الإيمان بالتأريخ


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7022 - 2021 / 9 / 17 - 06:12
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

عندما ندرس إشكاليات إيماننا بالتأريخ يجب ان لا يفوتنا وتحت تأثير التشكيك وعدم المصداقية الجادة للرواية التاريخية المنقولة وخاصة تلك المدفونة في طيات الزمن الماضي وأقصد به الجانب المضيء منه، ذلك الجانب الذي يسلط الضوء على معاناة الإنسان ونضاله من أجل البقاء والتطور، صحيح أن هذا القسم من التاريخ له خصوصية وحضور في الكثير من الكتابات التأريخية وبالأخص حينما تتناوله عقول همها الوحيد الوصول للحقيقة من خلال المنهج العلمي المحايد، ولكن يبقى مع ذلك هو الأقل بين هذا الكم الهائل من الكتابات والبحوث التي أتسمت دوم باللا أبالية من حيث النتائج ومن حيث تأثيرها العام على صيرورة المعرفة.
كنقاد ودارسين للتأريخ ومهتمين أولا بالبحث عن السيرورة التاريخية للمجتمع الإنساني كوحدة دراسية متكاملة، نجد أنفسنا مضطرين أثناء دراستنا لهذا التاريخ بأن نفكر حقيقة بمعيار للتاريخ الذي نبحثه كنسق وقياس نسبي، ومثلا كتطبيق ونحن على مشارف كتابة نقدية لقراءة مجردة مثلا لتاريخ محدد بالزمان والمكان وننظر بعمق للمسألة من وجهة نظر بحثية، نجد أننا مهتمون بتاريخ العرب كشريحة من ضمن مجتمع بشري لا سيما الجزء الذي نتبناه (جزيرة العرب) من بداية الإسلام كتحول تأريخي مشهود، فهل نتناول القارة الموقع العام له الجزيرة العربية وامتداداتها التأريخية؟ أم ندرس تحديدا مهد العرب كما يشير لذلك الباحثون والمختصون؟ أم أن الواجب علينا أن ندرس مكة أولا كونها شهدت بدايات التحول التأريخي للعرب في السيرورة والواقع؟ أم – ضمن مصطلحات التاريخ – نهتم بالإسلام كدين وأثره في حياة العرب ومنطقته الأساسية في المدينة التي جسدت التجربة العملية لكليهما العرب والإسلام؟ أم نتجه نحو بضعة أحداث وأمكنة ومحطات إبان فترة الرسالة ووجود نبي الإسلام فيها من بدايات القرن الأول الهجري؟ إننا حين ندرك مدى تجذر الفوارق في الحياة الاجتماعية فإن المعيار الذي نختاره يُؤثر بشكل بالغ في فهمنا للنتائج.
هناك معياران محددان قد تناولهما الباحثون في دراسة التأريخ البشري لفترة ما، أولهما ما يعرف بالتأريخ الأصغر وهو أختيار عينة تمثل روح المجتمع وعلاقاته وروابطه التي تحدد مسار تاريخ ما، ومن أشهر من نادى بهذا المعيار هو المؤرخ والفيلسوف الأجتماعي (وليام هينتون) الذي درس عبر أبحاثه نماذج محددة لمئات العوائل الصينية في فترة الثورة الصينية بعد عام 1949 داخل قرية فان شن الصينية، حيث درس أحوال القرية في زمان محدد ليعطينا نموذج بحثي (عينة تأريخية) عن الثورة وعن أحوال الصين في فترة التحول التاريخي الذي شهده المجتمع الصيني أنذاك، هناك أخرون فعلوا ذات المنهج وبطريقة مشابهة منهم (إيمانويل لادوري) الذي يُقدم معالجة عميقة للقرويين في مونتايلو Montaillou حيث درس هذه القرية الصغيرة في زمان محدود هو الآخر(Le Roy Ladurie, 1979)، وفيما يخص وليام كرونان فقد قدّم رصداً مكثفاً وتفصيلياً عن تطور مدينة شيكاغو لتصبح عاصمة للوسط الأمريكي (Cronon, 1991). هذه الأعمال التاريخية محدودة في زمانها ومكانها
السؤال هنا هل ينجح هذا المعيار المحدود في أن يعطينا أي أنطباع ذا مصداقية موثوقة في الدراسة حين نعمم نتائج المعيا على مفهوم التاريخ الأكبر لمجتمع يماثل العينة أو ينتمي إليها؟ أم علينا أن نذهب لمقاربة اكثر واقعية خين نترك هذه المعيارية المحدودة ونأخذ المجتمع كوحدة متكاملة بالرغم من إقرارنا أنه ليس بالضرورة أن تكون نتائج المعيار الأخر المتناقض معه أقدر على إعطائنا وجه من الحقيقة النسبية مع وجود الفوارق حتى داخل المجموعة الكبرى؟ مثلا لو أخذنا معيار، وليم مكنيل الذي يزودنا بتاريخ لأمراض العالم (McNeill, 1976) هل من الممكن أن نسلم بنتائجه كسياق عام أو سياق قياسي ممكن تعميمه كمعيار منضبط؟ كما فعل (ماسيمو ليفي باتشي) حين كتب تاريخاً عن سكان العالم ((Livi-Bacci_7200))، في حين يُقدم لنا دي فريس وجودسبلوم تاريخاً بيئياً للعالم (De Vries and Goudsblom, 2002) اختار المؤرخ في كل من هذه الحالات معياره الذي يفترض شموله لكل العالم ولمدة تجتاز الألف سنة، وهنا يتحتم علينا أن نصف هذه الأعمال البحثية بمصطلح التأريخ الأكبر macro-history.
الشك في نتائج كلا الاتجاهيين من حيث النتائج حاضر بقوة ليس لأنهما فقط متعارضين في المنهج والأسلوب، ولكن في أعتماد الدقة بالتعميم فلا يمكن أن نجعل الدراسة الخاصة المحدودة علامة كلية على الجميع لأنها تتعمق أكثر في الخصائص الذاتية للمجموعة المدروسة (العينة)، كما لا يمكن أن نجعل من دراسة الشكلية العامة معيارا لبعض الخصائص الذاتية للعينة الكبرى على أعتبار أن التاريخ ما هو إلا دراسة لوحدةً شاملة من البُنى والأحداث ومُجرياتها، هنا نؤشر محدودية النتائج في كلا الحالتين ما لم تؤخذ الخلاصة على انها تمثل حالتها فقط ولكن تصلح لأن تكون جزئية من معيار متوسط وشمولي يربط بين الخاص والعام في منهج لا يؤمن بالانتقائية الحالية بقدر ما يوظف تلك المعطيات على أنها تحمل فقط ما تعبر عنه من ضمن مشروع ما يعرف بالتأريخ الواقعي لأي مجتمع أو مرحلة أو حالة منتقاة بدقة.
إذا نحن بالحقيقة امام إشكالية منطقية تتعلق بذات الإنسان ككائن موضوعه وموضوع وجوده هو جوهر مسألة التأريخ وأيضا إشكالياته، هذه المسألة تدور في تساءل محوري مفاده (هل أن الإنسان كائن نمطي قياسي بمعنى أنه كائن كوني ذي ملامح مشتركه تجعل منه وحدة قياسية؟ أم أنه بسماته الجذرية تشكل مع مرور الزمن التأريخي لوجوده ليكون مادة التاريخ على انه كائن متحرك ومتطور به)، ولكي نفهم السؤال بما يحمل من مضامين فلسفية قد لا تحمل هي الأخرى كل الحقيقة، لا بد أن نقر أولا أن الطبيعية الكونية للإنسان هي طبيعة مضمرة فيه في ذاته وفي وجوده الأصلي، أي أننا لا ننكر كونية الإنسان الواحد، والدليل أن الإنسانية بغض النظر عن الزمان والمكان تسير بخطى متشابه على العموم من حيث الأتجاهات والتوجهات لتنتج في الأخر نفس المستويات الفعلية والحركية مع فارق شكلي يتعلق بخصيصة البيئة أو مقدار التسارع الذي يخطوه الإنسان في وجوده، نعم الملامح الأولى له كونية والنتائج في محصلتها العامة كونية يتقبلها الإنسان حتى مع أختلاف هويته المحلية، فما زالت الزراعة وأكتشاف أدوات الحضارة الأولى الكتابة والنار والعجلة وغيرها إرثا إنسانيا مشتركا بالرغم من تاريخية هذا الأنجاز الإنساني ومن هم الفاعلين له.
وطالما وثقنا بتحديد المضمر الإنساني الكوني من حقنا أن نتساءل عن تعليل الأختلاف المعياري في دراسة الإنسان في وجوده عبر الزمن، أي عبر التأريخ؟ وهنا أقول وأشير لحقيقة مهمة هي أن التأريخ مجرد صناعة بشرية ولعبته الوجودية حين ينفرد مجتمع أو طبقة أو حتى الإنسان الفرد أن يمارس حقه وأستنادا لكونيته في أن يخرق الطبيعية الكونية تلك مختارا أو مستجيبا لقوى اكبر من وجوده، بمعنى ان الأختلافات البينية بين الإنسان والإنسان ومجتمع وأخر لا تعني أنه من كونية أخرى، فالإنسان البدوي في سلوكه التاريخي هو تماما يمارس وجوده مثل ذلك الأوربي الذي يعيش بيئة أخرى تختلف من حيث مقوماتها ومعطياتها وأثرها على الإنسان، لكن المشترك بينهما أنهما يحاولان أن يتأقلما بنفس القوة والأثر مع الطبيعة والبيئة وينجان نفس السيرورة التأريخية، لكن النتائج وأن تبدو مختلفة لكنها بالجوهر واحدة حتى لو بدلنا هذا مكان ذاك لظهرت نفس تلك النتائج وبنفس القدر من الشكلية.
لو أخذنا الدين معطى حضاري بشري بوجهه كمعرفة نجد الأستجابة والتعاطي معه واحد في كل المجتمعات القديمة والحديثة البرية والبحرية كما هي في السهل والجبل، تعامل كوني واحد لا يعترف بالخصيصة التاريخية أبدا وعلى أنه أستجابة لقلق مشترك وفهم موحد لذاتية العلاقة الإنسانية بين المجهول الغيبي القوي والمعلوم المستجيب بضعفه واعتماده على مصدر قوة يغنيه أحيانا من أستخدام قوته الضئيلة أمام تحديات لا يطيقها، تبقى صورة الدين وكيفية الإيمان والوسائل والمسائل المترجمة والتي يجب بسطها على الواقع تختلف بأختلاف الشخوص وأختلاف البيئة والزمان حتى داخل الدين الواحد وليس فقط بين الأديان الأخرى وبعضها.
الشروط التأريخية التي تلعب دور المؤثر صانع الأختلاف زمنيا ومكانيا تأتي بأثرها التميزي في الوقت الذي يلي أنطلاق الإنسان للحركة بدأ من كونيته الذاتية القياسية والمعيارية، أي أنه وكمثال حين أستخدم الإنسان أول ألة زراعية مبتكرة في الوجود أختلفت هذه الألة تبعا للشرط التاريخي الذي يعيشه الإنسان الأول طبقا للطبيعة والبيئة التي وجد فيها، ففي الأراضي الرخوة مثلا كانت الألة بسيطة جدا تؤدي نفس الدور الذي تؤديه ألة أكثر تعقيدا في الأراضي الصلبة والقاسية، الفارق تحدده الشروط التأريخية ولا تحدده الطبيعة الكونية، فمن أستخدم العصي ونحتها وعمل بالزراعة البدائية هو تماما نفس الشخص الذي أستخدم مثلا الحجارة أو العظام وحتى البرونز والحديد في فترة لاحقة لمعالجة موضوع واحد أعطى نفس النتائج وأستخدم نفس الفكرة، وأيضا نجد أن المجتمعات التي تعيش في بيئة جافة ورخوة وموسمية في أمطارها ومصادر مياهها، عالجت الحالة بطريقة مختلفة عن تلك المجتمعات التي كان الوضع البيئي فيها مختلف مثلا لتوفر المياه بكثرة أو كان الجو فيها باردا أو معتدلا، ولكن كلا المجتمعين حاول أن يتغلب على الطبيعة بطريقة ما تمثل شكلا من أشكال ما يعرف بالشرط التأريخي لها.
من هنا يمكننا فهم الشمولية التي نبحث عنها في دراسة التأريخ أي دراسة الإنسان فاعلا ومنفعلا بالوجود خارج أطر النظريات القاصرة والمقصرة التي تنتقي موضوعا ما خاصا ومخصوصا وتريد منه أن يكون ممثلا لحالة عامة كاملة، ولنفهم أيضا حقيقة واحدة أننا في جميع الأحوال حين ندرس التاريخ ننظر أولا في داخلنا عميقا ثم ننظر لمن حولنا، في دراسة التاريخ لا يمكن فعل هذا مطلقا لأننا أولا لا نمثل إلا حال فردي موصوفا بذاتيته المحلية، وثانيا أننا ننحاز دوما للذات في اللا وعي الطبيعي، وحتى نظمن لأنفسنا تجردا وموضوعية اكثر لا بد أن ننظر لمن حولنا ونحن منه ككل بسلة واحدة لأننا أصلا كذلك، فحينما ندرس تأريخ العرب والمسلمين مثلا في مرحلة القرن الأول الميلادي لا بد لنا أن ننظر للإطار العام للمرحلة وعلاقاتها وشروطها ومعطياتها حتى نفهم تحديد ما كان أصلا ولماذا وكيف وأين ومتى.
وقبل أن نختم هذه المقدمة لا بد لنا أن نؤكد على أن التأريخ من حيث هو معرفة لا يتميز بالضرورة بالقياس المطلق ولا بالثبات في الصورة الإطارية التفصيلية بقدر ما يتميز بكونه عرض وجودي بخصائص عامة وتفصيلات خاصة لحالات الإنسان الذي هو وإن كان هو كائن كوني واحد لكنه الأكثر تغيرا وتبدلا وأثرا وتأثيرا في ومع الوجود، فمن الخطأ أن نجعله في صورة النموذج القياسي أو نحصره في دراسة عامة على انه كذلك، بمعنى أن النظرية التاريخية لا يجب أن تجهد نفسها كي تقدم لنا إنسان تأريخي نموذجي ليكون مادة لدراسة لاحقة، أي لا يجب أن نثق بمقولة (أن التاريخ هو من يكشف لنا الطبيعة الإنسانية، بمعنى أن الطبيعة الإنسانية ما هي إلا خلاصة رؤية التاريخ للإنسان) كما عبر عنها {هيردر في كتابه أفكار لفلسفة التاريخ الإنساني (1791)} بتعبيره الوارد في كتاب أعلاه وملخصه (بأن النسقية التاريخية للطبيعة الإنسانية تمنحنا فهماً تاريخياً للطبيعة الإنسانية، وانحاز مع الفكرة القائلة بأن الطبيعة الإنسانية ماهي إلا مُنتج تاريخي، وأن البشر يتصرفون بشكل مختلف بين مرحلة وأخرى وفقاً للتطور التاريخي) .