لا مكان للفقر في بلد غني / خلفيات وآفاق انتصار اليسار في بيرو


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 7006 - 2021 / 9 / 1 - 00:11
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

بيرو دولة تقع في غرب أمريكا الجنوبية، تطل من الغرب على المحيط الهادئ. وعاصمتها لِيمَا. وقبل قدوم كولومبس، كانت موطنا لحضارات قديمة، أصبحت تابعة للتاج الاسباني. وبيرو جمهورية برلمانية، يبلغ عدد سكانها 32,5 مليون نسمة، ومقسمة إداريا إلى 25 منطقة، وتمتاز بتنوع جغرافي، سكاني وثقافي، واكثرية السكان من الهنود الحمر، والزنوج، الذين جلبهم الغزو الأوربي. هذا التنوع شكل الحياة الثقافية والابداعية في البلاد.
والبلاد غنية بالمواد الخام (النحاس والفضة والزنك والذهب) وموارد طبيعية مهمة أخرى (المياه والزراعة) والموارد البشرية، وعلى الرغم من ذلك يعيش أكثر من 30 في المائة من سكانه تحت خط الفقر ولا تمارس الدولة سيطرة كافية على الاقتصاد. وسلطة القانون ضعيفة في البلاد، بفعل انتشار الجريمة المنظمة، وتزايد تجارة المخدرات بشكل كبير.
منذ 11 نيسان الفائت، والفوز المفاجئ للمرشح اليساري بيدرو كاستيليو، زعيم حزب “بيرو الحرة” الماركسي بالجولة الأولى لانتخابات الرئاسية أصبحت بيرو محط اهتمام سياسي اعلامي عالمي متضارب. ويمكن القول إن الصراع الدائر اليوم بين يسار يصل للسلطة للمرة الأولى، ويمين يهيمن على المال والأعلام، ويملك تراكما سلطويا لقرنين على الأقل، يعكس جانبا من الصعوبات التي يعاني منها اليسار العالمي في صراعه مع المراكز الرأسمالية، والأنظمة الاستبدادية التابعة، انطلاقا من فقدان العدالة في نقطة الشروع لخوض هذا الصراع. وهذا الأمر يكاد يشكل ظاهرة في مناطق مختلفة من العالم. ولكسر هذه المعادلة يتوجب على اليسار طرح إجابات على أسئلة الراهن وبدائل واقعية، وهذه لا يمكن ان تؤدي غرضها دون توفر الأدوات والآليات التي تجعل منها ممارسة ملموسة، وبالتالي فان يسار العالم والمنطقة يواجه صعوبات موضوعية كبيرة، تفرض عليه اعتماد مراجعة نقدية مستمرة، تجعله ذاتيا جاهز لخوض معارك التغيير المطلوبة.
في هذه المساهمة سنحاول تقديم عرض لخلفيات وطبيعة وآفاق الصراع السياسي والاجتماعي الدائر اليوم في بيرو، البلد الذي شهد آخر انتصارات اليسار الانتخابية المهمة.

شيء من التاريخ
بعد مرور 200 عاما على تاريخ الاستقلال الرسمي عن إسبانيا، أصبح بيدرو كاستيلو أول رئيس من سكان الريف يتولى مهام منصبه في بيرو. ووفق المؤرخة سيسيليا مينديز جاستيلو ميندي، الباحثة في دور فلاحي جبال الأنديز في تاريخ جمهورية بيرو، فإن المجتمعات تربط تاريخ استقلالها، بحرصها على الأحداث ذات الوزن الأكبر على المدى البعيد، وعلى هذا الأساس تم اختيار يوم 28 تموز 1821، مع أن أول انفصال عن التاج الاسباني حدث في عام 1814، بعد انتفاضة كوكوز واعتقال الحاكم الاسباني في المنطقة.
وقد عملت النخب الحاكمة طيلة عقود على إخفاء دور السكان الأصليين وسكان الريف في التاريخ الوطني للبلاد. واكتسبت هذه العملية زخما بعد انطلاق الكفاح المسلح لحركة “سوندرو لوموينوشو” (الدرب المضيء).
ولم تتمكن النخب المهيمنة والقادة العسكريون من بناء دولة أثناء الاستقلال وبعده، بعيدا عن الفلاحين. وقد شهد القرن العشرون لحظتين مهمتين في مسار إصلاح الدولة حيث حصل سكان الريف والسكان الأصليون على حقوق واعتراف هامين: سنوات حكومة برناردينو ليغويا 1919 – 1930، ارتباطا بتوجه شعبوي لتطوير التصنيع غداة الاحتفال في الذكرى المئوية للاستفلال، وكذلك بعد الانقلاب الذي قاده الجنرال هوان فيلاسكو في عام 1968.
اعترف دستور عام 1920 لأول مرة بوجود مجتمعات السكان الأصليين والأراضي الجماعية. وتم إنشاء سجل مدني لمجتمعات السكان الأصليين والاعتراف بها ككيانات قانونية، وليس كمواطنين أفراد. وفي ظل حكومة فيلاسكو، تم تحويل هذه “المجتمعات الأصلية” إلى “مجتمعات ريفية” عن طريق مرسوم الإصلاح الزراعي لعام 1969.
وفي عهد أوغوستو ليغويا. تبنت الدولة فكرة “حامية الهنود الحمر”. وأصدرت قانون “رعاية عرق السكان الأصليين”. لقد كان تشريعًا أبويًا وفوقيا، صيغ بلغة تحسين النسل العنصرية، التي تنظر بدونية للتنوع. ومع تنفيذ الإصلاح الزراعي في عهد الرئيس فيلاسكو، تم توسيع هذه الحقوق والاعتراف بها، ولقد كان لها تأثير اجتماعي، تجاوز التأثير الاقتصادي للإصلاح الزراعي. وتتحدث سيسيليا مندي عن “مفارقة كبرى”، في إشارة إلى الاعتراف بحقوق المواطنة للسكان الأصليين والمجتمعات الفلاحية التي حدثت في عهود حكومات دكتاتورية.

المهمشون إلى سدة الحكم
بانتخاب بيدرو كاستيلو، القادم من القطاعات المهمشة تاريخياً، رئيسا للجمهورية، تعيش بيرو لحظة تاريخية جديدة، في حال نجاح الرئيس في تنفيذ التغييرات التي أعلنها، والتي ستجعل اجراء تغيرات عميقة وبعيدة المدى أمرا ممكنا. وأهم ما يمكن الإشارة اليه إن هذه التغييرات المحتملة جاءت من خلال الحق في التصويت. أي انها أعطت زخما لأهمية المواطنة بالنسبة لملايين المهمشين أكثر من أي وقت مضى. والأمر الثاني، هو أن الرئيس المنتخب ينتمي إلى الأكثرية المهمشة، وتعتبره النخب التي حكمت البلاد تاريخيًا غريبا عنها، وبالتالي فان انتصاره يمثل قطيعة كبيرة مع الماضي.
لقد لجأت قوى اليمين والنخب الاجتماعية التي تمثلها للموروث العنصري للحقبة الاسبانية في تاريخ البلاد، وترى سيسيليا مندي، “أن هذا الأمر مفهوم تمامًا، فكلما كانت الديمقراطية أكثر جذرية، كان رفضها أكثر تطرفا”. وأشارت إلى صعود النازية في المانيا، وإلى انتعاش حركات والنازية الجديدة فييها في عام 2015.

المعادون للديمقراطية
في رد الفعل المتطرف ضد الرئيس اليساري، ينعكس بوضوح التضامن بين الأيديولوجيا العنصرية ومصالح مافيا الفساد. يبدو ذلك جليا في البرلمان، حيث تخضع التشريعات لأهداف الدفاع عن المافيا وجماعات المصالح المتحالفة مع حزب فورزا الشعبي، وأحزاب أخرى. لقد اتهم المدعي العام مرشحة اليمين المهزومة كيكو فوجيموري بتزعم منظمة إجرامية وباستخدام الحزب كواجهة. تقف معارضة كاستيلو على أرض عنصرية. وبعض المعارضة الآخر لا يجد، في الوقت نفسه، ما يمنعه من دعم المافيا.
المجموعة التي ترفع رمز الإمبراطورية الإسبانية أيام مجدها، لا ينتمون بالضرورة إلى مافيا حزب فوجيموري، ولكن يجري توظيفهم بطريقة ما. عندما تنتصر الديمقراطية، لا حدود للدفاع عن المصالح والسلطة المفقودة، ويجري تجاوز القانون بسهولة. ومن هنا جاء إصرار فوجيموريس على تهم “التزوير الانتخابي” دون التمكن من تقديم دليل واحد، لذلك خسرت المعركة، وانكشف زيف ادعاء الدفاع عن “الديمقراطية”، بالضد من “شيوعية” كاستيلو المزعومة.
العلاقة بين الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة والعنف التاريخي ضد السكان الأصليين والفلاحين، عكسه شعار مظاهراتهم “: “كاستيلو، ليما ترفضك”، مع صورة لفلاح ابيض يرتدي قبعة الرئيس، إنهم يرسمون العنف الجسدي والاقتصادي المفتوح ضد الفلاحين وسكان البلاد الأصليين.
تاريخ البلاد منذ القرن التاسع عشر، تاريخ تحالفت الدولة مع مصالح التجار وملاك الأراضي من أجل سرقة الموارد من السكان الأصليين: فقدوا أراضيهم واحتكرت أسواق السلع. واليوم يتحالفون لاحتكار هوية العاصمة بأكملها، على الرغم من تصويت مليوني مواطن من سكان العاصمة لصالح الرئيس. وعندما يقول اليمين “ليما ترفضك”، فإنه يعني سكان حي سان إيسيدرو، الأكثر ثراء في البلاد.

مطالب أساسية
الآمال معقودة على حكومة اليسار في ان تحول حقوق المواطنة، القائمة على ضمان الكرامة، إلى واقع ملموس بالكامل، فعلى الرغم من تضمينه في 11 دستور اقرت في البلاد منذ عام 1823. وعلى الرغم من أن الكثير قد تغير، إلا أن هذا الحق تعرض للإهمال أكثر من غيره. لقد اتهم اليمين سكان الريف بتزوير تواقيعهم لأنهم فلاحون فقط، كما تم اتهامهم باستخدام وثائق مزورة.
وحدث ذلك مرة أخرى في هذه الانتخابات. اتهم الناس من المناطق الريفية بتزوير التوقيعات، وانهم أناس ليس لديهم اية فكرة، هكذا وببساطة يتهم الملايين بجرائم خطيرة.

برنامج الرئيس
خاض المرشح اليساري حملته الانتخابية تحت شعار: “ لا مزيد من الفقراء في بلد غني”، وجسد الشعار التناقض الاجتماعي الرئيس في البلاد. وركز البرنامج الانتخابي على ضرورة تدخل الدولة، لتجاوز سلطة الاحتكار، التي تميز الاقتصاد في بيرو.
وكان العنصر الأساس في الحملة الانتخابية لمنافسته كيكو فوجيموري، ابنة الديكتاتور السابق، التي نجحت في استعادة دور الممثلة الوحيدة الأوليغارشية الاقتصادية، هو “الخطر الشيوعي” والتخويف من الرعب الذي يلوح في الأفق، في سياق حملة انتخابية عدوانية وأيديولوجية وعنصرية، وصفت فيها أي ناقد لاقتصاد السوق المنفلت، بأنه “إرهابي” يساري. وظلت ترفض هزيمتها الانتخابية.
في الكونغرس، يمكن للرئيس الاعتماد، حتى الآن، على 37 نائبا لحزبه “بيرو الحرة”، و5 مقاعد لحزب “معا من أجل بيرو”. وسيضطر للدخول في تفاهمات مع القوى الوسطية لتمرير قوانين، أو لمحاولة إلغاء الدستور الموروث من حكومات اليمين. وسيكون العامل الحاسم هو نجاحه في تعبئة وتنظيم واسع النطاق للمستغلين والمحرومين من فرص التعليم، والحياة الحرة الكريمة. وبالمقابل سيواجه مجموعة من المعوقات، الأكثرية اليمينية في الكونغرس، الدستور النافذ، ومؤسسات الدولة. بالإضافة إلى عدم وجود إطار جامع لقوى اليسار، باستثناء دعم نقابة المعلمين التي ينتمي اليها، والتي يمكن ان تكون نواة لتجميع شبكة وطنية داعمة. ومن المهم أن تدافع الجماهير العريضة عن المنجز الديمقراطي المتحقق، وتعميق محتواه الاجتماعي. وسيكون التضامن الدولي مطلوبا ايضا، لتحقيق شعار حملة الرئيس الانتخابية.

خطاب التنصيب
في حفل أداء اليمين الدستوري، بحضور رئيسة البرلمان وعدد من الشخصيات السياسية، وعدد من رؤساء الجمهورية لبلدان أمريكا اللاتينية، وكذلك الملك الاسباني. خاطب الرئيس الشعب عبر “رسالة إلى الأمة” دامت قرابة الساعة، تضمنت عرض الخطوط الرئيسة لسياسته حتى العام 2026.
رحب الرئيس بالحضور، وأشاد بسكان البلاد الأصليين والأفرو بيروفيين. والقى نظرة على تاريخ الأمة، منتقدًا العلاقات الاستعمارية. ومذكرا بالغزو الإسباني، وقرون من الاستغلال و “النظام العنصري الذي فرضه نائب الملك”، الذي حكم السكان الأصليين والسكان الأفرو-بيروفيين بالعنف كرقيق. وان “استغلال الموارد الطبيعية، وعمل اجداد الكثيرين منا جعل تطور وتنمية اوربا ممكنة”.
وذكر بانقلاب عام 1992 “الذي وضع أسس تقليص الحقوق وإضعاف الدولة والقواعد التي لا تزال سارية حتى اليوم”. وهي إشارة إلى عهد الدكتاتور ألبرتو فوجيموري، والد منافسته في الانتخابات الأخيرة، دون ان يذكره بالاسم مباشرة. واكد عزمه على تعديل الدستور. ورغبته في “أن يحكم مع الناس ومن أجلهم لبناء بيرو من الأسفل إلى الأعلى” وشدد على انه معلم بسيط من منطقة الأنديز المحرومة والمنسية.
وتناول ملفات الصحة ومكافحة الوباء الفساد، وتطوير الاقتصاد ونظام التعليم، وخاصة في المناطق الريفية، وكذلك الزراعة والتعدين وتغير المناخ، حماية النساء والأطفال، وتوسيع البنية التحتية في المناطق المهمشة. ووعد بتوفير اللقاح للجميع وبناء نظام صحي عام مجاني لا مركزي تشاركي، وعندها سوف لا يضطر الملايين للسفر إلى العاصمة للحصول على العلاج.
وان البلاد بحاجة إلى توفير فرص عمل، والدخل الكافي للعائلة، ويجب ان يكون الاقتصاد منظما، ومعروف المسارات، ليشكل قاعدة لقرارات الاستثمار. وأن الدولة ستضمن حق العمل والملكية المشروعة. وعرض حزمة من التوجهات بخصوص التعدين والمناجم، وتطوير المشاريع الصناعية على أسس اجتماعية وسياسة مناخية تقدمية. وتوسيع شبكة السكك الحديد داخل البلاد وفي المناطق الساحلية، لربط الأسواق المحلية وتطوير السياحة.
وفي الختام شدد الرئيس على أنه “يريد القطيعة مع الرموز الاستعمارية”. وانه لن يمارس مهامه من القصر الرئاسي “كاسا دي بيزارو” في وسط العاصمة، الذي شيده عام 1535 الغزاة والطاغية الإسباني الدموي لبيرو فرانسيسكو بيزارو. وان “القصر الرئاسي سيصبح مقر وزارة الثقافات الجديدة ويكون بمثابة متحف للثقافات البيروفية والأصلية والأفرو-بيروفية المتنوعة”.

خطوات أولى ومواجهات متوقعة
الخطوة الأولى في السياسة الخارجية أمر الرئيس بالانسحاب مما يسمى مجموعة ليما، تجسيدا لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. وبالانسحاب من “مجموعة ليما” التي أسستها في آب 2017، في العاصمة ليما، 14 دولة من أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية والكاريبية لدعم المعارضة اليمينية في فنزويلا، تحذو بيرو حذو الأرجنتين وبوليفيا والمكسيك. ويتمتع القرار البيروفي بأهمية خاصة، لأن المجموعة العدوانية حملت اسم عاصمة بيرو. وبالمقابل تتبنى حكومة اليسار سياسة التكامل بين شعوب القارة والتعاون والتنسيق المشترك مع الأنظمة اليسارية والتقدمية.
ولم يتأخر اليمين ومؤسسات الدولة الموروثة من الاعتراض على تشكيلة الحكومة الجديدة، واتهام رئيس الوزراء الجديد وعدد من وزرائه بالإرهاب، لانتماء بعضهم في سنوات سابقة لحركة الكفاح المسلح الماوية. بالإضافة إلى اتهامات بالفساد لشخصيات قيادية وكوادر في حزب الرئيس، بعد أسبوعين فقط من استلامهم لمهامهم الحكومية. وعلى الرغم من عدم امتلاك اليمين لأغلبية الثلثين، لحجب الثقة عن الحكومة، الا أن محاولاته في توظيف التوازنات البرلمانية ستستمر. وما يخشاه اليمين اقدام الرئيس على حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، في ظل ظروف تبدو مواتية لليسار.
وعلى الرغم من إثارة المتاعب المبكرة، تعمل الحكومة بالفعل على عدد من القضايا الرئيسية التي تضمنها البرنامج الانتخابي. وقال رئيس الوزراء بيليدو ان الحكومة تخطط للمشاركة في بعض الصناعات الرئيسية مثل الغاز الطبيعي والطاقة الكهرومائية. كما تريد تأسيس شركات جديدة مملوكة للدولة وتشكيل لجنة للتعامل مع ارتفاع التضخم وضعف العملة الوطنية “سول”. وسيترأس وزير الاقتصاد بيدرو فرانك هذه اللجنة.