الإيمان بين الاصل والصورة


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7002 - 2021 / 8 / 28 - 16:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الصورة والأصل
على مدى تاريخ الفكر الديني في المجتمع الإسلامي كان هناك تناقض بين صورة المعتقد المجسد واقعا وبين أصله التكويني عند كل الطوائف والمذاهب الإسلامية ، تجلى كثيرا عند الفرق الأصولية السلفية تحديدا وعند كل الفرق الاسلامية والمذاهب بشكل عام، وتأطيرا للعنوان الكامل نقول عند متشددي الشيعة والسنة كونهما اليوم هما وجهان للصرع الفكري والعقيدي في المجتمع الإسلامي دون أن ننفي تلك المظاهر عند بقية الطوائف والمذاهب.
ففي الوقت الذي أتخذ الشيعة من ثورة الإمام الحسين شعارا ومنطلقا للكثير من أراءهم الفكرية والسياسية وما جسدوه واقعا تأسيسيا لفهمهم لفكرة الثورة والحرية وضرورة التخلص من الطغيان الاستبدادي والعودة بالشريعة لأصلها التكويني ، نجدهم في ذات الوقت يتشبثون بمبدأ لتقليد والرجوع إلى المرجعية في كل مرة في ما يخص أصول العمل العبادي وخاصة في تحديدات قيم الحلال والحرام مستندين وإن في وقت متأخر حدوث هذا الأمر على قاعدة أن العمل العبادي حتى يكون مجزيا يجب أن يكون موافقا لعقل المرجع لديني الأعلم وإلا عُد العمل غير مجزي وقد يصاب العامل بما تعبده به تحت طائلة البطلان والخسران.
لا أحد ينكر أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام ودعوته للحرية لم تنطلق من ترف فكري ولا كانت ردة فعل شخصية بل كانت تجسيد لمسئولية الإنسان الحر في الانعتاق من فكر العبودية الإنسان للإنسان والتقوقع فيما يرى من تصور خارج حدود الرسالة التي رسمت معالم التعبد وجسدها الرسول صل الله عليه وأله وسلم والرعيل الأول من المسلمين الأخيار عندما رفض أن يكون مناطات الفكري البشري هي المحدد لتوضيح رؤية الله للدين وإعادة صياغة العلاقة الربانية وفق مقصدية الآية لكريمة{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}النساء59.
من مجمل نص الآية الكريمة ودلالاتها هناك محددين يتعلقان بموضوعين منفصلين وإن كان مؤداهم بالنتيجة واحد وهما:.
• الطاعة في قبول التنزيل والتأويل وقد حصر الله المسألتين بالعودة إلى ثلاث جهات هي الله ورسوله وأولي الأمر منكم ، وهذا الأمر مستغرق في العمومية لكل المسلمين بالإلزام في طاعة هؤلاء دون أن يكون هناك تخصيص أو تقصير عن القاعدة.
• التحكيم في المنازعة وهو حال حدوث التعارض بين التأويلات والقراءات التي تنشب بعد غياب الرسول صل الله عليه وأله وسلم وقطعا غياب الوسطة إلى الله من خلاله ، وهذ يعني أن المنازعة التي تكون بين أولي الأمر وبين باق المسلمين ، أو بين باق المسلمين أنفسهم تكون مردها إلى الله ورسوله فقط لأن فيه أحسنية التأويل والخيرية التامة.
إن المبدأ العام والمعتقد الراسخ عند المسلمين الشيعة في تحديد مناط الطاعة فيما يخص أولي الأمر يستقر عند العترة فقط والذين خص ونص عليهم الرسول ص قبل وفاته وأثناء حياته ، فهم ملزمون بالطاعة لهم والتعبد وفق ما يتحصل لهم من علم متوارث عن جدهم وما استقر عندهم من علم مخصوص ، وبالتالي فالتوالي في الطاعة لهم والمتابعة عليها لا أشكال عقدي ولا عقلي فيه طالما أن الإمام المعصوم موجود وعلى تماس مع الناس فهو مصدر تأويل وتفسير وتوضيح وكلامة معصوم والرد على عقله رد على رسول الله.
الإشكالية حدثت بعد الغيبة الصغرى الأولى للإمام الثاني عشر وقد أمنت النخب الفكرية الشيعية وعلمائها على أن وجود الإمام في الغيبة مع التوصل بواسطة السفراء يكفي لكي يكون العمل مستمرا ومنجزا بالطاعة ولا خلاف على ذلك أو به، ولكن الإشكالية ثارت مجددا بعد الغيبة الكبرى وانقطاع السفارة بين الإمام وبين جمهور المؤمنين وإن وضع الإمام حسب اعتقاد الجمهور العلمائي معيار أحال بموجبه على طبقة لعلماء الربانيين مسئولية توضيح الأحكام من خلال إرجاعها لنفس المناطات التقليدية وهي الكتاب وسنة الرسول والمعصوم والمتراكم من الفقه الوارد عنهم ، لكن لم يلقي الإمام على المؤمنين أن يحصروا فعلهم التعبدي العقلي كله في سلة المؤمن التقي المحافظ على دينه والمخالف لهواه .بل رسم المعيارية على خط العقل بقوله ، على العوام تقليده فيه.
قد لا يرى البعض في هذه إشكالية طالما أن العالم (المرجع إليه في الأمر) وهو المطلوب والمقصود لازال على درب الفكرة الاساسية وفي صورة الطاعة وينتزع فقهه من خلال الثراء المتروك والمنقول عن أولي الأمر وهذا موقف عقلي صحيح وموافق عليه الأغلب من رجال العلم والعقل، لكن التناقض يحدث عندما يكون هناك أكثر من رأي وأكثر من مرجعية قد تختلف جزئيا أو كليا في بعض المسائل وتتنوع الرؤى ، هنا تثار مسألة المعيار لذي يجب أن يؤخذ كحد في التقييم ثم المتابعة على الأخذ من هذا المرجع أو ذاك استنادا إلى القاعدة الأولى ، وهل أن هذا الأخذ هو بمدار تعقلي تدبيري أم مجرد تقليد وعبودية العقل الأخر وإن كان تابعا لمولاه ومخالفا لهواه ،لأن التسليم بهذا يعني أني لذي لا أتفق معه اكون مخالفا لمولاي ومسلما لهواي، وهذا مبدأ تكفيري خطير.
المسألة برمتها تعني ارتهان العقل العام والجمعي بالعقل والرأي الفردي بلحاظ أن هذا العقل والرأي مهما أمتلك من مقومات وأحرز من درجات العلم يبقى غير معصوم وغير مؤهل للكمال الذي معه يتولد الاطمئنان والسلامة في التعبد الفرضي، مما يحرم معه الارتهان العقلي والتبعية التي تتناقض مع جوهرة فكر الشيعة المبني على فكرة ثورة الإمام الحسين وتعلقهم بالحرية التي صاغها في مقولته الشهيرة (إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرار بدنياكم) ،الحرية عند الإمام الحسين مستلزم ذاتي للإنسانية ومكون طبيعي لها ، ومن هنا الاعتراض يأخذ شكل تناقضي عندما ترفع شعار وتؤمن به في الوقت عينه تدعو عمليا لما يناقضه تحت دعوى القداسة والحفاظ على الذات الشيعية.
هذا التناقض الجوهري بين مكون الفكر الشيعي وما تأسس عليه من ركائز إنسانية تتمثل في الإخلاص والطاعة بحدودهما الربانية مع إيمان الشيعة البالغ بدور العقل وتفهمهم لدور الحرية كفاعل تكويني اخر يصون الإيمان ويحقق كرمة الإنسان ، لكن في المقابل نجد أن الميل الشيعي اليوم يتجه نحو عبادة الذات الفردية وتجسيد شخصنة المذهب برجال محددين على أن يكون الانتماء لهم هو انتماء لكل الحقيقية والخلاف معهم خلاف يرجعك للجاهلية والكفر.
لقد شاهدنا انفصام حقيقي بين الصورة المجسدة لمنعكس الاصل التكويني وكيفية تعارض الخطوط في فهم معنى الحرية والعقل ولو بصورة شديدة الاختصار عند الشيعة، هذا التعارض يتجسد أيضا عند الفرقة السلفية الحنبلية المتشددة في الجانب الاخر من الفكر الإسلامي ولذي أعلن منذ بدء تكوينه شعار التوحيد المطلق لله ورفض أي قراءة لهذا التوحيد بأي صورة كانت معتمدا أيضا على الفكر الاسترجاعي وبناءه على ما ثبت صلاحه من العمل والتعبد بعيدا عن عاملي الزمن والمكان.
التوحيد له مدى فردي يتمثل في كيفية تعقل العابد للخالق وفق ما يجده في مقدمات واطر تكوين الرسالة وما ترسخ من فهمه لها ،وهو من أول اركان الايمان عند جميع المسلمين فلا يمكن ان يقبل أي مسلم أن يضع التوحيد في إطارية غير اطارية الثابت الذي لا يزول ، وبالتالي فدعوى التوحيد دعوى اصلية ومؤسسة في الفكر الاسلامي ولا يمكن لاحد الادعاء بحصريتها فيه دون سواه ، المشكل ليس في الادعاء أذن ،الأشكال متجسد في الصورة التي يفهمها السلفيون وحدودها ومداها ، وقدرة العقل في رسم حدودها الحقيقية .
هنا برز منشأ الانفصام وأيضا من المدى الاخر للتوحيد وهو التوحد في الخالق أي أن مجموع العباد لله هم مجتمع واحد متساوي في الصيرورة ولكن مختلف بالعمل وبالتالي فالأمر متروك لله باعتباره هو الحكم فيما يختلف الناس في العبادة وهو الذي يقدر ويعلم ويحاسب ، المشكلة عند السلفيون برغم من ايمانهم بهذا المدى وما سبقه إلا أنهم يصرون أيضا على أن الصورة التي يرسمونها هي الاصل وما عدا ذلك كفر والحاد ، وبالتالي يستنهض عندهم داع الجهاد لإنقاذ هذه الصورة وكأنهم يرفضون مبد ان الإسلام وحده وليس فرقة{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48.
إن إنكار مبدأ التنوع وأحقية الاختلاف في القراءة سمة أساسية في فكر المذهب الحنبلي وتشدده غير المعتاد مع لحاظ سماحة الاسلام وقبوله في حدود الحرية التي منحها الله في ان يكون الخلاف محكوما بالرد الى لله والى رسوله كما جاء في النص السابق ، ومن هنا تتجلى المفارقة بين دعوة التوحيد وبين الشعور بالأنا الذاتية التي تحصر وتختصر الاسلام في هذه المجموعة دون ان تعط للأخرين حق الانتماء والطاعة والاحتكام لمراد الله في نصوص القرآن الكريم ، وبالتالي فالصورة المنعكسة سلوكيا وعمليا تختلف هنا عند المتشددة أيضا عن حقيقتها التكوينية الاولى.
إن التمسك بالتوحيد بمورده الاول الذاتي الذي هو علاقة بين العابد والمعبود لا تبيح لأحد أن يتدخل قهريا في رسمها ولكن ينحصر الواجب الكفائي في الدعوى إلى الاحسان {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125، هنا الحسم واضح بالمسئولية عن الحكم وعن نتيجة الاحتكام لأن العقل البشري وإن تمتع بأعلى درجات العلم لا يمكنه ان يدرك العلات والغايات الربانية {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }آل عمران66.
شهدنا في هذين النموذجين المختصرين كيف يكون التناقض بين الاصل والصورة جليا ومؤثرا وما ينتج عن هذا التناقض من متعارضات حقيقية للفكرة المؤسسة والسند اليقيني الذي يبتنى عليه بناء علاقة بين الله وبين الناس أساسه إرادة الله أولا والاختيار المشائي الإنساني دون أن تكون للقهرية وجود في موارد وبواطن القصدية من الأمر الرباني إلا فيما يتعلق بنتائج الخيار وما يترتب عليه من استحقاقات ،إن العودة للمقارنة بين الاصل والصورة في كل مرة واكتشاف الفوارق هو من يحمي الإيمان من الضلال ويحمي الإنسان من واقعة الكفر والتكفير.