الشخصية العراقية في نظرية الوردي النقدية ج 4


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7015 - 2021 / 9 / 10 - 09:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

عليه يمكن من خلال ما تقدم أن نحدد أسباب الغموض والإضطراب في الشخصية العراقية كنموذج معياري لما يلي:.
• الإرث التاريخي الذي لا تستطيع هذه الشخصية أن تخضعه طبيعيا وفقا لما يجري في عالمها الواعي والإرادي، لأن هذا الإرث أساسا يقاوم قوة التجديد لعوامل نشأته أصلا، فالإرث التاريخي هذا أما أنه ديني روحي غير منقط ولا يصلح للتجديد، فهو إرث ميت في الواقع ولكنه يعيش وبقوة في داخل الذات محاطا بعوامل تغذية مستمرة من جهة، وعوامل ذاتية فيه لأنه وكما تؤمن الشخصية نفسها أنه أما مقدس وأما خلافه حرام أو يمس الشرف والأعتزاز الذاتي، ولكنه في الحقيقة يستجيب للتطور والتحول البطيء ولكن بوتيرة جدا ضعيفة، ويحتاج إلى عوامل دفع وتعزيز لحالة الإحساس بالتطور وهو ما يعيق عملية إدماجة الطبيعي مع محركات التطور والتحديث.
• غياب الرؤية العملية لصنع مسرعات التطور بفعل الواقع المتشبث أصلا بالتراث والعرف والتدين، وهذا ما يساهم في أضطراب منحنيات الحركة التطورية، المدينة وقوانينها هي المعول لها وبها في هذا المجال، إلا أن الهجرة الريفية والقروية هي من ساهمت في أريفة المدينة، وبدل من أت تكون هي المحرك لمدينة الشخصية المهاجرة، تحولت المدينة إلى مستجيب عكسي أولا لكثرة الهجرات المتتالية والتي في غالبها تقع تحت عوامل أقتصادية أو أسباب سياسية، لأن القوى السياسية التي سيطرت على واقع المدينة في الغالب هي قوى متحالفة مع السلطة أو صاحبة مصلحة في تعزيز سلطة السياسيين الذين هم بحاجة لقواعد جاهلة أو مغيبة لتعزيز النفوذ بين برجوازية طفيلية ناشئة، وبرجوازية وطنية مدنية أحست بضعف قوتها التدريجي تجاه المنافس لها وبدفع سياسي في الغالب.
• عزز منهج تأريف المدينة أن السلطة الجديدة والبرجوازية الناشئة تحالفتا معا من أجل أن لا تسمح للأفكار الليبرالية والصوت المدني بالظهور والتفاعل تحت قيم الصراع الجديد، صراع إرادات التحول من خلال هيمنة الواقع الجديد على مؤسسة العلم والتعليم والتربية، فغالب كوادر هذه المؤسسات وبحث من توجهات السلطة السياسية هم من نواتج الريف أو من نواتج الهجرة الريفية للمدينة، وبالتالي لم تستطع هذه المؤسسة الأساسية للتمدن من خلق جيل مدني ولا نجحت في بناء فلسفة تربوية وتعليمة ناهضة نحو تمدين المجتمع، حتى كوادر هذه المؤسسة أصلا يعيشون نوعا من الإنفصام الداخلي بين الوظيفة وبين المنهج، هذا ما أنعكس سلبا وإرتدادا على النشئ الجديد، فليس غريبا مثلا أن تتسلل الممارسات الدينية والطائفية التي ليس لها جذور حقيقية في الدين والعلم إلى أكثر المؤسسات العلمية تطورا وهي الجامعات والكليات والمعاهد العليا، ولا غريب أن نرى هناك من يحرص على إدامة هذا الوجود بعنوان أظهار الولاء والتملق للسلطة الحاكمة.
• من القوى الأساسية التي لها دور محوري ومهم في عملية التمدن ومساندة البرجوازية الوطنية في سعيها نحو التصنيع بأعتباره علاجا ناجحا في بلورة التمدن وربط علاقاته الأقتصادية بحركة المجتمع وهي المؤسسة العسكرية التي بدأت وجودها ونشأتها في بيئة مدنية برجوازية، أصبحت في ظل التحولات الأجتماعية ونشوء سلطة الأحزاب التي تنتمي من فروع البرجوازية الطفيلية في غالبيتهم من طبقة القرى والأرياف ومن نتاج الهجرة، لذا لم يعد هناك أعراف عسكرية ولا قانون ضبطي يخضع في تراتبيته للعرف العسكري القديم، مما عزز من قوة الأريفة وقرينة المدينة، وبذلك فقدة قوة التمدن عنصرا هاما في صراع الريف والمدينة وخضعت بالكامل للنتائج الجديدة التي أفرزت طبقة عسكرية نفعية تعتاش على تعاليم البرجوازية الطفيلية وتحميها من أي محاولة لإزاحتها عن مصدر قوة القرار.
• ناك نقطة مهم قد لم يلتف لها الدكتور الوردي في بحثه عن الشخصية العراقية، ولها علاقة مهمة في تكوين وهيمنة حالة اللا توافق بين سلوكياتها الخارجية، وهي أن الهيمنة العامة للمجتمع وعلى المجتمع العراقي في القيادات القادرة والمصممة للنمط الأجتماعي السائد، هي قيادات غير عراقية ولا تنتمي لعمقها التاريخي، لأسباب عديدة منها الأحتلال العسكري الذي تبعه أستبداد سياسي، أو هيمنة دينية ومذهبية أنتجت إنفصام بين روحية وجوهر المجتمع العراقي ومتطلبات العنصر المهيمن الخارجي، هذا الأمر ليس حديثا ولا طارئ على المجتمع العراقي، فهو أيضا من الإرث التاريخي، الغريب لا يفهم بسهولة ما يجب أن يتعامل معه من خلال إدراك الشعور بالإنتماء، فالحاكم السياسي الغريب ورجل الدين وحتى الطبقة التي يمكن أن نسميها فكرية نخبوية تتعامل من خلال حسها الذي أنتجته البيئة الخاصة بها والأوليات والمقدمات التي صاغتها، هذا الحال يولد تنافر وربما يكون مقصودا بين غالبية المجتمع العراقي الذي ينظر له الغريب بأنه عنصر مهمل أو يجب إهماله وتركز في تعاملها مع الطبقة التي توافقها وتسايرها على الأقل، من هنا تأسست فكرة كره المواطن العراقي للسلطة وليس للغريب كغريب وأصبح عامل التوجس إن لم يكن حقيقيا بينه وبين الغريب فهو وهم له مبرراته، هنا نجد أن أي فرصة تمكن هذه الشخصية من أن تكون في موطن ضعف نجد العراقي يتعامل معها بقسوة مفرطة، هذه القسوة أساسا تراكمية مكتنزة تحولت مع الزمن إلى نوع من السلوك الطبيعي في حالة الأنتقام والتشفي من كل قوى السلطة بغض النظر من كون هذه السلطة كان لأجله أو ضده، وهذا ما يفسر ظهور سلوكيات أنتقامية معيبة في الشخصية العراقية عندما تفقد رباطة جأشها وهي تحاول العبور من مرحلة إلى أخرى وهي أحد المثالب التي توصم بها الشخصية العراقية عامة.
• الشخصية العراقية قريبة جدا للشخصية المصرية بشكل عام ولكنها تختلف في التعاطي الخارجي معها، العنصر المشترك بينهما أنهما شخصيتان ذات عمق تأريخي يزرع في ذاتها الأعتزاز والفخر، لكن هذا العمق في الغالب تعرض للتسويد والأذى ونالت منه الشخصية الفردية الكثير من الظلم والأضطهاد بسبب ثرة الأحتلالات وتوالي الغزوات عليها، هذا العامل المشترك ولد شعور دائم بالحزن والحنين، لكن ما يفرق بين الشخصيتين هو عامل البيئة الجغرافية فقط، المجتمع والشخصية المصرية تمحورت على كونها تعيش في وادي طويل يخترقه نهر واحد فقط، فصاغت هذه الشخصية علاقتها على مبدأ واحد وهو الأنتماء للوادي والنيل، في حين الشخصية العراقية تعيش على جغرافية مختلفة متنوعة التضاريس ومستعرضة في أنتشارها، فهي تعيش بالجغرافية عرضا، وتنتمي لأنهار متعددة وإن كان الغالب هما الفرات ودجلة، هذا الوضع صاغ في الذات العراقية الثنيوية في الرؤية، فكل شيء ينظر له من خلال الأنتماء للماء، وإن أختلف الساكنون على النهر الواحد، فشمال الأنهر هناك مجتمع يتميز بنوع من المحافظة والشدة والقدرة على أستغلال الجغرافيا بشكل مختلف عن سكنة جنوب الأنهار الذي بالغالب يعيشون على الأنفتاح والبساطة والتلقائية، مجتمع شمال الأنهار يحتاج إلى وسائل ووسائط لتنظيم عملية الري والأستفادة من الماء، أما الوسط والجنوب فيعيشون على السيح وفي الغالب البساطة هي نتاج السيح الإروائي.
لذا المجتمع العراقي قابل للإنكسار والتشظي السريع عكس المجتمع المصري الذي كلما أمتد النهر وطال الوادي لا تجد هذه الظاهرة واضحة أو ذات أثر فيه، لذا فالمصري حريص أكثر على وحدته من العراقي بالرغم من أنهما يتشابهان في التاريخ لكنهما يختلفان في الجغرافية، الدكتور الوردي يقر بهذه الثنائية المؤثرة في صناعة وتكوين وبلورة الشخصية الفردية ولا ينكرها أبدا، ولطالما شعر بالأسف لإساءة فهم هذا الازدواج الذي ظن كثيرون أنه يذهب فيه مذهباً نفسياً محضاً في تفسيره للشخصية العراقية، مع أنّه قال إنّ الثنائية الجغرافية التاريخية لبلده أنتجت ثنائية اجتماعية تاريخية، وإن تصادم نظامين متناقضين من القيم تتعايشان بفعل هذا الإرث التاريخي العميق لا بد أن ينشأ عنه ازدواج شخصية في السلوك العام وليس الفردي، وهذا المذهب التحليلي كما يرى لا يختص تطبيقه بالمجتمع العراقي فقط، فـتاريخ التصيير الاجتماعي الذي أدى إلى استفحال الازدواج في المجتمع العربي بشكل عام له تاريخ طويل وخاصة في المجتمعات التي تلعب الجغرافية دورا مهما في الحياة الاجتماعية كبلاد نجد والحجاز أو اليمن وسوريا أضافة للعراق ومصر بشكل خاص...
• تأسيسا على ثنائية التكوين في الشخصية العراقية نستطيع أن نفسر ظاهرة دينية أخرى برزت في أثرها على تلون الشخصية العراقية وتشظيها من خلال عامل الدين، دون أن نحسم بشكل كامل أن هذا التشظي يعود فقط للجغرافية، فمنطقة أعالي الأنهر أو ما يسمى بالصدور أو شمالاتها يكون السائد في تمذهبها هو الميل الطبيعي الملائم لتفكير الشخصية المتكونة هناك وكما قلنا المحافظة والعملية، فنشأ المذهب السني وأنتشر وطغى على إيمان الشخصية في هذا الجزء من العراق، منها أنحدر إلى بعض مناطق الوسط والجنوب بشكل نسبي، أما منطقة السيح الإروائي وما يسمى بالسهل الرسوبي الإنبساطي فقد ساد فيها مذهب التشيع ليس تأثرا كما يزعم الكثيرون من المفكرين والباحثين نتيجة العلاقة مع المجتمع المجاور، بل لأن المذهب الشيعي متساهل أكثر وغير قابل لأن يكون محافظا وصارما في تعامله مع الواقع، فلو كان التأثير الأساس كما يزعم البعض، فالمناطق الشمالية هي أيضا مجاورة ومتصلة مع إيران وأحيانا متداخلة من ناحية العامل الديموغرافي والسكاني، أكاد أجزم أن عامل الجغرافية وطبيعة الأرض والماء واحده من أهم أسباب هذا التنوع المذهبي بالرغم من وجود تأثيرا أخرى منها سهولة التواصل والحركة مع المجتمعات الأخرى.
هذه الأسباب التي قد تكون العوامل الأساسية في صياغة وتكوين الشخصية العراقية بكل قوتها وضعفها وتناقضاتها، قد تكون ووفق المبحث العلمي والمنهج الأكاديمي قادرة على تأصيل الجوانب الإيجابية فيها وترسيخ صورة نمطية جديدة تراعي مع الدرس والدعم والتطوير مبدأ التوافق المنسق والمتسارع مع عوامل التحديث والتطوير والتجديد، لتنهض بقوة نحو المستقبل، بعد أن عانت من صراعات الإرث والتاريخية المفرطة، وأن تتحول إلى الميل المدني الفاعل بشرط وجود منهجية موازية تعتمد على دعم العمل الصناعي والتصنيع المجتمعي، لقدرة هذا العامل المهم أجتماعيا ببلورة شخصية مدنية ميالة بقوة لكل ما هو جديد ومتحرك وسريع ومركب.