حول مفهوم المحترف الثوري وضرورة الاجتهاد النظري


التيتي الحبيب
الحوار المتمدن - العدد: 7262 - 2022 / 5 / 28 - 08:28
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


في نظريته حول الحزب اعتمد لينين على مفهوم المحترف الثوري كجواب على واقع الطبقة العاملة التي تعاني من آثار وعراقيل النزعة الاقتصادوية والعفوية والتجريبية هذا من جهة،ومن جهة أخرى، كجواب على ما يستلزمه النضال السياسي الثوري ضد الماكينة القمعية التي تسلطها الدولة على المناضلين وعلى تنظيمات الحزب وخلاياه بهدف منعه من مراكمة التجارب والاستفادة من الدروس. إن الشغل الأول للأجهزة البوليسية هو رصد والمتابعة اللصيقة للحزب، إنها تشتغل بانتظام وباحترافية كبيرة، قصد العصف بكل تجربة تنظيمية في المهد ومحاولة اجتثاثها قبل أن تتجذر في الأرض. فالحزب في نظرية لينين هو مدرسة يتعلم فيها العمال فنون التنظيم والدعاية والتحريض واستعمال أرقى المدارك والاكتشافات والإبداعات التي توصلت لها العلوم بكافة فروعها. في الحزب يتعلمون التفكير العلمي المبني على معرفة الواقع من خلال القيام بالتحقيقات وتحليل المعطيات المجمعة، يتعلمون استخراج الحقائق التي تهم القضايا الملموسة موضوع الصراع الطبقي في مستوياته المختلفة: النقابية والثقافية والحقوقية والسياسية...الحزب في نظرية لينين هو أيضا مدرسة توجيه الممارسة النضالية لجميع أفراده وتسديد تلك الممارسة بما يمكنها من التوجه إلى الأهداف بأكبر قدرة على تحقيق نتائج ملموسة ناجحة وبأقل الخسائر أو ارتكاب الأخطاء. في هذه المدرسة يتكون المناضل الذي يحصل على تربية جيدة داخل خليته الحزبية أو الإطار التنظيمي الذي يربطه عضويا مع الحزب. ولهذا شدد لينين على شرط الانتماء للحزب عبر العمل داخل الخلية أو الإطار الحزبي، ولا يعتبر الشخص منتميا حقيقة إلى الحزب رغم اتفاقه على برنامج الحزب واداء واجبه المالي من دون الالتزام الصارم بالانتماء للخلية الحزبية؛ في هذا يكمن الفرق الجوهري بين اللينينية والتيارات السياسية والفكرية الأخرى مثل المنشفية التي دافع زعماؤها مثل مارتوف... على أطروحة الانتماء للحزب بالاتفاق على برنامج الحزب وأداء الواجب المالي ولم يشترط الانتماء إلى إحدى خلاياه أو إطاراته القاعدية. إن الالتزام بالعمل في الخلية هو ما يسمح بتربية المناضل في المدرسة الحزبية. يضيف لينين إلى هذه الخاصية شرطا أساسيا وهو أن يكون الحزب نفسه مستعدا للتعلم من الطبقة العاملة بخاصة والجماهير الشعبية بعامة. اعتمد لينين على هذا الشرط تجسيدا للمبدأ الماركسي الذي استخلصه ماركس في أطروحاته ضد فيورباخ: "المربي هو نفسه في حاجة الى تربية". يتلخص جوهر نظرية لينين في التنظيم في وحدة النظرية والممارسة، وبان سلاح التنظيم يعتبر اقوي سلاح بيد الطبقة العاملة وقد يكون هو سلاحها الوحيد أمام سلطة البرجوازية وأجهزة دولتها. ولذلك اعتبر لينين الحزب بمثابة هيأة أركان الطبقة العاملة لخوض الصراع الطبقي.
اعتقد الكثيرون أن المحترف الثوري هو ذلك المناضل الذي يتفرغ للعمل الثوري وينقطع لهذا العمل وفقط، وقد تفرض عليه ظروف السرية أن ينعزل عن الطبقة العاملة وان يعيش حياته ليلها كنهارها أي في الترقب والتنكر واجتناب الاختلاط بالشعب والجماهير. هناك أيضا من يعتقد أن مفهوم المحترف الثوري عند لينين هو ذلك الإطار الذي يسهر على كل مجريات الحياة الحزبية ويديرها هو ورفاق يشبهونه، أي مجموعة من الأطر متحكمة ومتخصصة في العمل الحزبي. من خلال هذه التأويلات لمفهوم المحترف الثوري عند لينين، تبلورت الانتقادات بالبيروقراطية والتسلط الفردي على الحزب وبتحول الحزب إلى جهاز متسلط يفرض سلطته على الطبقة العاملة لان الحزب نفسه خاضع لسلطة كمشة من الأطر الذين بدورهم رازحون تحت سيطرة ديكتاتور متربع على المكتب السياسي.
هل حقا نظرية لينين في الحزب تحتمل هذه التأويلات؟ وهل يوجد ما يبررها أو يساهم في تحققها في الممارسة النضالية وفي مسيرة الحزب؟ للجواب على مثل هذا التساؤل نرى انه لا بد من استعراض مصادر أو أصحاب هذه التأويلات لنظرية لينين في التنظيم عامة والحزب خاصة. وفي هذا الإطار يمكننا أن نحصر هذه المصادر أو الجهات في ثلاثة مجموعات:
+ المجموعة الأولى، هي تلك التي لها مصلحة مباشرة في هزيمة الطبقة العاملة وحرمانها من تملك سلاح التنظيم وفق النظرية اللينينية ويمثل هذه المجموعة كل المنظرين الرجعيين المعاديين للشيوعية والثورة الاشتراكية. في عرف هؤلاء يعتبر لينين ديكتاتوريا سفاحا يدعو للعنف والقضاء على خصومه.
+ أما المجموعة الثانية، فهي تتشكل من أصحاب النظريات الفوضوية والاناركية اليسارويون ودعاة الحزب بالتيارات المتحلقة على برامجها وأرضياتها الرافضة للمركزية الديمقراطية ومعهم أيضا المرتدون عن الماركسية الخونة للطبقة العاملة أصحاب الانتقال عبر النضال السياسي البرلماني البرجوازي.
+ وأخيرا هناك مجموعة ثالثة، تتكون من التنظيمات ذات نزوع الجمود العقائدي أو التأويل البسيط والسطحي لكتاب مالعمل؟ يختزل مفهوم المحترف الثوري عند هؤلاء في المناضل المنقطع للنضال السياسي ومنعزل عن أوساط العمال، يعيش حياة سرية او شبه سرية مطارد من طرف البوليس والمخبرين. إن مثل هذه الحالة ممكنة جدا ومن الضروري الاستعداد لها مادمت الطبقة العاملة تخوض حربا طبقية مع البرجوازية الاستغلالية مالكة وسائل الإنتاج وستسلط اجهزة الدولة زبانيتها على الأعضاء النشطين والممتازين لاعتقالهم أو اغتيالهم ولذلك وجبت حمايتهم وتمكينهم من شروط العيش بعيدا عن أعين المخبرين والبوليس. فكم هو ساذج ذلك الاعتقاد بكون المحترفين الثوريين هم مجموعة من المناضلين أنجبهم التنظيم وكونهم بمجهود جبار، بينما هذا التنظيم لم يتطور ليتحول إلى حزب بروليتاري يستحق أن يكون هيأة الأركان لقيادة الطبقة العاملة في حربها الطبقية من اجل انتزاع السلطة من يد عدوها الطبقي.
فما هو المنظور الذي يجب علينا تطبيقه لاستيعاب الأبعاد الفكرية والسياسية لمفهوم المحترف الثوري وبعيدا عن النظرة التنظيموية الضيقة لأصحاب الجمود العقائدي؟ فإذا كان يستحيل فهم وإدراك العامل خارج شروط طبقته الاجتماعية الطبقة العاملة- لا وجود للعامل الفرد- كذلك يستحيل إدراك واستيعاب أبعاد المناضل المحترف الثوري عن كونه عضو وجزء من حزب بروليتاري. فلأن الحزب البروليتاري في النظرية اللينينية هو هيأة أركان الطبقة العاملة لخوض الصراع الطبقي أي الحرب الطبقية ضد العدو الطبقي البرجوازية السائدة وجهاز دولتها القمعي. فالحزب لن يستطيع ان يتحول إلى هيأة أركان إلا إذا توفرت فيه شروط وخصائص دقيقة تنبني على امتلاكه سلاح النظرية الثورية التي ترشد الممارسة الثورية وهو في ذات الوقت المدرسة التي تدقق وتسدد وتطور النظرية الثورية اذا لا يمكن لهذا الحزب ان يصبح هياة اركان اذا لم يكن تلك المدرسة التي تتحقق فيها الوحدة الجدلية بين المظرية الثورية والممارسة الثورية ولكي يترجم هذا الى واقع وجب ان يعتمد على مناضلين من طينة جديدة وهم المناضلون الذين يمتلكون المعرفة العلمية الدقيقة وكذلك يتقنون انجاز المهام بدقة ودراية عالية وليس بطريقة عشوائية وعفوية او مجرورة وراء تقلبات الأوضاع والأمزجة.
فالمحترف الثوري هو اذا جزء فاعل من خلية حزبية التي هي بدورها لبنة فاعلة وأساسية من هيأة أركان الطبقة العاملة هذا أولا. وثانيا، فالمحترف الثوري هو المناضل الذي توكل له مهمة معينة وينجزها بالاعتماد على معطيات المعرفة والعلم وعلى الخبرة التي تشكلت طيلة تجربة الحزب وخلاياه تماما كما يقوم العامل بمهامه الانتاجية بحنكة ودراية في وحدة الانتاج ضمن المصنع الذي يستعمل أحداث أدوات الإنتاج وآخر تقنيات وأساليب الإدارة الصناعية والإنتاجية. الفرق الجوهري هنا بين هذا العامل المتخصص في مهمة واحدة والمحترف الثوري هو ان هذا الأخير يربط جدليا بين التخصص النضالي في الممارسة وبين النظرة الحزبية الشاملة لمجمل مهام الحزب كما تضعها إستراتيجية الحزب وتفصلها على ارض الواقع تكتيكاته. المحترف الثوري ليس هو فقط جزء بسيط من ماكينة الحزب وإنما هو لوحده قوة قادرة لتخلق وتبني الحزب باستمرار. فمثل هذا العامل يسهل عليه إدراك ضرورة انجاز كل مهمة نضالية باحترافية عالية؛ يستوعب سريعا لماذا هناك ضرورة تحوله إلى محترف ثوري لما تسند له مهمة معينة لأنه يناضل ضمن شبكة من العلاقات النضالية تنجزها شبكة من الخلايا في المصانع وفي الأحياء الشعبية كلها تصب في انجاز برنامج نضالي رسمه الحزب المنخرط في قيادة الطبقة العاملة والمتحالفة مع الفلاحين الفقراء والكادحين في البوادي والمدن من اجل توفير شروط القضاء على سلطة الطبقة السائدة او الكتلة الطبقية الحاكمة. ولهزم هذا العدو الأشد تنظيما والأكثر فتكا لا يجب ارتكاب الأخطاء أو النزول إلى ساحة النضال بدون الاستعداد اللازم والحصول على الكفاءة الضرورية في واجهات العمل السياسي في الدعاية والتحريض والتنظيم واثقان مهام اللوجيستيك وتحصين التنظيم من الاختراق المعادي. يعلمنا لينين من خلال ممارسته ومن خلال قيادته أن ليس هناك جدار صيني بين المحترف الثوري وبقية الأعضاء، بل الحزب هو وحدة جدلية من المناضلين منخرطين في سيرورة التطور والترقي في العملية النضالية والارتقاء إلى المحترف الثوري؛ وعندما تصبح هذه الصفة هي الغالبة في الحزب يضمن هذا الأخير ان ينعت بهيأة أركان الطبقة العاملة.
بقي أن نختم بالإشارة إلى خطأ الاعتقاد بكون حزب المحترفين الثوريين كما طرحه لينين هو حزب النخبة المتقلص الصفوف والغير متجدر وسط الطبقة العاملة. هذا الاعتقاد روج له من تابع بشكل سطحي وغير متمعن الصراع الذي دار بين روزا لوكسمبورغ ولينين حول طبيعة الحزب ومسالة العضوية فيه وموضوع تطبيق المركزية الديمقراطية. فكلما تقوت عضوية الحزب بمناضلين ملتزمين بالانتماء إلى خلايا الحزب ومن خلالها يرتبطون بالعمال وبالكادحين، وكلما تحول الحزب إلى المربي الجماعي، كلما اغتنت علاقاته مع طلائع الطبقة العاملة واستقطبها وتوسعت صفوفه لتضم خيرة ما أنتجه صراع الطبقة العاملة النقابي والسياسي. بذلك يصبح هذا الحزب واسعا بما فيه الكفاية ليحشد طلائع النضال من العمال والكادحين والمثقفين الثوريين ويتوفر على الكتلة الحرجة الضرورية لرفع شعار اخذ السلطة لما تنضج شروط الأزمة الثورية.
26 ماي 2022