قراءات ورؤى حول مشروع سمير أمين - رؤية نقدية


فتحى سيد فرج
2006 / 9 / 17 - 08:58     

فــتـحـى ســيـد فــرج
لا شك أن سمير أمين يعتبر من أبرز مفكرى العصر ، لما تتميزبه تحليلاته الجادة ومنهجه الواضح من أبراز الطابع المحلى - خاصة للمنطقة العربية - فى تشابكها مع الواقع العالمى ، وقدرته على رصد التطور التاريخى العام من خلال رؤية متفردة وصياغات جديدة ، وتحديده لطبيعة أزمة النظام الرأسمالى فى تطورها عبر العقود الماضية ، وطرحة لتصور محدد لكيفية الخروج من هذه الأزمة المستحكمة والمستمرة طالما بقى النظام الرأسمالى .
وينطلق الأساس الفكرى لنظريته ، ومشروعه الحضارى لفهم طبيعة التطور العالمى وأساس الأزمات الدورية فى النظام الرأسمالى ، ورؤيته فى كيفية الخروج منه لبناء نظام اشتراكى جديد على أسس سليمة ، من نقده لنظرية مراحل النمو ، سواء فى صورتها البورجوازية ، أو صورتها الماركسية ، هذه النظرية التى ترى البلدان المتخلفة باعتبارها مجرد بلدان متأخرة فى طريق التطور ، ولا بد لها من الانتقال عبر مراحل محددة لتتجاوز تخلفها ، وهو يرى أن لهذه النظرية طبعة بورجوازية متمثله فى نظرية روستو Rostow ، كما ظهرت لها طبعة أخرى مستمدة من الماركسية السوقية المذهبية ، وجدت فى بعض تفسيرات ماركس بعد تشويهها أساس يقوم على رد المادية التاريخية إلى مادية اقتصادوية ، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر قصرت بعض تيارات الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية تفسيرها للمادية التاريخية بسبب رؤيتها غير الجدلية للعلاقة بين البنية التحتية الاقتصادية ، والبنية الفوقية السياسية والعقائدية ، بقدصد ربط تفائلها بقدوم منقذ عن طريق تطور القوى المنتجة على أساس تقنى ، وسحبت تيارات اليسار المذهبى هذا التفسير على نطاق عالمى انطلاقا من تصور المركزية الأوربية فى النظر إلى العالم ، وكان يجب أن يكون هذا التطور تعاقبى حتى يمكن الانتقال عبر مراحله ذات الطابع الحتمى ، وهكذا تم تدشين الأطوار الخمسة الشهيرة كمسيرة للتطور الإنساني كله ، حدثت ويجب أن تستكمل لكل مناطق العالم . من الشيوعية البدائية ، إلى العبودية ، ثم الإقطاعية ، فالرأسمالية ، وصولا إلى الاشتراكية .
ولكن سمير أمين يرى أن تاريخ الإنسانية لم يكن تعاقبيا ، ومن ثم لن يكون بالضرورة تعاقبيا ، فقد كانت الحضارات الأقدم والأعظم لعالم ما قبل الرأسمالية ، حضارات الصين ومصر ، منظمة بطريقة تضمن لها الاستقرار والمرونة فى نفس الوقت ، والذى يمكنها من استيعاب النقد المستمر ، وان لم يؤكد إمكانية انفتاحها على التطور الدائم ، وهو يرى أن سبب توقفها يعود إلى ا لبطئ المحدود للقوى المنتجة ، وهذا ليس تفسير كافى لتوقف هذه الحضارات القديمة ، كما أنه يلتقى مع تيار الاشتراكية الديمقراطية الذى سبق وأن عاب عليه دور تطور القوى المنتجة كسبب للتطور ، واعتقد أن ذلك يمثل نقطة ضعف واضحة فى صلب نظرية سمير أمين .
ومع ذلك فأنه يعتبر الحضارات القديمة تمثل نموذج لحضارات ناجزه ، بالمقابل مع حضارات مستقلة تشكلت فى محيط هذه الحضارات لم تستكمل صفة الإنجاز، وهى حضارات اقل لمعانا ، وبسبب عدم استكمالها للإنجاز تصبح الأكثر استعدادا لتكوين أشكال تنظيم جديدة ، تكون ملائمة لتطور متفوق للقوى المنتجة ، وهكذا يصل سمير أمين لفرضيته الأولى ، والتى تقوم على أساس أن أى نظام لا يتم تجاوزه انطلاقا من مركزه ، ولكن من محيطه ، مثاله على ذلك ولادة الرأسمالية انطلاقا من محيط الأنظمة الخاصة بالحضارات الكبرى القديمة ، ولا يقف عند هذا الحد بل يصيغ هذه الفرضية باعتبارها قانون عام يميز التطور الإنسانى فى تاريخه المستمر ، قانون التطور الامتكافئ الذى يقضى بأن تجاوز أى نظام لا يتحقق فى مركزه ولكن انطلاقا من محيطه !! أليست هذه حتمية أكثر صرامة من حتمية مراحل النمو التى يناقضها سمير أمين ، سواء فى صورتها البورجوازية ، أو صورتها الماركسية ، كما أن هذا القانون حكم تصوره وجعله ينتظر ولادة الاشتراكية من اطراف النظام الرأسمالى ، وليس من داخل مركزه الأكثر تقدما فى قوى الانتاج ، والذى يتميز بوضوح الصراع الاجتماعى بداخلة وبتكرار ازماته الدورية ، لوجود تبلور طبقى ناجز فى بنيته الاجتماعية ، وهذا ما كان يعول عليه ماركس وعديد من المفكرين الثوريين اتباع الثورة الدائمة ، كما أن هذا التصور وضع البلدان النامية والأصح المتخلفة فى إشكالية البحث عن منقذ وعن قوى اجتماعية جديدة تستطيع القيام بتغيير النظام الرأسمالى من خارجه ، ومن هنا كانت تداعيات تصوره فى ضرورة فك ارتباط هذه البلدان المتخلفة وضرورة خروجها من النظام الرأسمالى والاعتماد على الذات من أجل بناء اشتراكية جديدة على أسس سليمة . ولا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض بلدان جنوب وشرق أسيا قد حققت درجة من التطور بأقتداء نظام الاقتصاد الحر الرأسمالى ، وبالتفاعل مع السوق العالمى دون اللجوء إلى فلك الارتباط معه ، بعد أن كانت من أكثر بلدان العالم تخلفا ، وعلى نفس الدرب تسير ولو من خلال مدخل متضافر بين نزعة رأسمالية ونزعة اشتراكية تجربة الصين محققة درجة من التطور والنمو الاقتصادى السريع خاصة بعد الانفتاح على الأخذ بالنظامين .
مفاهيم أساسية ـ أنماط الإنتاج ـ التشكيلات الاجتماعية
يضع سميرأمين تصور خاص لفهم التاريخ الإنسانى ليس على أساس تعاقبى ، ولكن من خلال مفهومين محددين هما : أنماط الإنتاج ، والتشكيلات الاجتماعية ، ويقترح أن يتم التمييز بين خمسة أنماط إنتاج هى
· نمط إنتاج جماعى بدائى : وهو السابق على كل الأنماط ، والشكل الأولى لإرساء بداية تمايز طبقى جنينى ، يقوم على أساس تنظيم العمل بشكل فردى أو عائلى ، والأرض هى وسيلة العمل الأساسية ، الملكية تبقى جماعية للعشيرة ، ولكن الاستعمال يكون حرا أمام كل الأفراد ، لا يوجد تبادل تجارى ، ويتم توزيع الإنتاج حسب قواعد القرابة ، وحيث أن بعض العائلات تحوز الأقسام الأجود من الأرض ، أو الأفضل موقعا ، أو المساحة الأوسع ، فأن كل ذلك يمثل جنين التمايز الطبقى ، وحيث يحق لكل فرد استخدام قطعة من الأرض ، فأن إمكانية البرتلة أى فصل المنتج عن وسائل إنتاجه غير ممكنة .
· نمط الإنتاج الخراجى : وهو الشكل الأكثر شيوعا فى المرحلة ألما قبل رأسمالية .
· نمط الإنتاج العبودى : والذى يشكل نمط نادر ومشتت فى التاريخ الإنسانى .
· نمط الإنتاج السلعى البسيط : يؤلف شكلا متواتر فى التاريخ ، بدون تشكيلة اجتماعية .
· نمط الإنتاج الرأسمالى .
وبما أن نمط الإنتاج الخراجى هو الشكل العام للمجتمع الطبقى ما قبل الرأسمالى ، وهوالأكثر شيوعا فى التاريخ البشرى ، فأن سمير أمين يركز فى شرحه ويعتبره جوهر نظريته فى التطور الامتكافئ ، وهذا النمط يتسم بانقسام المجتمع إلى طبقتين أساسيتين : الطبقة الفلاحية المنتظمة فى جماعات ، والطبقة القائدة التى تحتكر وظائف التنظيم السياسى ، وتستحوذ على الخراج بشكل غير سلعى من ناتج عمل الفلاحين ، وهناك شكل أكثر تطورا داخل النمط الخراجى يصبح نظاما إقطاعيا ، أى تحل فيه الطبقة القائدة محل الجماعة فى الملكية المباشرة للأرض ، لذا فأنه ينقسم إلى طبقتين ، طبقة الأسياد التى تمتلك الأرض ، وطبقة الأفنان ، ويستحوذ الأسياد على الفائض مع غياب التبادل التجارى ، وهذا النمط مهدد بالتفكك إذا حاول السيد الإقطاعى التخلص من قسم من المنتجين ، أو تحرير أقنانه .
والنمط الخراجى الذى يسمى أحيانا دون مراعاة الدقة " بالنمط الآسيوى " موجود فى القارات الأربع : أسيا فى الصين والهند ، وبلاد ما بين النهرين . وفى أفريقيا مصر وأفريقيا السوداء . ثم فى أوروبا . وفى أمريكا الهندية
أما عن التشكيلات الاجتماعية ، فنظرا لعدم وجود أى من هذه الأنماط الإنتاجية فى حالته الصافية ، فالمجتمعات التاريخية هى تشكيلات تتضافر فيها أنماط إنتاجية مختلفة وعلاقات اجتماعية متباينة ، ولكن يوجد دائما نمط إنتاج سائد مع مجموعة من الأنماط الهامشية خاضعة له ، وهكذا نجد أن نمط الإنتاج الخراجى المبكر أو الإقطاعى يتواجد معه نمط سلعى بسيط أو نمط عبودى ، ونفس الأمر قد يتشابك مع النمط الرأسمالى أنماط أخرى ، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت نظام رأسمالى يتشابك معه نمط عبودى خلال الحقبة الكلاسيكية ، وكل المجتمعات القبل رأسمالية هى تشكبلات اجتماعية قد يكون النمط المسيطر جماعى أو خراجى مع وجود علاقات تجارية بسيطة ، وعلاقات تجارية بعيدة المدى .
والتجارة البعيدة المدى ليست نمط إنتاج ، ولكنها تشكيلات اجتماعية تربط بين مجتمعات لا تعرف بعضها البعض ، أى تربط بين منتجات يجهل كلفتها المجتمع المصدرة اليه ، وتمثل بالنسبة له منتجات نادرة ، لذا فان الفئات التى تحتكر تجارتها تحقق أرباح عالية ، وبهذا فان التجارة البعيدة المدى تساعد عن طريق هذا الربح الاحتكارى على انتقال الفائض من مجتمع إلى آخر ، وهذا الفائض المنقول يمكن أن يكون أساسيا ويشكل بالنسبة للمجتمع الذى يستفيد منه القاعدة الرئيسية لثروة ولقوة الطبقات القائدة فيه ، ويمكن أن يتوقف مصير حضارة ما بأكملها على هذه التجارة ، وأن يدفع تغير خطوط التبادل التجارى إلى انحطاط مناطق أو ازدهار مناطق أخرى ، دون أن يكون لهذا أى أثر هام على تطور القوى المنتجة أو على تدهورها .
أن تحليل تشكيلة اجتماعية يجب أن يتركز على تحليل طبيعة الفائض من حيث ، نمط توليد هذا الفائض ، وكيفية توزيعه ، ومستوى تطور القوى المنتجة أى درجة تقسيم العمل ، ومستوى تطور قوى الإنتاج أى التقدم التكنولوجى ، ويأخذ الفائض أشكالا مختلفة حسب أنماط الإنتاج ، فهو غير سلعى ( خراج ، ريع طبيعى 00 الخ ) أو سلعى وفى هذه الحالة يطلق عليه " فائض القيمة " وفى نمط الإنتاج الرأسمالى يكون الربح هو الشكل الخاص الذى يأخذه فائض القيمة .
وبما أن كل تشكيلة اجتماعية هى مركب من عدة أنماط إنتاجية ، فان الفائض يتكون من تضافر فوائض من أصول مختلفة ، والمسألة الأساسية بالنسبة للتشكيلة الاجتماعية هى معرفة نمط الإنتاج السائد ، وبالتالى شكل الفائض السائد أيضا ، وكذلك معرفة إلى أى مدى يعيش المجتمع على فائض يتحقق داخله أم على فائض قادم من مجتمع أخر ، أو بمعنى آخر ما هو الموقع الذى تحتله التجارة البعيدة فى هذا المجتمع ، كما أن توزيع الفائض هو الذى يعطى للتشكيلة وجهها الحقيقى .
وعائلة التشكيلات الأكثر شيوعا فى تاريخ الحضارات الماقبل رأسمالية هى عائلة التشكيلات الخراجية ، التى يمكن تمايزها بين تشكيلات خراجية غنية ، مؤسسة على فائض داخلى عظيم كما فى مصر والصين ، وتشكيلات خراجية فقيرة لضائلة الفائض الداخلى ، وهى تمثل غالبية التشكيلات للحضارات القديمة والوسيطة ، وتشكيلات خراجية سلعية ، تظهر هنا وهناك لفترات قصيرة أو طويلة حسب تقلبات طرق التجارة ومثالها اليونان القديمة والعالم العربى .
كما أن تحليل التشكيلات الاجتماعية يلقى الضوء كذلك على مسألة الطبقات ، فلكل نمط إنتاج تشكيل طبقى معين فى حالة تناحر وصراع ، فى النمط الخراجى توجد الطبقة / الدولة فى مقابل الفلاحون ، فى العبودى الأسياد مقابل العبيد ، فى الإقطاعى الإقطاعيون مقابل الأفنان ، فى النمط الرأسمالى البورجوازية فى مواجهة البروليتاريا ، وكل هذه الطبقات تجد تعريفها بالوظيفة التى تحتلها فى عملية الإنتاج ، لكن الأمر لا يتعلق بملكية وسائل الإنتاج ، فالطبقة / الدولة فى النمط الخراجى ليست مالكة للأرض ، بل هى ملك الجماعة ، أما النمط الإقطاعى فليس له إلا الملكية العامة للأرض ، بينما تحتفظ الجماعة بحق الانتفاع فقط ، ومع ذلك فان كلا الطبقتين - الدولة وكذلك الإقطاعى - هما اللذان ينظمان و يخططان عملية الإنتاج ، ومن ثم فهما تسيطران على عملية الإنتاج وعلى المجتمع .
تقود أيضا دراسة التشكيلات الاجتماعية إلى طرح مشكلة الأمة ، والتى يرى كثيرين أنها لم تظهر إلا فى إطار النظام الرأسمالى الحديث ، والأمر على خلاف ذلك فالأمة فى مصر والصين كانت سابقة بوقت طويل على وجود النظام الرأسمالى ، ويحدد سمير أمين مفهومين لتوضيح وجهة نظره فى هذا الصدد ، فهو يفرق بين مفهوم القوم ومفهوم الأمة ، فالقوم مجرد جماعة لغوية ثقافية وتماثلا فى البيئة الجغرافية ، أما الأمة فتتجاوز ذلك ، وكما يقول سعد زهران فأن الأمة تظهر فى الواقع إذا استطاعت طبقة اجتماعية متحكمة فى جهاز الدولة المركزية أن تضمن وحدة اقتصادية لحياة الجماعة ، أى إذا كان تنظيم إنتاج الفائض وتوزيعه يخلق تضامنا فى مصير الأقاليم المتعددة ، وهكذا ففى المناطق التى يتطلب تنظيم الرى أداره مركزية وتخطيط حاكم للإنتاج على مستوى كل البلاد ، فأننا نرى الطبقة / الدولة المسيطرة تحول الإمبراطورية إلى أمة ، ومثال ذلك الصين رغم تعدد وتنوع الأقاليم ، والنموذج الأمثل فى مصر ، وهما دليلان على تشكل الأمم قبل وجود النظام الرأسمالى بآلاف السنين ، أما إذا كان شرط التماثل القومى ليس متحققا ، أو شرط الوحدة الاقتصادية ، فلا توجد أمة ، ولكن توجد إمبراطورية كما هو الحال فى الهند .
الطبقة / الدولة ليست الوحيدة التى تستطيع تحقيق ذلك ، فهناك طبقة التجار فى التشكيلات الخراجية التجارية ، أو العبودية / التجارية ، الوحدة هنا مضمونة عن طريق تداول الفائض ، ففى اليونان القديم والعالم العربى تشكلت أمم من هذا النوع ، فى اليونان وجدت الأمة رغم غياب السطة المركزية ، وفى العالم العربى كان التماثل القومى بفضل اللغة والثقافة ، وما حققته الطبقة التجارية المتحالفة مع المحاربين من وحدة اقتصادية ، وبهذا تشكلت الأمة العربية فى عصور الازدهار التجارى .
والأمم التى تأسست على قاعدة طبقة التجار تظل متوقفة على قوة هذه الطبقة ، تزدهر بازدهارها أو تتلاشى حسب مصير الطبقة ، فالظاهرة القومية هنا يمكن أن تنقلب ، وحالة العالم العربى الذى كان الفائض الأساسي يأتيه من الخارج ، ولم يكن يتولد فى داخل المجتمع ، نجد أن تقلبات هذا الفائض تترافق مع تقلبات الحضارة وقوة الأمة ، وانحطاط التجارة سيجر معه انحطاط طبقة التجار/ المحاربين ، وهنا تتلاشى الأمة ويتفرق الجمع إلى أقوام .
واهم ما يوجد فى أطروحة سمير أمين سؤاله الذى يتردد فى مجمل كتاباته ، خاصة كتابه الأثير " التطور الامتكافئ " لماذا لم ينجب العالم العربى أو الصين رأسمالية محلية ؟ ؛ وهو فى سبيل ذلك يدير نقاش حول أصول الرأسمالية ، فى البداية يشير إلى تصادم مدرستان ، فبالنسبة للبعض تولد الرأسمالية بفضل الاكتشافات الكبرى للقرن السادس عشر ، وتحت تأثير التجارة الأطلسية ، أما بالنسبة للبعض الآخر تظهر كنتيجة لتفكيك العلاقات الإقطاعية .
وفى هذا الصدد يشير إلى ضرورة توفر شرطين أساسيين : التكديح ، وتراكم رأس المال النقدى ، فأذا كان تراكم رأس المال النقدى قد وجد لدى جميع المجتمعات التجارية الشرقية ، إلا أنه لم يؤدى إلى تطور علاقات رأسمالية لأنه لم توجد فى هذه المجتمعات أيد عاملة حرة وجاهزة ، أى عملية التكديح التى تتطلب طرد قسم من السكان الزراعيين من الجماعة القروية ، وهذه العملية لم تجد تفسيرا لها إلا فى أوروبا من خلال تفكيك العلاقات الإقطاعية ، من هنا فأن ترابط الشرطين ضرورى ، وغياب هذا الترابط هو الذى اعاق تولد الرأسمالية فى العالم العربى .
أن النقد والتجارة قد وجدا قبل الرأسمالية ، وهما يظهران منذ يحوز المنتجون على فائض ، ومنذ أن يصبح فى مقدور تقسيم العمل أن يتيح تبادل السلع ، لكن ليس كل تبادل بالضرورة تجاريا ، فالتبادل بين المنتجين الصغار لا يحتاج إلى وسيط تجارى متخصص ، وقد لا يحتاج إلى نقد ، وهناك فرق بين الوسيط التجارى الذى يجنى الفوائد التى مصدرها اختلاف القيم بين مجتمعين يتاجران بمواد نادرة ، وهذه الفائدة يجب تمييزها عن الربح الذى يحققه رأس المال التجارى ، فقط فى نمط الإنتاج الرأسمالى تصبح التجارة فعالية رأسمالية مثل الإنتاج الصناعى ، ويظهر الرأسمال التجارى الذى يحقق الربح المتولد من داخل المجتمع .
وهذه الوظيفة التجارية تحتاج إلى شرائح خاصة جدا ، قوم متخصصين كاليهود فى أوروبا الوسيطة ، وتنشأ من خلال ذلك مدن ومجتمعات تقوم بوظيفة الوسطاء بين التشكيلات المختلفة ، مثل المدن الفينيقية واليونانية ، والمدن الإيطالية التى نشأت فى القرن الثانى عشر حتى السادس عشر ؛ وعندما لا يكون التجار مجتمعين فى مدن مستقلة أو فى طوائف فسنجدهم ضمن مجموعات مغلقة ، قد تتكون هنا ثروات مكنوزة ، ولكن لا ينبع عنها رأسمالية ، وهناك من يخلط بين النقد والرأسمال ويرى ما حدث فى الصين أو عند الفينيقيين واليونان والرمان وعند العرب فى القرون الوسطى شكل من الرأسمالية ، ولكن يبقى السؤال : لماذا إذن لا نجد سوى الرأسمالية الأوروبية .
للرد على ذلك يشير سمير أمين أنه تم التذرع بالدين – البروستنتية حسب ماكس فيبر – أو العرق – الصفات الخاصة النابعة عن ديمقراطية الجرمان – أو عبقرية التراث اليونانى ، مما أعطى للأوربيين تفوق خاص على باقى الشعوب .
فى الواقع ليس من الضرورى أن يقود تركز الثروة / النقدية لدى التجار إلى الرأسمالية ، بل لا بد من توفر تفكيك للنمط المافبل رأسمالى فى التشكيلات الخاصة بالتجارة وإلى توليد التكديح ، أى فصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم ، وبالتالى ينفتح الطريق نحو سوق عمل حرة ، هذا ما حدث فى أوروبا ولم يحدث لا فى الصين ولا فى العالم العربى ولا فى أى مكان آخر : لماذا وكيف ؟
الأمر يعود أساسا إلى طبيعة نمط الإنتاج الخراجى الإقطاعى غير الناجز الذى وجد فى أوروبا البربرية المتخلفة والتى يسهل تفككها ، على عكس النمط الخراجى الناجز الذى يستعصى على التفكيك لوجود سلطة مركزية قادرة على حماية الجماعات القروية ، وحتى أثناء فترات الانحطاط حين تضعف السلطة المركزية ، كان المجتمع يتحول إلى ما يشبه الإقطاعية كتدهور أو انحراف عن النموذج ، ولكن تمردات الفلاحين كانت تأتى لتقيم من جديد النظام الخراجى عن طريق إعادة بناء الدولة المركزية ، وتحطيم الإقطاعيين .
أما النمط الإقطاعى ذى الطابع المتخلف فقد كانت القطاعات التجارية تتمتع بقسط أوفر من الاستقلالية ، وقد ترافق مع هروب الفلاحون الاقنان من الظلم الإقطاعى ، قيام الأسياد بطرد الفلاحين بهدف تحديث المؤسسة الإنتاجية ، وقد تجمع أولئك وهؤلاء فى المدن الحرة وكونوا برولتياريا تحت طلب التجار الذين يتحكمون فى هذه المدن ، وهكذا رأينا ازدهار الإنتاج البضاعى الحرفى الحر ، الذى يقوم على العمل المأجور ، مما مكن تجار هذه المدن الحرة من تحقيق منجزات ذهبت ابعد من زملائهم فى التشكيلات الخراجية الناجزة .
ومنذ القرن السادس عشر بدأت المدن التجارية وسكانها تتطور ويتسع المجال التجارى نحو المحيط الأطلسي ، دامجا أمريكا فى محيط هذا النظام ، وتمكن تجار هذه المدن من إخضاع الشركات والتحالف مع الأنظمة الملكية الوليدة لدعم طموحاتها فى السيطرة على طرق التجارة الدولية ؛ وستساهم عروض الثروة الجديدة بدورها فى الإسراع بتفكيك العلاقات الإقطاعية ، فمن اجل الحصول على ما تطرحه السوق الحرة من منتجات وجب على الأسياد الإقطاعيين أن يحدثوا استثماراتهم حتى يمكنهم أن يحصلوا على فائض أعظم ، وأن يعطوا لهذا الفائض شكلا نقديا ، وهذا التحديث فرض عليهم الاستمرار فى طرد الفضلة الباقية من السكان ، وأخذ الريع بالنقد يحل محل الريع الطبيعى ، مما أدى إلى تحول الزراعة الإقطاعية إلى زراعة رأسمالية ، أما عن طريق تحول الإقطاعيين إلى ملاك رأسماليين ، أو عن طريق ظهور طبقة جديدة من الكولاك من خلال تحرر الفلاحين .
ومن اجل فهم طبيعة هذه التحولات ، وكيف تم تحويل الملكية العقارية للأرض إلى نمط إنتاج رأسمالى فأن سمير أمين يشير إلى تفرقة هامة بين طبيعة الريع ، وطبيعة الربح ، فالربح يفترض رأسمال ، أى امتلاك حصرى لوسائل الإنتاج ، التى هى نفسها حصيلة للعمل الاجتماعى ، بينما ينبع الريع من السيطرة الحصرية لطبقة على وسائل طبيعية ليست حصيلة العمل الاجتماعى ، إذن الرأسمال يستوجب العمل المأجور الحر ، وسوق حرة للعمل ، كما يفترض بيع قوة العمل فى سوق العمل ، أما الريع فأنه يقوم على العكس من ذلك بفرض عبودية الفلاح الشغيل وربطه بأرض الإقطاعية ، الذى لا يأخذ بالضرورة شكل حقوقى ، ولكن غالبا ما يكون مجرد حق استعمال الأرض .
الرأسمال بطبيعته متحرك ومنه يستنتج ماركس تحول القيمة إلى ثمن الإنتاج ، الذى يضمن الجزاء المتساوى للرساميل الفردية ، بينما يظل امتلاك العناصر الطبيعية لا منقولا بطبيعته ويظل الريع لا متكافئا حسب الأرض ، وهكذا نرى أن الرأسمالية لم تتطور من فراغ ولكن فى حضن التشكيلات السابقة ، فحيث كانت الملكية العقارية تشكل عائق أمام التطور الرأسمالى فقد تحولت الزراعة إلى راسمال زراعى منذ بدأ المالك العقارى يفقد وظيفته ودوره وتحول إلى مزارع رأسمالى ، كما ساهمت أيضا القطاعات الجديدة الصناعية التى لم تخضع للعلاقات السابقة فى دفع وتيرة التطور الرأسمالى .
وهكذا إذن فأن العنصرين – التجارة البعيدة المدى وتفكك العلاقات الإقطاعية – يتفاعلان معا لينجبا نمط الإنتاج الرأسمالى ، وتمركز الثروة النقدية قد ينجب رأسمالا امكانيا ا ، ولكن يجب أن يتحقق التركز على ايدى التجار ثم بعد ذلك عند الرأسماليين الزراعيين الجدد كى يصبح الرأسمال الامكانى رأسمالا فعليا بفضل تفكك العلاقات الإقطاعية ، وتحرير اليد العاملة ، فيصبح هؤلاء عمال مأجورين عند الرأسماليين الجدد ، كما عند الملاك والمزارعين الجدد .