علاقات حزبية أم مخابراتية أم إنسانية؟


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 7071 - 2021 / 11 / 8 - 14:42
المحور: سيرة ذاتية     

حادثتان متزامنتان غيّرتا مجرى حياتي الحزبية والفكرية والسياسية وأحدثتا فيها انقلاباً جذرياً. الأولى اغتيال حسن حمدان والثانية اختطاف توفيق التقي الضابط في الجيش اللبناني. الأولى جعلتني أعيد النظر ببرامج النضال الوطني والثانية أملت علي إعادة صياغة لمنظومة القيم الاجتماعية المتعلقة بالصداقة والقرابة. الأولى تناولتها بالتفصيل في مكان آخر، أما الثانية فكانت أكثر بشاعة وأكثر إيلاماً مما يتصوره المرء، لا لما فيها من تهور وإساءة بحق صداقة ورفقة نضال جمعتني بمصطفى سعد لأكثر من عشر سنوات، بل أيضاً لما في تعامل قيادة الحزب الشيوعي اللبناني مع الحادثة من عنف وقسوة، ولما في ردة فعل بعض الأقارب والأصدقاء من تنكر لقيم شربناها مع حليب أمهاتنا.
في أواخر عام 1984 تعرض مصطفى سعد لجريمة التفجير الشهيرة وكانت خسارته كبيرة حقاً. فقد عينيه وإبنته الوحيدة، كما فقد كل من زوجته وابن خاله وابنة خاله عيناً واحدة. تم إنقاذ حياته بإعجوبة، بعد نقله بطائرة مروحية من صيدا إلى مطار بيروت ومنه إلى الولايات المتحدة الأميركية على نفقة رفيق الحريري. عندما عاد إلى بيروت زرته في بيت شقيقته في منطقة قريطم وهنأته بسلامة نجاته وبسلامة عودته. بعد تحرير صيدا عاد إلى مدينته. كنا جميعا نعتقد أن إسرائيل هي التي نفذت تلك الجريمة بسيارة مفخخة وضعتها أمام باب منزله. أما هو فقد أوصلته ظنونه وبعض المخبرين إلى أن ضباطاً وعناصر من الجيش اللبناني هم الذين نفذوا.
لم أكن أعرف عن ظنونه شيئاً، إلى أن أتاني إلى منزلي في صيدا أقارب ومعارف يطلبون مني التدخل لديه لتأمين موعد لاستقبال الضابط في الجيش اللبناني توفيق التقي الذي علم من طريق إحدى النشرات الصحافية أنه متهم مع عناصر أخرى من جهاز المخابرات بوضع المتفجرة. بعد أن فشل الضابط في الحصول على موعد عبر توسيط بعض قيادات المدينة، ولست أعلم ما إذا كانت تلك القيادات قد رفضت التوسط أو أن مصطفى سعد هو الذي رفض الوساطة، جاء يطلب مني أن أحاول شخصياً، ونجحت في تأمين موعد للقاء بينهما.
ربما لم يكن مصطفى سعد مقتنعاً بجدوى اللقاء ثم عدل عن قراره، وربما قرر أن يرسم خطة للنيل من الضابط، وربما قبل وساطتي تقديراً منه لعلاقة نشأت بيننا على امتداد سنوات وقامت على ثقة وتعاون طيلة وجودنا معاً في القيادة المشتركة اللبنانية الفلسطينية، إذ إنني كنت بمثابة مسؤول الإعلام، أو على الأقل مسؤولاً عن كتابة البيانات الأسبوعية ونصوص المؤتمرات الصحافية فضلا عن كتابة بعض خطاباته، وكثيراً ما كنا نلتقي بعد عمل النهار في منزلينا أو في منزل الصديق المشترك عبد الأمير عسيلي رفيقه في الحزب وفي الدراسة في الاتحاد السوفياتي، وقد تعززت تلك العلاقات أكثر فأكثر يوم نقلته زوجتي من البقاع إلى صيدا، وتمكنت من أن تجتاز به وبنجاح كل الحواجز الإسرائيلية والقواتية الممتدة من صوفر إلى جسر الأولي، في رحلة مموهة بوجود شلة من الرفيقات في سيارتها وموكب من سارات أخرى لا يعرف سائقوها سوى الانضباط في الموكب وراء سيارة تويوتا صفراء كانت تقودها زوجتي دنيا. من بين هؤلاء شبيب ذياب الذاهب إلى النبطية لعقد قرانه على مريانا الخياط. المهم أن الزعيم الصيداوي استجاب لطلبي ووافق على استقبال قريبي الضابط في الجيش اللبناني.
في الموعد المحدد نقلته بسيارتي ذهاباً إلى بيت مصطفى سعد وإياباً إلى منزله الكائن في محلة بيوت الضباط في المدينة. عمدت ألا أشاركهما في ذلك اللقاء وألا أطلع على ما دار بينهما رغم إصرارهما على حضوري معهما. لكنني كنت اتخيل السيناريو بينهما وأقدّر أن الأول يريد أن يقدم الأدلة على براءته، فيما يسعى الآخر إلى الحصول منه على معلومات تؤكد ظنونه أو تساعده على معرفة الحقيقة، بصفته مسؤولاً عن جهاز المخابرات في منطقة الجنوب خلال تلك الفترة التي حصلت فيها عملية التفجير.
قمت بمهمة الوساطة من غير تردد، لأن الذين طلبوها مني أقارب وأصدقاء، أولهم السيد محمد حسن الأمين ومن بينهم أهل زوجة الضابط التي كان والدها مديراً لمدرسة عربصاليم الرسمية حيث كنت مدرّساً ودنيا تلميذة، ووالدتها قريبة لي من آل مقلد)، فضلاً عن أنني وتوفيق كنا معاً طالبين في مدرسة واحدة في تكميلية جباع الرسمية وأنا أكبره بسنوات قليلة، ثم صديقين في بداية الحرب الأهلية يوم سكن بعد زواجه في جرجوع وانضم لفترة قصيرة إلى جيش لبنان العربي، ومن بينهم زميلان في التدريس، شقيقه حسن التقي الذي كانت تربطني به علاقات زمالة وصداقة عميقة، وحكمت فرحات من عربصاليم.
كنت حريصاً خلال مهمتي على أن أبقى بعيداً عن التفاصيل التي سيتداولان بها، حتى لا يزج إسمي في يوم من الأيام في معلومة أمنية، فضلا عن حرصي المزدوج، أولاً على أن أستجيب لنداءات الصداقة وعلاقات القربى وأساعد الضابط على تحقيق رغبته بإثبات براءته، وثانيا على ألا أتهم بالدفاع عن ضابط مخابرات أمام رفيق لي في النضال الوطني، ولذلك اكتفيت من الأمر بتسهيل التواصل بينهما من غير أن أطلع على ما يدور بينهما من أحاديث خلال لقاءاتهما.
اللقاء الثاني تم بناء على طلب مصطفى سعد، وقد استخدمنا الإجراءت ذاتها، أي أنني توليت نقل الضابط إلى بيت مصطفى سعد وإعادته إلى منزله بسيارتي، وتكررت تلك اللقاءات ولم أكن أعرف ما يدور فيها، إلى أن طلب مصطفى، ذات يوم، اللقاء بالضابط، وكنت حينها قد سافرت لأناقش رسالة الدكتوراه في فرنسا، فقامت زوجتي بالمهمة ذاتها نيابة عني وبحرص أكبر من حرصي.
بعد أيام على عودتي من السفر طلب إلي مصطفى الحضور إلى منزله أنا وزوجتي، ولدى وصولنا أشار إليها أن تقوم بالمهمة ذاتها. بانتظار عودتها مصحوبة بالضابط طلب من أحدهم أن يعد لنا فنجانين من القهوة. لم يكن في مقدور أحد أن يعرف ما يمكن أن تخفي الملامح على وجه من غير ملامح، نصفه مغطى بنظارتين قاتمتين على عينين مطفأتين. كنت أنظر إلى تضحياته باحترام كبير وكنت أعتقد أن فقد البصر يجعل البصيرة أكثر صفاء ونقاء.
لم يظهر على ملامحه أنه كان يخطط لخطف الضابط. ربما لم يتجرأ على "استخدامي" شخصياً لمهمة دنيئة كهذه، لكنه لم يكن يقدّر أن زج اسم زوجتي بدلاً مني لن يبدل في الأمر شيئاً، بل قد يزيده سوءاً لأن الآخرين سوف يذكرون من بين الوقائع أن الضابط خطف وهو في سيارة امرأة ليست زوجته، وهم لا يعرفون شيئاً عن علاقات القربى التي تجمعنا. تلك كانت الفرضية الأولى التي علق بها أحد قضاة التحقيق عند سماعه الخبر، وهي فرضية معقولة لحظة الاختطاف، وتلك كانت فرضية أحد أصدقاء الضابط عند استقباله في بيته بعد تحريره، وهي فرضية حمقاء بعد مرور حوالي عامين على الحادثة.
قبل أن نرشف القهوة، رن جرس الهاتف، حمل أحد مرافقيه السماعة وأخبره على مسمعي أن ملسحين اعترضوا سيارة تويوتا صفراء، السيارة ذاتها التي أقلت مصطفى سعد من بعلبك إلى صيدا، وخطفوا رجلاً وامرأة كانا في داخلها ولاذوا بالفرار. قلت له "عملتها" يا بو معروف؟ يا عيب الشوم. نهضت عن الأريكة من غير أن أرتشف قهوتي، ووجهت إليه كلاماً قاسياً وهددته بعقد مؤتمر صحافي أروي فيه تفاصيل ما حصل إن لم يعد الضابط سليماً معافى، ولن أقبل بعودة زوجتي من دون عودته، وخرجت من منزله مشحوناً بمشاعر مركبة من الخوف والقلق والحزن والغضب والقرف والشفقة .
كان علي في تلك اللحظة أن أخبر طرفين بما حصل، قيادة الجيش اللبناني في الجنوب بشخص العميد قاسم سبليني، وقيادة الحزب الشيوعي. توجهت مشياً على القدمين إلى حيث ركنت سيارة زوجتي، في مكان غير بعيد عن منزل مصطفى سعد، وقصدت منزل الصديق الدكتور عباس أبو خليل في منطقة الهلالية وذهبنا معاً إلى منزل العميد، وأجريت الاتصال بقيادة الحزب. فيما بعد، أخبرني مسؤول جهاز المخابرات في الجيش اللبناني في الجنوب العميد محمد عباس أنه هو الآخر كان على علم بكل التفاصيل وعلى تواصل مع مصطفى سعد لنقاش الأمر.
ردة فعل قيادة الحزب كان هستيرياً. أدانوا مجرد موافقتي على القيام بدور الوساطة. اكتشفت يومذاك إحدى أكبر العاهات في العمل الحزبي، إذ يتحول الفرد فيه إلى كائن سياسي بل إلى كائن حزبي فحسب، فتنتفي عنده كل الأبعاد الأخرى لكينونته كإنسان، ويفقد جزءاً من تقديره للعلاقات بين البشر وللقيم الاجتماعية والاخلاقية التي يتحلى بها بفضل انتمائه إلى الجماعة، إذ تقتضي أولوية الانتماء إلى الحزب طمس الانتماءات الأخرى التي يمكن أن تتكون بفعل علاقات الصداقة أو القربى أو الجيرة.
لست أعلم ما إذا كانت تلك العلاقات أشد وطأة في الأحزاب الأصولية الأخرى. حتى أن المضمون السياسي لمثل تلك العلاقات راح يتراجع ويفقد معناه بعد أن غرقت البلاد في حروب أجهزة أمنية قوامها المكائد والأفخاخ وآلياتها الاغتيالات والسيارات المفخخة وقياداتها خبراء، لا في العلاقات بين البشر بل في التجسس على الآخرين. تلك كانت في ذلك الوقت حالة قياداتنا الحزبية الغارقة في صراعات دموية مع أطراف أصولية، ولا سيما بعد أن بدأت أجهزة النظام السوري تضيّق الخناق على مقاومة الحزب الشيوعي اللبناني للاحتلال، أي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ما دفع الحزب إلى تغليب الأعمال الحربية والعسكرية والأمنية على نشاطاته، وإلى تقليص حيز العمل السياسي، خصوصا بعد المعركة التي خاضها بالتحالف مع الحزب الاشتراكي لإخراج حركة أمل من شوارع بيروت، وهي المعركة التي اعتبرها النظام السوري موجهة ضده، فأعاد إدخال قواته مجدداً إلى العاصمة بعد أن كان قد انسحب منها أمام تقدم القوات الاسرائيلية. تذكرت حينئذ جورج كريكوريان. كان ذلك القواتي بشراً قبل أن يكون حزبياً، أما بعض رفاقي في القيادة فحسبت أنهم تحولوا إلى كائنات سياسية فحسب.
بيد أنني أشهد أن أصدقاء ورفاقاً كثيرين احتضنوني وتضامنوا معي، وكان أكثرهم تعبيراً عن هذا الموقف الدكتور حكمت الأمين الذي قال لنا أنا وزوجتي، أنتما افتديتماني، كنت سأقوم بمهمة الوساطة لو لم تقوما أنتما بها. وروى لنا كيف خرج من النبطية، يوم صار وجوده فيها مهدداً من جيش الاحتلال، فوجد من يساعده على الانتقال إلى صيدا، راهبات من النبطية نقلنه بسيارتهن إلى صيدا، والضابط توفيق التقي بالذات ساعده على الانتقال إلى الضفة الشمالية من نهر الأولي، وكلف بالمهمة رقيباً في الجيش اللبناني، حمل الطبيب على ظهره ونقله عبر مياه النهر إلى الضفة الأخرى. نعم، يمكن أن يكون المرء ضابط مخابرات وفي الوقت ذاته ذا شهامة ويمكن أن يكون الرقيب الأول كتائبياً وينقذ شيوعياً من كيد العدو، في حين أن التفكير الحزبي الجامد والمغلق لا يرى في مخابرات جيش السلطة سوى العداء ولا يضمر لها سوى الضغينة.
حكمت الأمين هو من أكثر أطباء الحزب ارتباطاً والتزاماً وتضحية، وأكثرهم تواضعاً. خرج من النبطية قسراً وسكن في الرميلة بالقرب من صيدا واستشهد فيها بالقصف الإسرائيلي. أتاني أحدهم ذات يوم مع ملف يحتوي على وثائق وشهادات وصور تخص الطبيب الشهيد، وطلب مني أن أستند إلى هذه الأوراق لتأليف كتاب عن حكمت الأمين يمكن إصداره في الذكرى السنوية لاستشهاده. فيما أنا منهمك بتصميم الكتاب، كان الحزب مشغولاً بالجملة التي ستكتب على لوحة الإعلان الخاصة بمستشفى النجدة الشعبية في النبطية التي ما كان يمكن أن تبنى لولا جهود ذاك الطبيب الشيوعي المتفاني. استكثرت القيادة يومذاك أن يقتصر الإعلان المكتوب على اللوحة على عبارة، مستشفى حكمت الأمين. لذلك حين سئلت بعد فترة عن الملف أنكرت وجوده معي، إذ كنت متيقناً أنهم سيتاجرون باسم الشهيد. بعد خمسة وعشرين عاماً سلمت الملف لعائلة حكمت الأمين، وتألمت حين اكتشفت أن الخلافات خرجت من بين جدران الحزب ودخلت إلى بيوت الرفاق وعائلاتهم.
لم أستطع أن أفهم موقف القيادة، وهي التي كانت غارقة إلى ما فوق إذنيها في التنسيق مع الجهاز الأمني الحاكم في لبنان آنذاك. كيف تكون المخابرات سيئة بالمطلق هنا ورائعة بالمطلق هناك؟ وتساءلت لماذا أنقذني ذاك الشاب الخلوق من موت محتم كان ينتظرني في أية لحظة لو أتيح لرفاقه أن ينفذوا قرارهم باغتيالي؟ أجل، في غمرة نضال تحوّل في معظمه إلى عمل أمني، يصير من الصعب أن يلتفت الحزبي إلى القيم التي لا يمكن إلا أن تكون غريبة عن منطق الحرب وقيمها.
نفذت تهديدي ولم أقبل بتحرير زوجتي دون تحرير الضابط، وصمدت على هذا الموقف اسبوعاً كاملاً، إلى أن طلب مني مصطفى سعد موافاته بحثاً عن مخرج. زرته في بيته وقلت له كلاماً شديد القسوة فأتعبت عينيه المطفأتين حتى البكاء، وربما تعب ضميره فلم يعد قادراً على متابعة البحث معي. اعتذر وطلب مني أن أستكمل النقاش مع سواه من المقربين، بحثا عن حل.
قال لي قريبه، مصطفى ارتكب بحقك خطأ فادحاً، نظراً لما بينكما من علاقات ود وخبز وملح وتعاون سياسي، ولا شك أنه كان في لحظة توتر حين فعل ما فعله. ولا يمكن أن يعوض هذا الخطأ شيء. لكننا، مع هذا، نطالبك بمساعدتنا، لأن مصطفى المثخن بجراح تضحياته الكبرى، وأنت تعرفها، يساوره الظن حتى حدود اليقين، بأن توفيق التقي هو المسؤول عن عملية التفجير، وأن من المستحيل إطلاق سراحه لاستحالة اعتقاله مرة أخرى. بدا واضحاً لي من كلامه أن تحرير الضابط شبه مستحيل، فصار همي كيف يمكن أن أنقذ حياته. لكنني، بالحدس، شعرت بنوع من الطمأنينة على حياته لأن مصطفى سعد لا بد أن يكون قد شعر بهول ما فعله حيالي وحيال الجيش اللبناني الذي ما زال توفيق التقي ضابطاً عاملاً فيه. حين لم أستطع أن أقنعه بتحريره، وافقت على أن يعلن مصطفى سعد في بيان صحافي مسؤوليته الشخصية عن حياة الضابط المخطوف.
عامان كاملان تعرض الضابط خلالهما للتعذيب، وتقلصت التهمة في نهاية رحلة العذاب هذه إلى حدودها الدنيا، حين اقتنع مصطفى بأن توفيق التقي لم يكن مسؤولاً عن تنفيذ التفجير، وبأن خطأه يقتصر على كونه كان على علم بذلك فحسب وأحتفظ بالمعلومة لنفسه. هذا ما قاله لي بعد أن أفرج عنه. اقتنع مصطفى سعد بعد حصوله على معلومات عن أن منفذي التفجير كانوا عملاء للمخابرات الإسرائيلية ومعتقلين لديها وفضحوا بعضهم بعد خلافات بينهم داخل المعتقل.
عامان كاملان من تعذيبنا نحن بسهر يومي معه مع شلة من الأصدقاء كل يوم في بيت أحدهم، علي غريب، عباس علوية، عبد الأمير عسيلي وآخرين، ولم يثنه السهر ولا الصداقة عن إصراره على تعذيبنا نحن في بيوتنا، إلى أن حان وقت دخول الجيش اللبناني إلى مدينة صيدا، في طريق مروره إلى إقليم التفاح، للفصل بين قوات حركة أمل وحزب الله، بل لإعطاء هدنة في الصراع بين النفوذين السوري والإيراني على الجنوب اللبناني وعلى لبنان. لم يخبرنا مصطفى سعد كيف حرر الضابط وكيف سلمه لقيادة الجيش. أخطأ بحقي عند اعتقاله وكذلك عند تحريره، إذ كان عليه أن يطلعني على قراره حتى لا يستخدم غيابي عن إجراءات تحريره مادة لتخريب علاقتي بأقربائي وأصدقائي من المحيطين بتوفيق التقي.
خطأ مصطفى سعد بحقي قليل بالقياس إلى خطأ الحزب. استخدمت الدوائر العليا ضدي سياسة التكفير والتشهير، فاستدعاني وفد من القيادة، مؤلف من عضوي المكتب السياسي يوسف مرتضى وفاروق دحروج، إلى مقر الحزب في الرميلة ليحقق معي ويطالبني تلميحاً بالاستقالة من اللجنة المركزية لأن عضويتي فيها باتت تشكل، في نظرهم،"عاراً" عليهم، وجاءت ماري الدبس باسم المكتب السياسي تطلب من قيادة الجنوب استبعاد زوجتي من قيادة لجنة حقوق المرأة، واستخدمت أحقر أساليب الاقناع، واقترحت استبدالها بمريم رفيقتها في اللجنة، لكن مريم ردت عليها، بتقديم استقالتها من كل العمل النسائي، احتجاجاً على الأساليب غير الأخلاقية التي تم استخدامها اليوم ضد إحدى الرفيقات وقد تستخدم غداً ضد أي رفيقة أخرى.
بعد فشل المحاولة مع رفيقات دنيا في الجنوب، لجأت الرفيقة ماري إلى لجنة المحافظة وكررت الطلب. عندما رفضت لجنة المحافظة لجأت إلى الهيئة الإدارية في لجنة حقوق المرأة في بيروت التي رفضت بدورها، فلم يعد أمامها غير استصدار قرار من المكتب السياسي بعزل دنيا مقلد من قيادة لجنة حقوق المرأة في الجنوب.
وهو قليل أيضاً بالقياس إلى خطأ الأقارب. تم تحرير توفيق التقي وتسليمه إلى قيادة الجيش. بانتظار وصوله إلى منزله في بيوت الضباط في مدينة صيدا، كانت عائلته بانتظاره مع عدد من رفاقه الضباط. في اللغة الشعبية، يقال هذا "كلام ضباط" للإشارة إلى صحة مضمونه، غير أن أحد الجهلة من الضباط تفوه بكلمة أساءت لعلاقتي الودودة بأقاربي من أهل توفيق قائلاً لهم، "نيالكم بهالأقارب"، في تلميح منه إلى مسؤوليتي عن عملية الخطف، وعلمت عن طريق الصدفة بأن "الأقارب" بنوا على هذا التلميح موقفاً وأطلقوا حكماً مبرماً وصلني عبر مجموعة من القرائن من بينها موقف شقيق ندى الضابط في الجيش اللبناني الذي لم يكلف نفسه عناء سؤال من يعنيهم الأمر في الجيش، أو سؤال وثائق المحكمة العسكرية التي اعتقلت منفذي عملية الخطف وحققت معهم أو سؤال قائد الجيش في الجنوب يومذاك العميد قاسم سبليني أو مسؤول المخابرات العميد محمد عباس.
كنت في سفر إلى الاتحاد السوفياتي والتقيت هناك بمحي الدين فرحات شقيق حكمت فرحات صديقنا المشترك الذي كان بين من طلبوا مني التدخل لمساعدة توفيق التقي على تأمين التواصل مع مصطفى سعد. بعد عودتي من السفر زرت حكمت في بيته لأنقل له تحيات شقيقه. تزامن توقيت الزيارة مع دخول الجيش إلى إقليم التفاح بعد المعارك الضارية بين أمل وحزب الله، أو بالأحرى بين سوريا وإيران. لم أجده هناك لأنها زيارة من غير موعد، إذ لم تكن وسائل التواصل متوافرة في حينه. أخبرت زوجته بمضمون الزيارة، لكنه استخدم التأويل عن حسن نية، وقدّر أن الهدف من زيارتي هو التوسط لدى أهل زوجة توفيق التقي تفادياً لأي إجراء قد يتخذه الجيش ضدي بعد دخوله إلى إقليم التفاح. علمت ذلك من أحمد محمود مقلد شقيق زينب مقلد، أي والدة ندى زوجة توفيق التقي.
ذات مساء، كنت مدعواً إلى المشاركة في برنامج حواري على قناة العالم، ومقرها في منطقة بئر حسن. فيما أنا على الرصيف متجه إلى مبنى المحطة رأيت شخصاً يتمشى على شرفة منزله في طابق لا يعلو عن الرصيف أكثر من متر، وإذا به توفيق التقي بالذات. الصدفة خير من ميعاد. طلبت منه أن يستقبلني على فنجان قهوة بحضور زوجته ندى. في تلك الجلسة القصيرة برأتني ندى واتهمت زوجتي صراحة بتدبير عملية الخطف، ودليلها الوحيد على ذلك أن دنيا نقلت عملها الوظيفي من مدرسة الرميلة إلى سرايا صيدا الحكومي بمساعدة مصطفى سعد. والحقيقة أن انتقالها كان قسرياً، وقد حصل بسبب مضايقات مارسها الرفاق في الحزب الشيوعي على زوجتي وعلى الكادر التعليمي الذي تضامن معها يوم أعلن الإضراب استنكاراً لخطفها. خرجت منزعجاً من كلامها حتى لو كان القصد الدبلوماسي منه تبرئتي.
من مفارقات العلاقات بين البشر، أن زوجتي طالبت بنقل وظيفتها في مدرسة الرميلة الرسمية لكي تتخلص من المحيط المسيطر على المدرسة وعلى القرية والذي كانت تسوده أجواء النميمة والقال والقيل بين المحازبين الشيوعيين الذين احتلوا بيوت القرية بعد أن هجر سكانها، ولم يكن ممكناً نقلها إلى مدينة صيدا إلا عن طريق الانتداب إلى وظيفة إدارية في سرايا صيدا الحكومي، وما كان يمكن حصول ذلك من غير مساعدة مصطفى سعد وتدخله المباشر مع محافظ المدينة. ومن حسن حظها أنها انتقلت إلى عملها الجديد في إدارة يرئسها شخص من خيرة أصحاب الكفاءة والأخلاق العالية والثقافة وكرم النفس، شمس الدين ناصر الدين الذي وافق على منحها إجازة طويلة دامت عامين، وغطى غيابها لتمكينها من تربية أبننا كريم. قبل ذلك سبق لمدير مدرسة الرميلة الياس ثابت أن حماها لمدة عام كامل في ظل الاحتلال الاسرائيلي.
في صيف 2016 نشرت مقالة شكوت فيها أوجاعي من الحزب الشيوعي ومن مصطفى سعد وحسبت أن تكون كافية لرأب الصدع العائلي، لكن ردة الفعل عليها لم تكن كما اشتهيت. ذكرت في المقالة أن صداقة متعددة الأواصر كانت تجمعني بمصطفى سعد. فأنا من قلة يعرفون أنه انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني يوم كان طالباً في الاتحاد السوفياتي، وحافظ على صداقته للحزب ولمن يعرفهم ويعرفونه من أعضائه، بعد أن عاد لإدارة ميراث من العمل الوطني تركه له والده معروف سعد، الذي بدأت الحرب الأهلية باغتياله، قبل أن تبدأ ببوسطة عين الرمانة. وأنا من قلة كانوا يعدون له الخطابات المكتوبة ونصوص مؤتمراته الصحافية، ومن قلة كانت تلتئم في لقاءات دائمة معه ومع عائلته.
استناداً إلى علاقة الصداقة النضالية هذه، ألقت الظروف على عاتقي مهمة الحؤول دون زيارة كان ينوي مصطفى سعد، زعيم الحركة الوطنية اللبنانية في صيدا، القيام بها إلى القصر الجمهوري لتهنئة الرئيس بانتخابه رئيساً، وذلك لحرمان الرئيس من مباركة المدينة السنية. استجاب أبو معروف لطلبي، فلبى دعوتي إياه مع أصدقاء آخرين على العشاء وطال السهر، ولم يأوِ إلى فراش النوم إلا مع الفجر إلى أن انقضى موعد الزيارة. ولست أعلم بعد مرور هذا الوقت، ما إذا كنت قد صنعت جميلاً أم أذية بحق الوطن؟
غير أن مصطفى سعد، بعد حادثة التفجير التي تعرض لها، بدّل موقفه من رئاسة آل الجميل ومن "جيشهم" وقيادته وجهاز مخابراته، فاختار أن يوظف صداقتي المشتركة معه ومع أحد أقربائي من ضباط الجيش اللبناني، ليعتقله متهماً إياه والجيش وجهاز المخابرات بالشراكة في عملية التفجير. كان خطأه بحقي شديد الوطأة عليه، شعر بالندم وأدمعت عيناه خلف نظارته السوداء، وانسحب طالباً مني البحث عن مخرج مع أحد معاونيه.
في تلك المقالة التي حملت عنوان، أسرار في شهر بشير الجميل، إشارة إلى ما حصل يوم انتخابه، وأخرى إلى ما حصل يوم اغتياله، ولا سيما اختطاف الرفيق محي الدين حشيشو. بدل أن تكون المقالة نافذة على رأب الصدع مع أصدقائي وأقاربي من عائلة توفيق التقي، استخدمها صحافي جاهل من كتاب الصحيفة ذاتها من آل الحج علي للرد عليّ في أمر لا يعرف عنه شيئاً، مسيئاً بذلك إلى الزمالة ومنتهكاً آداب الصحافة. ظننت، ولست أعلم في أي باب يندرج الظن، وهل ينطبق عليه القول إن بعض الظن إثم أو القول إن سوء الظن من حسن الفطن، أن رئيس التحرير هو الذي ورط الصحافي في تلك الإساءة. والله أعلم.
كشفت تلك المقالة عيباً آخر من عيوب النضال الوطني من أجل التحرر والتقدم. الحرية في رأس لائحة شعاراتنا ويليها شعار الديمقراطية، وهو الذي شحنه اليسار الشيوعي بمعنى المساواة. ديمقراطية التعليم مثلاً كانت تعني أن يحصل المواطنون على فرص متساوية للتعلم، لكن التشديد على تكافؤ الفرص عطل مبدأ الكفاءة في كل ميادين الحياة العامة، بما في ذلك في حقل التعليم. أما الديمقراطية الحزبية فكانت تعني مثلاً أن يتقاسم الطبيب والمقاتل بالتساوي توزيع المنشور الحزبي والقيام بواجب الحراسة الليلية لمقر الحزب، ثم تكرس هذا المعنى حين فرضت وسائل التواصل الإلكتروني نوعاً جديداً من المساواة في فرص التعبير عن الرأي، فألغت حرفة الكتابة وآدابها وفرضت أساليب ومعايير جديدة تتناسب مع لغة الشتيمة وأشكال التعبير الزقاقية والتقاليد الميليشيوية ، فنالني منها ما يفيض عن طاقة الجهلة من رفاق النضال ممن انتقلوا إلى جبهة الممانعة.
الحادثة الأولى، أي اغتيال حسن حمدان أملت علي أن أقرأ تجربتي النضالية بعين نقدية فتوصلت إلى إعادة النظر ببرنامج النضال الوطني والتحالفات. سنوات عديدة مرت نضجت خلالها أفكاري النقدية ونظريتي حول أولية الدولة فنشرتها في كتاب حمل عنوان أحزاب الله.
أما الحادثة الثانية فكم رغبت وتمنيت أن تموت ظنوني وظنون مصطفى سعد وظنون أقاربي. للأسف، مات مصطفى قبل أن تموت ظنونه، توفي توفيق التقي قبل أن تعود علاقاتنا معه ومع أهل زوجته إلى سابق عهدها من الود والصداقة- ومنعتني الكورونا من المشاركة في تشييعه واكتفيت بتقديم التعازي على وسائل التواصل إلى شقيقه حسن الذي كان مثالاً للحفاظ على الود والصداقة.
مقطع من سيرة ذاتية