رؤية فلسفية: اشكالية لقاء وتفاعل الثقافات بين مجتمعات في عداء سياسي وقومي


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 7063 - 2021 / 10 / 31 - 11:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

*ثقافة الدولة المتفوقة اقتصاديا وعسكريا تتصرف كثقافة متفوقة، مستعلية وقادرة
على السيطرة وهذا في صميم رفض الثقافة العربية التطبيع مع الثقافة الاسرائيلية *

طرح ويطرح بتواصل موضوع التطبيع العربي مع اسرائيل، وتزداد اهمية هذا الموضوع في وقتنا الراهن مع اتساع حالات التطبيع بين دول عربية واسرائيل، بكل ما يتعلق بموضوع الحضارات والثقافات وقضايا التطبيع الثقافي بين الشعوب، وتحديدا بين العرب واليهود، بين الثقافة العربية والثقافة الاسرائيلية.
هذه النقاشات وصلت أحيانا لمستوى من الحدة تجاوزت حدود الحوار الى مستوى القاء الاتهامات بين المتحاورين، ولا ارى في ذلك أمرا غريبا، فالنقاش يتجاوز المفهوم الفكري المجرد الى قضايا أكثر عمقا وخطورة بالنسبة للمجتمعات العربية وآفاقها المستقبلية.
ضمن الرؤى السائدة، كانت رؤية ان اللقاء بين الحضارات او الثقافات، هو لقاء ممكن، بينما اللقاء بين المصالح السياسية هو الصعب والمعقد. وحدثت لقاءات سياسية واتفاقات سياسية، لبعضها كان أثرا سلبيا على الموقف السياسي العربي ـ مثل اللقاء والاتفاق الاسرائيلي المصري، الذي أخرج مصر الساداتية من المواجهة وحولها الى وسيط، أحيانا لا قيمة ولا وزن لوساطتها ولمواقفها السياسية … بل وأكثر من ذلك، لم يعد لمصر دورا عربيا في أخطر قضية عربية. وقد يكون تحييد مصر سبب مباشر وحاسم في اعاقة بناء استراتيجيات العالم العربي الاقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية، حول قضايا عربية بالغة الأهمية والتأثير على تطور العالم العربي .. ودولية تمتد الى قلب العالم العربي، وقد تكون مأساة العراق وسوريا وواقع لبنان وما يحيط به من مخاطر، واستمرار المأساة الفلسطينية، وظهور الاسلام الجهادي، هو نتيجة غياب فعل سياسي عربي مؤثر وقادر على التعامل مع الواقع الدولي والعربي.
اللقاءات والاتفاقات السياسية لم تنجح في التأثير، كما يظهر حتى اليوم …على أخطر قوة عربية في المواجهة – الثقافة العربية.
الثقافة وقفت بمعارضة كل الاتفاقات، ومثقفو النظام لم يفلحوا في تحقيق تحول ثقافي الى جانب سياسة التطبيع السياسية للنظام المصري، وفيما بعد الاردني وأنظمة أخرى مارست التطبيع السياسي بالخفاء او بالعراء، خاصة دول الخليج.
البعض رأى ان خوف العالم العربي / الشعوب العربية، والأصح القول ممثلي الثقافة العربية … من التطبيع الثقافي مع اسرائيل، هو خوف مبالغ فيه، ولا قاعدة منطقية له، وأن الثقافة العربية تملك أدوات متينة، وتشكل قاعدة مثالية للتفاهم وحل الاشكالات الباقية والصعبة، خاصة وأن الثقافة العربية ذات جذور عميقة في الأرض ووراءها تاريخ عظيم وواسع وممتد من الانجازات التي لا يمكن هزيمتها بالمواجهة مع ثقافات اخرى، وبالأساس مع الثقافة الاسرائيلية التي لا تزال ناشئة وبلا جذور عميقة. واستنتج البعض ان التطبيع الثقافي يجب ان يخيف الاسرائيليين الذين يضغطون ويتحمسون للتطبيع، ويرون فيه قاعدة من القواعد الأساسية والأكثر أهمية للتطبيع الشامل في الشرق الاوسط، ولجعل التطبيع السياسي حقيقة قابلة للتعايش في الشرق العربي، تتسابق اليها سائر الدول العربية، والأهم ان قبول اسرائيل ثقافيا سيعزز حقيقتها الشرق اوسطية.
هذا الموضوع اثار اهتمام أوساط واسعة من الأدباء وأصحاب الفكر والرأي … ولكن الكثيرين مع الأسف تحدثوا من منطلق سياسي عام أو عاطفي أو ديني. وما زال الموضوع يحتل حيزا من الكتابات والحوار في العالم العربي … ومراجعة لما ينشر تشير الى ان اكثرية المواقف انطلقت من قناعات سياسية ودينية وعاطفية، وتفتقد للرؤية المتكاملة الموضوعية، ولأي منطق فكري يمكن اعتماده كقاعدة للتعامل مع طروحات التطبيع التي تروجها بعض الاوساط السياسية والثقافية المرتبطة بأنظمة عربية متحمسة للتطبيع.
رؤيتي ان الموقف من التطبيع في إطار الاتفاقات المذلة، والظروف السائدة في الشرق الاوسط، لا يترك مجالا آخر غير الرفض. . خوفا من ان تتحول ثقافة الأقوى اقتصاديا وعسكريا وعلميا الى الثقافة السائدة والمسيطرة والمقررة.
هذه وجهة نظر، يمكن تطويرها والاضافة اليها، او رفضها ومعارضتها. الموضوع بالغ الأهمية والتركيب، ومليء بالتداخلات المتناقضة والمتماثلة، مما برز حتى اليوم في كتابات الرافضين للتطبيع. وما استغربه هو غياب اصحاب الشأن من سائر ذوي الاختصاصات الأكاديمية والفكرية من الخوض في هذا النقاش، من منطلقات رؤية علمية للمخاطر أو الايجابيات، إذا وجدت إيجابيات.
الثقافة ليست وقفا على الابداع الروحي فقط. الثقافة تشمل كل الابداع المادي للمجتمع ، وقد يكون خطر التطبيع اعظم شأنا على الجانب المادي في الثقافة – أي الانتاج الاقتصادي والتطور العلمي والاجتماعي للمجتمعات العربية … بتحويل العالم العربي الى سوق للإنتاج الاسرائيلي المادي، واضيف اني أرى ملامح سلبية في الاقتصاد والتطور الاجتماعي والعلمي في العالم العربي كلة وفي مصر على وجه الخصوص ، بدأت تفرض نفسها ، ربما نتيجة للتطبيع السياسي بين مصر واسرائيل ، او بتأثير لا يجوز الاستخفاف به للتطبيع ، واضيف ان تأثير هذا التطور السلبي سيطول، أو طال بنسب معينة ، الفكر والابداع الثقافي المادي والروحي .
ان موضوع الحضارة بحد ذاته هو مادة واسعة للغاية، وهناك تضارب في مفاهيمنا الحديثة عن الحضارة، ولكني اطرح وجهة نظري بتعميم، وانا على قناعة ان الحضارة في جذورها هي ‘المدنية‘ وتشمل كما اوضحت وأكرر مجموعة الانجازات المادية والروحية، وهناك دمج دائم بين مفهوم الحضارة والثقافة. ومع ذلك نجد أن المعنى السائد في المجتمعات الدمقراطية الغربية عن الحضارة هو كونها انجازات المجتمع المادية والتكنلوجية ولا يشملون الثقافة بتعريفهم، ويستعملون اصطلاح الثقافة للدلالة على القيم الروحية فقط – أي الابداع الادبي والفني والأخلاق والدين. لذلك من المهم ان نفهم ان صيغة صراع الحضارات تعني في المفاهيم الغربية الصراع بين التقدم الاجتماعي ، العلمي، الاقتصادي والتكنولوجي العاصف ، وبين مجتمعات متخلفة بمراحل تاريخية مخيفة عن ركب التطور ، وتعيش على هامش نظام العولمة – على هامش الحضارة ، وبدل المساهمة الحضارية ، تنشأ ثقافة روحية تبريرية متمسكة بالماضوية كطريق آخر في مواجهة المجتمعات الغربية المتطورة – هي ثقافة العجز ، تقود الى العدائية والخوف وكل الظواهر المقلقة التي نشهدها في العالم العربي اساسا ودول اخرى تسودها نفس الثقافة، وتنعكس عالميا في صور بشعة من الدموية المنفلتة.
البروفسور ادوارد سعيد، في كتابه الهام ‘الثقافة والامبريالية‘ ربط بين التطور المادي والتكنلوجي للنظام الرأسمالي – الامبريالي وبين تطور الثقافة. ورؤيته الهامة كانت ان الثقافة كلها هجينة، وبمقدار هجينيتها يكون ثراؤها. أي من الصعب الحديث عن ثقافة مجردة مستقلة نشأت خارج الحضارات. إذا كان هذا صحيحا تجاه الثقافة، فهو أكثر صحة تجاه الحضارة التي هي نتاج أولئك الذين اوجدوا الثقافة لتشكل مرآتهم الحضارية، لذا ليس بالصدفة، كما يستنتج … ان تطور الرواية (الثقافة) الانجليزية والفرنسية بهذا الشكل الواسع ارتبط مع نشؤ الامبراطوريتين القديمتين، انكلترا وفرنسا، بينما في امريكا بدأ التطور الروائي (الثقافي) مع بداية تطور الامبريالية الامريكية في القرن العشرين (ونفس الملامح يمكن ان نشاهدها في تطور الثقافة السوفياتية بعد ثورة اكتوبر). هذا يعني امرا هاما، بأن للثقافة دورها الاعلامي الشامل الداعم لدولها. نفس الدور تلعبه ايضا الثقافة الاسرائيلية. وفي جذر هذا الدور اظهار بدائية الاعداء وتخلفهم واظهار انسانية الاحتلال – الاستعمار، والحضارة التي يبشرون بها الشعوب المستعمرة والمتخلفة … بالطبع ليس بلا ثمن، والنموذج الاسرائيلي قد يكون أقرب وأبرز في اظهار ‘إنسانيته ‘ (!!) وليس مستهجنا ان الخطاب السياسي الاسرائيلي له تغطية ‘حضارية ‘في الغرب. والبكاء العر بي على التاريخ والأطلال غير مفهوم وممل !!
رفض العرب للتطبيع الثقافي مع اسرائيل يجب ان يكون في جذوره تشخيص صحيح لحالة الضعف والوهن السياسي والاقتصادي والمدني ، الحضاري والثقافي الذي يميز الحالة العربية غير القابلة للتغيير في ظل انظمة قبلية وطائفية.
الظن ان الحضارة العربية، الضاربة جذورها بالأرض والتاريخ هي قوة للثقافة العربية، هو مجرد وهم، ليس فقط لحالة الغربة بين الانسان العربي وثقافته، انما لاستفحال الجهل والبؤس الاقتصادي والعلمي والتكنلوجي والتخلف في التعليم. ان الفجوة الثقافية بين اسرائيل الصغيرة والعالم العربي آخذة بالاتساع. يكفي ان اعطي نموذج صغير. بعض الكتب في اسرائيل يباع منها أكثر من مائة وعشرين ألف نسخة. هل يستطيع أحد ان يشير الى كتاب عربي يوزع أكثر من ربع هذا الرقم ؟! واكرر ما سجلته سابقا في أحد مقالاتي، ميزانية ابحاث معهد واحد في اسرائيل (معهد وايزمان) تصل الى ملياري دولار سنويا. ولا اتحدث عن معهد التخنيون والجامعات الأخرى. بينما كل الجامعات العربية لا تتعدى ميزانياتها، من المحيط الى الخليج. ثمانمائة مليون دولار. قبل سنوات قليلة قرأت في الأهرام المصرية خبرا مزعجا. بأن ميزانية فريق للبحث العلمي في جامعة القاهرة يصل الى 365 جنية مصري في العام الواحد، اي جنيه واحد كل يوم …فهل سنلحق بالركب الحضاري لإسرائيل حتى يستطيع العالم العربي ان يطبع ثقافته معها، أو بمفهوم آخر. حتى يستطيع مواجهة الاستعمار الثقافي الاسرائيلي. ليس بالأدب فقط، انما بإنتاج الخيرات المادية والنهضة العلمية والفكرية، وبناء مجتمع الرفاه، حتى يستطيع ايجاد تغطية حضارية لخطابه السياسي في المحافل الدولية ؟!
قديما رأى العلامة العربي ابن خلدون ما هو صحيح حتى اليوم، قال: ‘لغة الأمة الغالبة – غالبة، ولغة الأمة المغلوبة – مغلوبة ‘. وأكثر من ذلك: اللغة العبرية اليوم أكثر طواعية من اللغة العربية ومليئة بالاصطلاحات المعاصرة التي اصبحت شائعة الاستعمال في العبرية، بينما في لغتنا العربية نستصعب ايجاد البديل العربي للاصطلاح، كما جاء في دراسة للبروفسور سليمان جبران، الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية في جامعة تل – ابيب عن التجديد في اللغة العربية، وان الترجمة من الانكليزية الى العبرية أسهل بكثير من الترجمة من الانكليزية الى العربية، الى جانب ان تطور اللغة العبرية في المائة سنة الاخيرة تجاوز تطور اللغة العربية. وآمل ان استعرض هذه الدراسة الهامة في مقال آخر، لما تتسم به الدراسة من أهمية حول التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة. ولكنتي اضيف أنى كمواطن في اسرائيل ومدير انتاج في الصناعات المعدنية، أجد سهولة أكبر في استعمال اللغة العبرية في كل ما يتعلق بالعلوم والتقنية واصطلاحات العمل. وحتى العمال البسطاء يجدون سهولة في فهم اصطلاحات العمل العبرية، ولو حاولت تعريبها، وقد حاولت فعلا ذلك، لما فهموا ما اريد منهم. واريد ان اذكر امرا هاما ومعبرا. حاولت قراءة كتاب‘الاستشراق‘ لإدوارد سعيد بالعربية، وترجمه كما أذكر البروفسور كمال أبو ديب. فعجزت عن فهم لغة المترجم، ولحسن حظي وجدت ترجمة عبرية رائعة للكتاب، واضحة ودقيقة. نفس المشكلة واجهتني مع ‘الثقافة والامبريالية‘ لنفس المترجم. فهل يتوقع أحد ان يجد قراء عرب لهذه اللغة غير الميسرة ؟! هل يتوقع أحد ان يؤثر الفكر المتنور لإدوارد سعيد على المجتمعات العربية بلغة من الصعب ان يفهمها حتى المثقفين العرب ؟؟
وأضيف ان المثقفين العرب في اسرائيل قرأوا ادوارد سعيد اما باللغة الانكليزية او العبرية، واعرف عددا منهم فشلوا في قراءة الاستشراق بترجمته العربية، ويهمني ان اعرف ردود فعل قراء الكتاب بالعربية.
كيف نطبع مع من سبقونا في تطوير لغتهم ايضا؟
ما أخافه ان يفرض التطبيع نفسه قبل نجاح العرب في خلق توازن مدني / حضاري. ولن استهجن، في هذا الواقع المتردي والعاجز ان تواجه الحضارة العربية ما هو اسوأ من كارثة فلسطين ثقافيا وحضاريا.