إسلام سلام وإسلام حرب


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7000 - 2021 / 8 / 26 - 00:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الدين المقوم الروحي الذي نجح عبر التاريخ بشد الإنسان إلى أخيه الإنسان بدرجات تقترب من الشمولية أحيانا وتختصر العلاقة على الانتماء أحيانا أخرى من خلال ربط الواقع بالفضيلة والخير والمحبة والعمل الصالح , كل الأديان من مشرق الأرض لمغربها بنت ثقافة الربط على أساس خير الإنسان أو ما يجعل الإنسان يتلمس الخير ,هنا شعر بجدية الحفاظ على الدين والتصديق بما يريد ليس كاستجابة عمياء قد تنطلي على فرد أو مجموعة أفراد بل لأنه لمس فعلا من خلال المعايشة أن ضروريات الدين واحدة من أهم ضروريا الأنتظام والأستمرار في الوجود المتحرك بل وأحبانا يكون هو الدافع الأساس لذلك .
لا ننكر أن بعض الصيغ الدينية قد جرت على الإنسان الكثير من الويلات ولكنها من خلال الفحص والرد نرى أنها أساسا صيغ هجينة وغير أصيلة من صيغ الدين بل وأحيانا تكون معادية لأهداف الدين ذاته ومتناقضة مع الغائية التي يسعى لها كونها وخلقها وصنعها فكر منحرف , فكر لا يؤمن أساسا بحل الدين ولا يؤمن بالإنسان فهو مناقض للغاية والوسيلة ولكن عليه أن ينتسب لأحدهما كي يقنع بعض الإنسان أنه ما عمل ذلك إلا تطبيقا لمفهوم ديني غاب عن الكثيرون وهو الذي أكتشف هذا السر وجعله أمام الناس كي يصلح المسيرة الدينية.
حدث هذا في القرون الغابرة كما حدث في القرون الوسطى وما زالت المسيرة المنحرفة تتوالي في أنتاج مشروعها التدميري مشروع الكراهية لله أولا وبالتالي للدين وللإنسانية , فمثلا الصيغ الدينية التي تؤمن أن الفئة الفلانية من الناس هم شعب الله المختار وما على بقية الإنسانية إلا الإنصياع لهذه الرؤية تساوي وتماثل دعوة البعض من الفرق الإسلامية أن الله ما أنزل الدين وما بعث الإسلام إلا لكي تسود قريش ومنهجها المحافظ على الناس حتى لو تناقض هذا المنهج مع أسس الدين وبديهياته ومنها إنا خلقناكم من ذكر وأنثى لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم , هنا النص لا ينفي الرؤية بل يضع قاعدة الإنسانية أولا وقبل كل شيء إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
هل يعني أن وجود منهج الإنحراف واللا إنسانية في بعض المفاصل ومن بعض الأصوات الشاذة التي لا ترى في الإنسانية قاعدة كلية تجتمع عندها البشرية ومنها تنطلق للقيم الروحية تحت خيار الحرية مثلما أراد الله , أن نجعل من الدين والانتماء للإيمان بقيم السلام الروحية خيارا طوباويا معاديا للحياة , العقل السليم يقول أن المعرفة الإنسانية المحضة أنتجت رؤى وأفكار أكثر فظاعة من هذه مثل النازية والفاشية وغيرها من التطرف الفكري الذي يقوده العقل المنحرف وليس المعرفة ولا الدين هو السبب , السبب الحقيقي هي الأنا المريضة المتضخمة التي تعاني من عقدة التفوق أو عقدة النقص المزمن .
في أواخر القرن المنصرم ظهر مفهوم الإسلام السياسي كقوة سياسية وفكر متسلح بالمحافظة السياسية المدعوم بالقوة العسكرية نتيجة تراكم العداء السياسي والفكري وتحويل الاختلاف الديني في الرؤى والقراءات داخل المجتمع الإسلامي الواحد إلى أختلاف أيديولوجي متصارع يحتمي خلف أنظمة سياسية تستغل هذا الصراع وتدعمه للحفاظ على التسلط وتستر فيه على اللا شرعية واللا مشروطية التي تعريهم أمام شعوبهم والحركات المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان, فهي تستغل الصراع الديني كبديل عن الصراع الحضاري الوطني بين منهج التسلط والديكتاتورية وبين مطالبة الشعوب بحقها في تقرير المصير بعيدا عن الهيمنة والديكتاتورية , لذا فأن أكثر الداعمين للتيار السياسي الإسلامي المحافظ هي الأنظمة الأكثر استبدادا وقمعا وتسلطا وأبعدها عن مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان .
كان الصراع الرئيسي في طول وعرض القرن المنصرم بين الشعوب العربية والإسلامية من جهة وبين قوى الأستعمار والاحتلال العسكري الذي سرق ثروات الشعوب وضيع المستقبل حتى كادت أن تندثر الثقافة والشخصية الذاتية للعرب والمسلمين وضياع الهوية الحضارية لهم ,أدرك الأستعمار الغربي أن الأمور لا يمكن أن تستقيم وفق نظرية اليد المباشرة والفعل الحاضر على الأرض وأستنبطت فكرة الحكم بالنيابة من خلال أنظمة شمولية وفردية قمعية لا تتهاون بأي شيء في سبيل الدفاع عن مصالح الغرب وتوجهاته ومن خلال أيضا فكرة تقسيم المقسم وتفتيت المفتت وتسليط قوة تتركز في نواة تتفوق بقدرتها وتنظيمها على جميع القوة العربية والإسلامية فكانت إسرائيل الحل السحري الذي منحها ما تريد بجانب الأنظمة الديكتاتورية البغيضة .
نالت الكثير من البلدان استقلالها الشكلي لتدخل في صراع جديد سياسي ديني وحضاري فكري بينها وبين إسرائيل النموذج الذي وضعه الغرب وسلطه بالقوة والدعم المباشر لعدة أهداف الأبرز ما فيها التخلص من ضغط الوجود اليهودي المقلق داخل بلدانها وأشغال العرب والمسلمين بعدو لا يمكن الأنتصار عليه ولا يمكن تصور انتصاره على المجتمعين العربي والإسلامي لتبقى دائرة الصراعات مستمرة إلى أجل غير محدد, بذلك يضمن الغرب سيطرته الحريرية على العرب والمسلمين دون أن يكون طرفا مباشرا وخصما لشعوبها .
لقد تحول الصراع من صراع سياسي وعسكري إلى وجهة أخرى ظنت بعض القوى الإسلامية أن المؤدى الحقيقي والغاية من الصراع ليست المصالح الغربية فقط ولا هو صراع حضارات بقدر ما هو صراع بين الإسلام وأعداءه وصوروا للقاعدة الشعبية البسيطة أن الأنتصار على هذا العدو لا يتم إلا من خلال الحل الجهادي الذي يجمع الغرب والقوى المنفتحة علية والمتعاونة معه والقوى التي لا تؤمن بنظرية أن الحلول تأريخية عقيدية يجعلهم في كفة واحدة والجهاد ودعاته في جهة أخرى وظهرت نظرية من لا يؤمن بالحل الجهادي فهو كافر وإن كان مسلما مؤمنا كامل الإيمان وظهرت على أثر ذلك قوى الإسلام السياسي في نسختها المحافظة السنية المتشددة .
كان أنتصار الثورة الإيرانية بتوقيت تزامن مع ظهور البوادر السياسية الجادة في فكر التكفير والجهاد المسلح ليشعل من جهته نار الصراع مرة أخرى بظهور خصم نقيض ومعاكس للوجهة الأصلية لتيار الإسلام السياسي , تحول هذا الخصم من خصم ثانوي إلى خصم رئيسي ومباشر جراء أشتعال الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثمان سنوات والتحشيد الفكري والسياسي لكلا طرفي النزاع وتحوله من صراع عسكري بين دولتين ونظامين يفترض أنهما ضد خصم واحد وهو المعلن إسرائيل إلى حرب سمحت للكيان الصهيوني أن يمارس القوة والتوسع معتمدا على تشتت الجهد العسكري العربي وإنشغال العالم الإسلامي كله بالحرب العراقية الإيرانية .
في فترة الثمانينات من القرن الماضي كان الصراع قوميا دينيا بين العرب والفرس هكذا تم تصويره والحقيقة هو بين منهج المحافظة الرسمي الممتد لقرون مع منهج وحراك للمدرسة الأخرى التي جعلت من العنوانين المذهبي والعنصري عنوان واحد صار الشيعة يمثلهم الفرس والفرس هم الناطق الرسمي لهم ,من الطبيعي أن تكون ردة الفعل هنا وعلى أمتداد التأريخ أن العروبة تمثل المدرسة المحافظة وتقودها بأموال أهل مكة وتجارتهم عبر الحدود وطبعا رجال دين أهل مكة حاضرون للتبرير والعليل طالما أنهم يرون بعين السيادة لا بعين القيادة .
عشر سنوات أنتهت في أوائل التسعينات على كارثة أحتلال العراق للكويت كانت صدمة للعروبيين وكانت في الحقيقة صراع بين أتجاهين في المدرسة الإعرابية الأولى تمثل تقديم الدين الرسمي على العروبة لتحتفظ لنفسها بالمدد اللا عربي والعمق الإسلامي المتطرف , أما مدرسة سنة العراق والتي يمثلها النهج القومي البعثي العنصري كانت ترى أن القيادة تعني السيادة وأن من لا يريد الالتحاق بالقيادة سيجبر يوما تحت ضربات السيف العربي أن يعود , هكذا نشأ وهكذا تحول الصراع داخلي بين المدرسة العربانية ذاتها تزعمت السعودية صقور قريش وتزعم التيار القومي شباب قريش وكلهم يؤمنون أن الإسلام لقريش فقط قيادة وإرادة بلا منازع .
في هذا الوقت الخاسر في معركة الثمانينات عرف اللعبة وأتقن فن المناورة مستعينا بالتاريخ والعنصر القومي الفارسي الموجه أصلا بنزعة مقاومة ليطرف رأس قريش في أطر قضايا العروبة والإسلام وهي قضية فلسطين فتبنى شعار التحرير ودعم الأصوات المقاومة التي وحسب تدرجها الأقرب فالأقرب ابتدأ من المقاومة الإسلامية في لبنان ثم في فلسطين لتحل محل المجتمع العربي الذي ظهر عاجزا غير قادرا على التوافق بين منهج المقاومة وبين المطاوعة التقليدية للسلطة الرسمية والمحكوم دوما بعدم الخروج عن الحاكم ,ليكتشف أعراب مكة أن عدوهم أكبر من هزيمة وأن عليهم المواجهة بذات الأسلوب .
أسلوب الدمج والتوحد وهو ربط العقيدة الإعرابية بالمذهب وقد سبق هذا الإكتشاف محاولات قديمة من زمن حسن البنا وسيد قطب وبعدها الهزيمة الكبرى في حزيران 67 ثم الغزو السوفيتي لأفغانستان وتدخل المصالح الدولية الخارجية بحجة دعم المجاهدين لتجتمع وتتحول إلى مفهوم ناضج تنظيما قادرا على أن يحارب المدرسة الأخرى وبخيارات أكثر تطرفا من خيارات المؤسسة الرسمية العربية التي لا يمكنها أن تلعب على الصراعات العسكرية المباشرة بين الدول .
تحول الإسلام السياسي في الألفية الثالثة إلى مدرستين متعاضدتين يدفعهما صراع خفي بين قوى ثلاث حاضرة في الساحة بعد إنهيار المد القومي الذي ترنح تحت ضربات المدرسة الإعرابية المحافظة وأيضا جملة من الأخطاء التكتيكية التي عرتها أحداث الكويت والفترة اللاحقة وأنفراط عقد العمل القومي العربي وحتى المؤسسات التي كانت تمثل نوع من أنواع العمل العربي المشترك تحولت إلى مؤسسات إعرابية يقودها الجناح المتشدد والسلفي العرباني ,السعودية رأس العربانية السلفية فكريا وأجتماعيا تتزعم مدرسة التشدد العرباني والمدرسة التركية التي صحت بفوز التيار الإسلامي المحدث (الأخوان المسلمين) على حلم أعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية واللاعب الثالث والذي يلعب على الخلافات بين الطرفين وهو إيران الشيعية التي تحولت من دولة مهزومة تعيش في حفر التأريخ إلى دولة محورية حديثة تتطلع لقيادة المنطقة وتزعم الصراع الإسلامي مع كل أعداءه .
مصر الحضارة باعها حسني مبارك وتحت سياسة التفقير والإنهاك الأقتصادي إلى المحور الأول محور العربانية السلفية في محاولة منه لمسايرة الأحداث والحفاظ على السلطة والامتيازات وخاصة أن تحت سطوة معاهدة السلام التي وقعها سلفه والتي أتخذت منها قوى الإسلام السياسي التكفيري السلفي عنوان للحرب عليه , يشتد الصراع بينها وبين سلطة مبارك ويهدأ حسب تفاعل العلاقة الرسمية المصرية السعودية ,في حين يتغلغل المد الثاني الشيعي في بعض المجتمعات الإسلامية أثر النضال الوطني والأنتصارات التي حققها حلفاء إيران في المنطقة في لبنان وفلسطين وتحت عناوين نصرة الحق والإسلام والمسلمين يصحو الشارع العربي والإسلامي على تمدد غير مسبوق داخل بني اجتماعية لم تعرف التشيع في صفوفها فتثور ثائرة المدرسة العربانية التي لا عذر لها وهي ترى أن التحولات تخترقها بصورة ناعمة وحريرية .
في بدايات هذه الألفية ونتيجة تحول الصراع من صراع عربي إسلامي ضد عدو خارجي الأستعمار أولا وإسرائيل لاحقا إلى صراع عربي قومي بمواجهة عدو إسلامي قومي ثم عَربي سلفي بوجه عربي مستجيب لعنصريته الأولى لكنه حداثي بمعنى عربي عباسي بدل عربي قريشي ثم عربي قومي إسلامي محافظ سلفي ضد إسلامي مذهبي قومي منافس , دخلت في أركانه أطماع تأريخية وأحلام إمبراطورية مع إحساس أن المدرسة العربانية التي تمثلها السعودية ستكون الخاسر القادم لا محالة بعد أن أصبح العالم بفضل العولمة قرية صغيرة لا يمكن التحكم بعد بقوة في العقل الجمعي الإسلامي المحافظ ولا حتى بالإستعانة بكل أسباب القوة , هنا نزل التيار السلفي الشوفيني المتعصب بكل ثقله لينشر الفوضى ويخرب القيم الإسلامية كلها بطرح الجهاد والفوضى التكفيرية بكل مكان استهدافا للصحوة التي قادها شباب عبر وسائل حريرية .