادة هذ الحاكم بأمره حولوا بامتياز دولة القانون إلى دولة للبلطجة الرسمية، وبشكل يندر حدوثه في تاريخ الدول، وذلك كوسيلة بدائية لإدارة الغضب، الناجم عن الخوف من الشعب والجيش والعجز عن العمل السياسي الرشيد. لم يجدوا وسيلة سوى التسلط ولوم الآخرين، وازدراء المواطنين، والنظر إليهم على أنهم فريسة سهلة ضعيفة، لتحميلها مسؤولية فشلهم، مما يزيد من ارتفاع معدلات السلوك الإجرامي وارتكاب أفعالاً خارجة عن القانون من قبل المواطنين.
وكان الأستاذ دندراوي الهواري قد كتب من قبل في جريدة اليوم السابع بتاريخ 08 فبراير 2017، تحت عنوان: «ونقول تانى وثالث.. «دولة البلطجية» أخطر على مصر من «دولة الإرهاب»»!، محذرا من تغول وتضخم دولة البلطجية داخل المجتمع، وهو لا يقصد بالضرورة البلطجية الرسمية للدولة، ولكن يستشف من كلامه تواطؤ الجهات الأمنية مع الجرائم التي تجري« أمام عيون أمناء الشرطة » مما « ترتب عليه تنوع جرائم البلطجة»، «تحت علم وبصر رجال المباحث، وصمتهم الذى يصل إلى حد التواطئ» بحد قوله:
https://www.youm7.com/story/2017/2/8/ونقول-تانى-وثالث-«دولة-البلطجية»-أخطر-على-مصر-من-«دولة/3092832
وإن كان يعرف أن صمتهم يصل إلى حد التواطئ مع جرائم البلطجة، فهو بالتأكيد يعرف أيضا، أنهم هم المخططون للكثير منها أو مشاركين فيها، ولكنه لا يستطيع أن يقول ذلك صراحة، خاصة وأن البلد جميعها أصبحت تعاني من الامتزاج والتناغم بين البلطجة الرسمية والبلطجة الشعبية.
البلطجة الرسمية للدولة تنتهج أساليب متعددة، منها: الأسلوب الشفهي الذي يوصم بعض الفئات الاجتماعية مثل الإخوان المتأسلمين وغيرهم بصفات محطة بالكرامة، وجعلهم موضع سخرية، ووضعهم في السجون بتهم مفبركة، ومنها البلطجة بتهديد غير الموالين للعسكر ومحاولة إخضاعهم لسيطرتهم دون قيد أو شرط أو إجبارهم على فعل أشياء لا يرغبونها، وعزلهم أو إقصائهم بشكل ما أو تصفيتهم جسديا. وهناك البلطجة البدنية، مثل: الضرب والركل، والدفع العنيف والبصق وشتى صنوف التعذيب الجسدي والمعنوي. والبلطجة عبر الكذب وانعدام الشفافية في جميع الممارسات السياسية، ونشر الإشاعات الكاذبة بغرض التخويف والإذلال، ثم البلطجة عبر الاستيلاء على المال العام وممتلكات الدولة، وبيعها ونقل قيمتها المادية إلى خارج البلاد.
يعيش الشعب المصري في متاهة مظلمة وأميَّة شاملة منذ استيلاء العسكر على السلطة، فأصبح لا يمكنه التمييز بين من ينفعه ومن يضرُّه، وعندما يظهر على الساحة السياسية شخص حضاري متنوِّر مثل الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحائز على 14 جائزة عالمية ومحلية، على رأسها جائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2005، ويحظى بشهرة ونفوذ كبيرين في العالم، وينادي بأحقية هذا الشعب في الرفاهية والحرية والكرامة الإنسانية، تتعامل معه دولة العسكر بقسوة أشد مما تعاملت بها مع نجيب محفوظ، فنجيب مجرد كاتب لقوم لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون، بينما البرادعي سياسي تكنوقراطي محنك، يريد لوطنه مالا يريدونه هم له. وأثناء توجهه للإدلاء بصوته في الاستفتاء وقد اتخذ فيه موقفا مخالفا للخونتا العسكرية وللقوى الإسلاموية السياسية على حد سواء، يتعرض للاعتداء الجسدي والهجوم اللفظي والتشهير به من قبل الذين أطلق عليهم إعلام العسكر: ”المواطنون الشرفاء“، وهو الاسم المتعارف عليه للبلطجية الذين لا يتحركون إلا بأيدي الأجهزة الأمنية التي كان على رأس أحد أجهزتها عبد الفتاح السيسي. يحدث كل هذا والشعب لا يحرِّك ساكنًا، ولا يعرف أنه في أزمة مدمِّرة تتصاعد حدتها ويشتد عنفوانها كل يوم.
العسكر يعتمدون إلى جانب فاشيتهم على الفاشية الإسلاموية لأنها تصب مباشرة في جعبتهم وتدعم توجهاتهم. شعار مشايخهم هو طاعتهم والانصياع لهم إلى جانب طاعة الله ورسوله، وأن {جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } (المائدة 33)، أما أن يُفسِدوا هم في الأرض فلا اعتراض عليهم لا من الله ولا من رسوله ولا من أي بشر كان!. إفسادهم في الأرض مسموح به، فهو حرفتهم ومنتهى أمانيهم!
ولكن الأمر المثير للغرابة فعلا، ولكنه يفسر المدى الذي وصل إليه الغباء الجمعي المزمن لهذا الشعب هو ميله اللامعقول تجاه العسكر، والانسحاق الشديد وغير المبرَّر أمامهم، والتعلق بالوهم السائد بأنهم هم الفئة الوحيدة المهيئة للحكم، رغم التدهور الواضح تمامًا في أحوال البلاد المادية والمعنوية خلال 70 عامًا من حكمهم، وهزائمهم المتكررة في حروبهم العبثية. قد يبدو هذا الموقف غريبًا ومريبًا وكأنه نابع فقط من منطقة غير معروفة في «لا شعور الشخصية المصرية»، أو بسبب ما تمارس الطغمة الحاكمة ضده من بلطجة إجرامية، ولكن هناك أسباب ودوافع أخرى قوية، تتعلق أكثر بالأمية السياسية المتأصلة لدي المصريين، وقناعاتهم الخاطئة وفهمهم الملتبس وأحاسيسهم المرتكبة حول مفاهيم الديموقراطية والحكم المدني ودور المؤسسة العسكرية، وللأسف كلها مفاهيم ذات جذور عميقة ممتدة منذ استقل الجندي الألباني في جيش الاحتلال التركي العثماني محمد على باشا بحكم البلاد ما بين عامي 1805 إلى 1848، بمبايعة من أعيان البلاد بصفتهم يمثلون الشعب برمته، عقب انتفاضة شعبية على سلفه خورشيد باشا!. وسواء اختار الشعب جنديا ألبانيا في جيش محتل أو بكباشيا أو جنرالا في جيش مهزوم ومكلوم، فإنه بذلك يتماهى مع قناعاته ومفاهيمه وأحاسيسه ومجمل ما يعانيه من الجهل بالسياسية!
من المضحكات المبكيات في تاريخ مصر قصة مشهورة لسقوط أبو الديمقراطية الحقيقية في مصر: أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد بسبب الأمية السياسية للشعب، ففى أول انتخابات بعد اصدار دستور 1923 الذى جاء نتيجة لثورة 19. ترشح قطب حزب الأحرار الدستوريين ورئيس تحرير الجريدة.. التابعة للحزب الذى نشأ هو أيضًا من رحم ثورة 19، أشاع عنه أحد خصومه وكان محاميًا مغمورًا، أنه يؤمن، وينادى بحق الرجل فى أن يتزوج أكثر من امرأة، دون تحديد.. وأيضًا يرى ـ ما دام الرجل يتمتع بهذا الحق ـ أن الزوجة أيضًا من حقها أن تتزوج أكثر من واحد، فى نفس الوقت.. وأشاع المحامي أن هذا هو ما يراه أحمد لطفى السيد .. وقال لرجاله: اسألوا لطفى السيد سؤالا واحدًا، هو: هل انت ديمقراطى..؟ فإذا أجاب بنعم فهذا دليل على ما أقوله لكم. وفى أحد السرادق الانتخابية، وبينما لطفى السيد مندمجًا فى إلقاء خطابه وقف أحد الناخبين وسأله: «هل أنت ديمقراطى؟» هنا انبرى استاذ الجيل يتحدث ويشرح ما هى الديمقراطية.. دون أن يعى الفخ الذى أعد له.. ورد لطفى السيد ـ وهو من أبرز المثقفين المصريين وأول مدير للجامعة المصرية.. وقال بكل حزم: نعم أنا ديمقراطي.. فصرخ السائل قائلاً: استغفر الله العظيم ـ وشاع فى الدائرة أن هذا الديمقراطي الأكبر فى مصر يؤيد تعدد أزواج الزوجة، وهذا بالطبع ضد المبادئ الاسلاموية الاساسية. وأمام صناديق التصويت.. ابتعد الناس عنها وهم يقولون كيف ننتخب رجلاً يخالف الشريعة الاسلاموية وكانت النتيجة أن سقط لطفى السيد فى أول انتخابات نيابية تجرى فى مصر على مبادئ دستور 1923. وراح ضحية خبث منافسة فى المعركة الانتخابية. ما علينا بخبث الخبثاء، فالسياسة كلها خبث، ومعاداة للأخلاق. الشعب كما هو واضح كان يعاني من الأمية السياسية وأضيفت إليها البلطجة الرسمية وزادت معاناته منهما باطراد.
الخلاصة: أن أي وطن يعترف بالبلطجة ويعتمد عليها في تسيير حياته، لن تقوم له قائمة، وسوف تنقلب فيه المعايير وتتدهور القيم، ولن تزدهر فيه تجارة أو صناعة أو تعليم، ويجد المواطن نفسه مرغمًا على مغادره حتى وإن دفع حياته ثمنا لذلك!