من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7048 - 2021 / 10 / 15 - 04:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في عصر الشاعر الكوفي أبو سفيان الثوري (716 - 778م)، لم يكن هناك سوى رجال الدين الذين يزعمون - كما يزعمون دائمًا - أنهم رجال علم، يحمون به المجتمع، خاطبهم قائلًا:
يا رجــالَ العــلمِ يا ملـحَ البــلدِ
القصد هو: من يصلح الذين يحافظون على المجتمع من الفساد إن هم فسدوا؟
نجد اليوم في مصر نخبًا فاسدة في جميع المجالات، كما نجد إجراءات رسمية تساعدهم على التمادي في الفساد، حتى أنَّ الأخيار الطيبين من الشعب فسدوا إمَّا بالفعل أو بالسكوت على الفعل!
كيف حدث ذلك، ولماذا؟
قبل اغتصاب العسكر للسلطة في مصر، كانت الدولة تدار من قبل مؤسساتها المدنية (المسماة في وقتها بالميري)، والتي كانت تؤدي العمل المنوط بها، في منظومة (شبه) حيادية، لخدمة الشعب، وكانت لذلك تجذب إليها الطامحين للالتحاق بها، أو التمرُّغ في ترابها، كما شاع آنذاك على ألسنة العوام. صحيح كانت هناك بيروقراطية ولكن من النوع المعتاد، المتوارث منذ قدماء المصريين، ولا تَتَعمَّد إذلال أو ابتزاز المواطنين، وكان هناك - بالطبع - قدر من الفساد، كما هو الحال في جميع دول العالم بلا استثناء، ولكن لا يضاها بما يحدث اليوم، بل كان بالإمكان معالجته بأساليب الديموقراطية الناشئة حينئذ. وعندما استقر الحكم للمغتصبين دون عناء، ولم يكن لديهم معرفة بأساليب السياسة الحقيقية، وتحت جذوة العاطفة الشعبية، سعوا إلى وأد الديموقراطية، ليريحوا أنفسهم، والعمل على غرس ”بيروقراطية الجيش“ - التي لا تصلح سوى للجيش وحده - داخل جميع المؤسسات سواء القديمة منها أو المستحدثة، وترسيخها بقرارات (سيادية)، وقوانين نفعية مفبركة ومطاطة. فكانت النتيجة أن تحوَّلت تلك المؤسسات (تدريجيًا) من خدمة الشعب إلى العداء الحاد للشعب، ومن احترام الشعب ومساعدته إلى احتقاره وإذلاله وابتزازه، ففسد المجتمع بدوره، وهكذا يكون الملح قد فسد بالفعل، وتتعفَّنت أو تنتَّنت السمكة من رأسها إلى أسفل جسمها، كما يقول المثل الشهير.
***
بسبب جهل الحكام وضعفهم وخوفهم على مناصبهم، أعطوا للجيش ميزات وتفضيلات خاصة وتركوه ينحرف عن عمله الأساسي ويتدخل بكثافة في جميع الشؤون السياسية للدولة، وأمام فشله المتكرِّر في القيام بمهامه، تحوَّل من العجز عن مواجهة الأعداء في الخارج إلى المقدرة على مواجهة الأعداء (المزعومين) في الداخل، وبالتبعية سقطت وزارة الداخلية والشرطة التابعة لها في قبضة العسكر، وكانت في طليعة المنحرفين عن أعمالهم، ممَّا جعل الحاكم بأمره البكباشي عبد الناصر صاحب الشعارات الوهمية، يطلق شعار: ”الشرطة في خدمة الشعب“، فازدادت الشرطة انحرافًا وابتعادًا عن آداء عملها، وتفرَّغت للعمل على خدمة وحماية الأسياد الجدد. وبمرور الوقت واضطراب الأحوال وتزايد الأهوال، إزداد الجيش والشرطة عداءً وإذلالًا للشعب!. تحوَّل الأخيار والأبرار؛ أصحاب الفضل في خدمة المواطنين وحمايتهم ووقايتهم من الفساد إلى أشرار؛ أصحاب الاعتداء والسجن والتعذيب والقتل والسلب والنهب والكذب وكل صنوف الفساد!
ما الذي جعلهم، وهم أبناء الشعب الطيبين، الذين جاؤوا من صُلْب المجتمع، ينزلقون هذا المنزلق الراديكالي الخطير؟
الإجابة أوضحتها تجربة ”سجن جامعة ستانفورد“ التي أجراها عالم الاجتماع الأمريكي الشهير ”فيليب زيمباردو Philip Zimbardo“ في عام 1973، ونشرها في كتابه: ”تأثير الشيطان (إبليس)، كيف يتحول الأخيار إلى أشرار، ترجمة: هشام سمير، مراجعة: هالة الجندي، الناشر: تكوين للدراسات والأبحاث 2019، يمكن قراءته وتحميله على الرابط التالي:
https://www.8gharb.com/كتاب-تأثير-الشيطان-كيف-يتحول-الأخيار-إ/
وهناك فيدو له، يشرح فيه التجربة على الرابط التالي:
https://www.ted.com/talks/philip_zimbardo_the_psychology_of_evil/up-next?language=ar
كذلك على عنوان الويكيبيديا العربية وصف لها:
https://ar.wikipedia.org/wiki/اختبار_سجن_ستانفورد
يشرح فيليب في هذه التجربة: كيف ولماذا نكون جميعنا معرَّضون لِغوَايَة “الجانب المظلم” في حياتنا؟، لمعرفة ذلك أنشأ سجنًا في الطابق السفلي من قسم علم النفس بالجامعة، يحاكي به السجون الحقيقية، وقام بآداء الأدوار متطوعون من طلبة الجامعة، قسَّمهم عشوائيًّا إلى حرَّاس وسجناء، ووَضع جدولًا زمنيًا لمراقبتهم يستمر لمدة أسبوعين. ولكي يحكم العمل ويعطيه النمط الحقيقي المتبع، ارتدى (الطلبة) الحرَّاس زي ضباط الشرطة، وأخذوا زملاءهم السجناء من بيوتهم مقيدين بالأصفاد ومعصوبي الأعين، وكانت القاعدة الوحيدة للسجن هي: لا قواعد ولا محظورات على الإطلاق .. على الحرَّاس اتخاذ كل الإجراءات اللازمة كما يحلو لهم، للسيطرة على السجناء، دون أية مساءلة من أي نوع.
وبعد ساعات قليلة من بدء التجربة، ظهرت نتائجها الكارثية، التي أثارت جدلا أخلاقيا واسعا في الأوساط العلمية .. إذ فوجئ فيليب أثناء مراقبتهم عبر شاشات المراقبة، التغييرات المرعبة الذي حدثت للحراس الذين يشعرون بعدم مساءلتهم مهما فعلوا..، فقد تحوَّلوا من التهذيب والهدوء ودماثة الخلق إلى الكراهية والحقد، وأصبحوا يتعاملون بخشونة وعنف مع (زملائهم) السُّجناء. رصد جميع التحولات التي مر بها المتطوعون على مدار الستة أيام التي استغرقتها التجربة قبل إنهائها، بدءًا من تجريد السُّجناء من إنسانيتهم، وتحويلهم إلى مجرد مجموعة من الأرقام المكدسة في مكان ضيق ومظلم، والحراس الذين يزهون بزي الضباط، قد لبسوا أقنعة تخفي هوياتهم، ومنحوا أنفسهم ألقابًا ورتبًا تدل على امتلاكهم للسلطة المطلقة، وراحوا يعاملون السجناء بفظاظة وغل، حتى أنهم أرغموهم على تنظيف المراحيض بأيديهم دون أدوات، إضافة إلى الكثير من الأعمال المُذِلَّة الأخرى، مما نجم عنه إصابة هؤلاء الفتية الطبيعيين بالإجهاد العصبي الشديد والانهيار النفسي الحاد.
تدهورت الأمور داخل السجن، وقام السجناء بتنظيم تمرد، شعر الحرَّاس على إثره بالخطر، فزادوا من اعتدائهم العنيف ضدهم، وسبّوهم بأبشع الألفاظ، وطبَّقوا عليهم نظام الحرمان من النوم وأشياء أخرى بشعة. وتحت هذه الضغوط، أخذت الأوضاع في الانهيار والتدهورَ.
إعترف فيليب أنه هو نفسه، كاد ينزلق بالمثل إلى الشر دون أن يدري، حيث كان على استعداد للاستمرار في التجربة حتى نهايتها دون مبالاة بما يحدث، لولا أن صرخت فيه إحدى مساعديه في اليوم الخامس، قائلة: “أوقف هذه التجربة. إن ما تفعله بأولئك الفتية لأمر فظيع؛ إنهم ليسوا سُجناء، وهؤلاء ليسوا حراسًا، إنهم فتية صغار، وأنت المسؤول عما يحدث”. فأوقفها في اليوم التالي، خوفًا من أن يتطور الوضع إلى الأسوأ. ومن الطريف أن هذه الفتاة الشجاعة أصبحت زوجته فيما بعد.
توصَّل فيليب من هذه التجربة، رغم قصر مدتها، إلى نتيجة أصبحت تشير إليها الآن جميع مراجع علم النفس الاجتماعي والسياسي .. هي أن ”السلطة المطلقة تخرِج أسوأ ما في النفس البشرية“.
وخلص في تحليله للأحداث إلى أن:
1- الخط الفاصل بين الخير والشر لدي الإنسان ليس ثابتًا وغير واضح؛ بل هلامي متحرِّك ومرن، وينتابه الغموض والضبابية، ويمكن تخطيه بسهولة.
2- الدوافع لارتكاب الشر يمكن تقسيمها إلى فئتين: الأولى: تتعلق بالسمات الشخصية والعادات الموروثة والعوامل البيئية التي نشأ عليها الشخص، ويسميها علماء النفس بالدوافع النزوعية dispositional، والثانية: تتعلق بالموقف أو الوضع الذي يتعرض له الشخص، والأدوار التي يتحتم عليه أن يقوم بها وفقًا للثقافة السائدة والسياسة المتبعة والنظام الحاكم، ويسميها علماء النفس دوافع الموقف situational. وهي التي تلعب الدور الأهم في التحوُّل إلى الشر.
وشبه هذا التحوُّل بالانزلاق على منعطف يمر بسبعة مراحل، يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولًا: القيام بالخطوة الأولى، وهي عادة ما تكون صغيرة وبسيطة وتتم بغفلة ودون تدبر كالهروب مثلًا من دفع تذكرة المترو، الغش في الامتحان، أو أي شيء بسيط آخر يرتكبه المرء ويمر بسلام، فيرى أنه لن يحدث شيء ما، إذا تمادى في فعله.
ثانيًا: تجريد الآخرين من إنسانيتهم dehumanizations، أي تحويلهم إلى أرقام كما يحدث في السجون، وحشدهم في غرفة ضيقة ومظلمة كالدجاج، والحديث عنهم بلفظ الغائب “هم”. وقيام وسائل الإعلام بدور كبير في شيطنتهم وعزلهم وتجريدهم من هويتهم الإنسانية.
ثالثًا: تجريد الشخص من فرديته deindividualization، بأن يخفي الشرير شخصيته عن الضحية، إما بارتداء القناع أمامها أو بعَصْب عينيها.
رابعًا: تشتيت المسؤولية الفردية، بحيث لا يمكن إلقاء المسؤولية على فرد بعينه وتوجيه الاتهام له أو محاسبته.
خامسًا: الطاعة العمياء للسلطة سواء كانت جيدة أو سيئة.
سادسًا: الانصياع للعرف السائد، عندما يكون المرء جزءًا من القطيع، ولا يريد الخروج عمَّا يقبله أو يرفضه القطيع.
سابعًا: اللامبالاة بما يُرتَكَب من شرور ضد الآخرين، والتقاعس والسلبية تجاهها.
***
إن جميع نظم الحكم الرشيد في العالم تحرص أشد الحرص على قاعدة حصر النفوذ والسلطة وضبط وربط المجتمع في أيدي المؤسسات الحيادية للدولة، بحيث لا تفرِّق بين أحد من المواطنين، والتصدِّي بقوة وعزم لكل من يحاول كسر هذه القاعدة، حتى لا يتفشَّى الفساد، وتتفتت الدولة إلى عصابات أو تكتلات تتصارع بأنانية على مواردها. بينما في مصر ومنذ اغتصاب العسكر للسلطة واحتكارها لأنفسهم، وممارستهم سياسة رود الأفعال العشوائية، واستغلال موراد الدولة لصالحهم، كان لا بد أن يخاف كبار قادة الجيش على ما حققوه من مصالح مادية ومعنوية، ويخاف الحكام على مناصبهم من انقلابهم عليهم، أو اغتيالهم، وهي أمور شائعة بينهم، لذلك سمحوا لبزوغ العصابات أو التكتلات النفعية داخل الجيش والشرطة والوزارات والمؤسسات والنقابات المختلفة وزمرة رجال الدين ورجال الأعمال الجدد، على حساب الشعب، وتركوها تستقل بنفسها وتعزل نفسها عن الشعب، تفصِّل قوانينها وتنشئ محاكمها، وتنسج حللها وتشكل كراسيها ومبانيها وغرفها ومناصبها، وتحدد بنفسها نماذج العاملين معها دون الالتفات إلى أحد!. رأينا - مثلًا - المستشار أحمد الزند الذي شغل رئاسة نادي طنطا الرياضي (2001 - 2004)، ورئاسة نادي القضاة (2009 - 2015)، ووزيرًا لما تسمى وزارة العدل (20 مايو 2015 - 14 مارس 2016)، وهو يتغنَّى ليلًا ونهارا بضرورة تحسين القضاء وتنقيته من الفساد، وعندما وقع في قبضة السلطة العسكرية المطلقة، ظهر منه الجانب المظلم، فانحرف وأصبح ضالعًا في الفساد، وسعى إلى توريث القضاء لأبناء القضاة، ووصفه بـ”الزحف المقدَّس“، وهاجم ببجاحة الذين يستنكرونه، بقوله إنهم «الحاقدون والكارهون» … و:«ستخيب آمالهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة سَنَة بسَنة ولن تكون قوة في مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها». وأكد أنه من مؤيدى المجلس العسكرى وقراراته لأنه هو الدرع الحامية لهذا الوطن، واصفا من يهاجمونه بأنهم خونة. واستبعد إمكانية تعيين أبناء ”الزبالين“ في القضاء، قائلا صراحة:« نحن الأسياد وغيرنا العبيد». إقرأ المزيد عنه على العنوان التالي: https://www.marefa.org/أحمد_الزند
من الطبيعي أن يرتبط الفاسدون معًا برباط متين من البيروقراطية القذرة، وتبادل المنافع القائمة على ابتزاز المواطنين، تبعًا للتعبير الشعبي: شيلني وأنا أشيِّلَك أو نفَّعْني وأنا أنفَّعَك!.
المواقف والأوضاع والأدوار الجديدة حتمت الانحراف على المسؤولين في ظل سياسة تفضيل أهل الثقة والولاء على أهل العلم والخبرة، كما أنَّ التغييرات السياسية الراديكالية، التي بدأها البكباشي عبد الناصر، واتسمت بالعشوائية، والتباهي وذر الرمل في العيون، أوجدت ظروفًا جديدة لم يألفها المصريون البسطاء من قبل، ومن ثم تعطلت لديهم أنماط الاستجابة الاجتماعية المعتادة، أصيبوا بنوع من الاستكانة والبلادة، خوفًا من تعرضهم للإذلال والاحتقار، فقدوا الارتباط بشخصياتهم وقيمهم العليا التي التزموا بها على مر التاريخ. وظل هذا الحال يتفاقم خلال ستة عقود من الزمن إلى أن تشكل لديهم وعي جمعي بما هم عليه، فانتفضوا في 25 يناير 2011، ضد الشرطة وحكم العسكر والأحوال السياسية المزرية، عندئذ برز الانزلاق إلى الشرور، تحوَّل الخوف المتأصل في نفوس الحُرَّاس (الجيش والشرطة والقضاء) على مصالحهم إلى فزع، حفَّز لديهم غريزة القطيع المميَّز (أسياد البلد)، وبعث في أعماقهم الشراسة تجاه العبيد الذين لا يعتبرونهم أعضاءً في قطيعهم. تمثلت شراستهم في ردود أفعال إجرامية عنيفة ومدمرة!، وغير مسبوقة في تاريخ مصر، تحولوا إلى أشرار ينكلون ويقتلون ويسلبون وينهبون، طالما استحوذوا وحدهم على السلطة، وامتلكوا جميع الصلاحيات، وأزيلت عن كاهلهم المحاسبة القانونية، وحُمِّلوا بالسلاح والهراوات وأدوات القهر.
منذ البداية تسبب الجهل والضعف وهاجس الخوف لدي الحكام من انقلاب الجيش عليهم أو اغتيالهم، في جعلهم يتركون ”الحبل على الغارب“ لقادته الكبار، (الغارب هو أعلى مقدم السنام في البعير، ويشير إلى منح الحرية الكاملة، من دون قيد أو شرط)، ويعطونهم شيكًا على بياض، يفعلون ما يريدون وينهبون من خيرات البلاد ما يشاءون، ويذلون المواطنين، دون اعتراض أو مساءلة، وفي النهاية تحول الأمر إلى مرض عضال، يتم التعامل معه بمزيد من الانتهاكات، ففي 16 يوليو 2018 أقدم ما يسمَّى بمجلس النواب على إقرار قانون جديد لمعاملة قادة القوات المسلحة، ضمن سلسلة الفبركات التشريعية الهادفة إلى تعزيز وترسيخ سلطة الحاكم بأمره على الجيش وتأمين الحماية والحصانة للضباط الذين قد يُتَّهمون بتنفيذ حملات قمع واسعة ضد المواطنين أو بالتورّط في الفساد المالي. المادة الخامسة من القانون المذكور تنص على أنه لا يجوز مباشرة أي تحقيق أو إجراء قضائي في مواجهة هؤلاء الضباط عن أي فعل ارتكبوه بصفتهم الرسمية في الفترة الممتدة من 3 يوليو 2013 إلى 10 يناير 2016، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. إشارة إلى أن بعض أعمال القمع الجماعي ارتُكِبت خلال هذه الفترة، أبرزها مذبحة ماسبيرو أو أحداث الأحد الدامي أو الأحد الأسود، يوم 9 أكتوبر 2011 ضمن فعاليات ما تم تسميته «بيوم الغضب القبطي»، أفضت، على أيدي جنود من الشرطة العسكرية، إلى مقتل 28 شخصًا بالإضافة لأكثر من 321 مصابًا، أغلبهم من الأقباط، ومذبحة الحرس الجمهوري في 8 يوليو 2013، التي قتلت فيها قوات الأمن 51 متظاهراً، ومذبحة رابعة في 14 أغسطس 2013، التي لقي خلالها ما لا يقل عن 817 متظاهراً مصرعهم. ومع أن الهدف من هذه الفبركة القانونية هو حماية كبار القادة العسكريين من أي محاولة للتحقيق في هذه المذابح ومن إمكانية مقاضاتهم داخلياً، إلا أن أدلةً واضحة جمعتها منظّمات حقوقية دولية ومحلية مستقلة، تُوثِّق الجرائم المرتكَبة، ويمكن استخدامها أساساً لتحقيقات محتملة في المستقبل.
علاوةً على ذلك، تحاول المادّة السادسة تأمين حصانة دبلوماسية لهؤلاء الضباط عند سفرهم إلى الخارج، في محاولة ساذجَة لحمايتهم من أي ملاحقة قضائية دولية محتملة، وهو سيناريو غير مرجّح نظراً إلى أن مصر ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية.
هذه الحماية متجذّرة في الدستور المصري (الشكلي) منذ اغتصب العسكر السلطة في البلاد وركوبهم على أعناق العباد، فالمادة 204 منه تنص على أن القضاء العسكري يمتلك دون غيره سلطة مقاضاة أفراد القوات المسلحة والمخابرات العامة والفصل في كافة الجرائم التي يمكن أن يكونوا قد ارتكبوها بصفتهم العسكرية. ونظراً إلى عدم تحديد طبيعة هذه الجرائم، فإنَّ هذه المادة تحميهم من المثول أمام المحاكم المدنية ليس فقط في جرائم القمع الجسدي، إنَّما أيضاً في مجموعة من الجنايات الأخرى. وفي حال أقدمت محكمة عسكرية، وهو أمرٌ مستبعَد، على محاكمة ضابط في جريمة ارتكبها ضد شخص من المدنيين، نادراً ما يكون القضاة محايدين، وهم أنفسهم ضباط عسكريون.
امتدت الحصانة والحماية لتشمل أيضًا الجرائم المالية. ففي مايو 2012، أقدم البرلمان على ترقيع القانون رقم 25 الصادر في العام 1966، بما يُجيز للمحاكم العسكرية النظر والتحقيق في الجرائم المالية، ولكن بعد تقاعد الضابط المتَّهم، وذلك لتعطيل أي تحقيق محتمل، فالانتظار إلى حين تقاعده يزيد من صعوبة جمع الأدلة بغية الشروع في الإجراءات القضائية. وبذلك يستفيد كبار القادة العسكريين من القانون الذي يُتيح للحاكم اختيار الذين يتمتعون منهم بالحظوة لديه للخدمة مدى الحياة، إلى جانب استفادتهم أيضًا بإمكانية الإفلات غير المحدود من العقاب في قضايا الفساد والجرائم المالية، حتى أنّٓ القضاء العسكري نفسه لا يمكنه النظر في هذه الجرائم، وهذا يشكّل عاملاً إضافياً يضمن ولاءهم السياسي للحاكم بأمره، ويضعه في مقام الشخص الوحيد القادر على تأمين حمايتهم، ممَّا يجعل منهم عجينة طيِّعة بين أصابعه، ويزيد من ترسيخ سلطته بصورة مطلقة.
هذه الفبركات القانونية وغيرها، شبيهة بسدِّ الزرائع أو درء الشبهات في الفقه الإسلاموي، ومعروفة في الذكاء الشعبي المصري بأسلوب ”حلَّق حوش“، وهي إجراءات فاسدة، من شأنها أن تولّد بالضرورة منظومة قضائية فاسدة، وتفضي إلى المزيد من الفساد في ضوء التوسّع الاقتصادي للجيش، وانخراطه في أنشطة اقتصادية واسعة النطاق في القطاع العام والخاص، إذْ توفِّر للضباط العسكريين فرص كبيرة ومتزايدة لممارسة الفساد الجماعي، وتكديس الثروات الشخصية.
وفي الوقت الذي يركز الحاكم بأمره على كسب ولاء الجيش له من خلال التلاعب بالدستور والقوانين، تعمل وزارة الداخلية ما بدى لها في المجتمع، حيث تستخدم الشرطة و”قطاع الأمن الوطني“ التابعين لها على نطاق لا محدود في عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وتلفيق التهم والسجن اللامحدود زمنيًا والتعذيب الممنهج ضد المعارضين المشتبه بهم، لإجبارهم على الاعتراف أو الكشف عن معلومات أو لمعاقبتهم. مما أدَّى بالفعل إلى موت البعض منهم داخل السجون، مع الانحراف التام للعدالة وغياب العقل والحكمة!
ويبقى السؤال: من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟، مطروحًا لسنوات مقبلة، لا يعلم أحد مداها، ولا يستطيع أحد الإجابة عليه!