نصر للأخلاق وهزيمة للسياسة !


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6999 - 2021 / 8 / 25 - 12:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

السياسة سياسات ، فهي متنوعة ، متعددة . والذي ساد منها في تونس خلال عشر سنوات هي السياسة السياسوية ، سياسة المخاتلة والغدر والنفاق والمراوغة ورقصة الأفعى ، مؤامرات ودسائس ، بيع وشراء ، سياحة برلمانية ، تسريبات ، سرقات ، تضارب مصالح ، أقوال في واد وأفعال في واد آخر الخ .. وكانت القصور الثلاث حلبة تلك السياسة ومسرحها .
والنتيجة غرق تونس في الأزمات حتى أضحت منهكة لا تقوى على الوقوف على قدميها .
وكثيرا ما تساءل التونسيون من أين جاء صناع تلك السياسة ؟ ووجدت حيرتهم تعبيرا عنها في قول شاعرهم الصغير أولاد حمد :
لينبت دود مكان البلح
ذهبنا جميعا الى الانتخاب
ولم ينتخب أحد من نجح.
وأصبحوا يتندرون بأنهم كانوا هدفا للصوصية الحزب الواحد فأصبحوا هدفا للصوصية عدد من الأحزاب ، التي راحت تتنافس على افتراس لحمهم وشرب دمهم ، فقد أفرغت خزينة الدولة وتفاقمت الديــــــون وانهار الدينار وانتشرت البطالة وتفشى الانتحار والهجرة والجريمة .
وطيلة تلك السنوات كان البرلمان السلطة الديكتاتورية الأولي، وهو الذي استوطنه الفساد والفاسدون، وكان التونسيون شهودا على دماء سالت تحت قبته ولكمات بين أعضائه ، وصولا الى انحدار أخلاقي لا سابق له ،عندما أمسك نائب بين يديه أوراقا نقدية ، مُلوحا بها في وجه زميلته طالبا شراء عرضها .
لقد تورط الحكام في نفق تلك السياسة السياسوية وأضحوا أسرى دسائسها ،مما ولد قطيعة ما فتئت تكبر وتتسع بينهم وبين الشعب ، الذي أصبح خارج لعبتهم ، يراقب انتخاباتهم دون مشاركة جدية فيها ، مُستمعا الى خطبهم ووعودهم دون تصديقها ، كاظما غيضه ضدهم ، منتظرا اللحظة المناسبة للتحرر منهم ، مذكرا إياهم في كل مرة من خلال احتجاجاته أنه حي يرزق .
وعندما جاء قيس سعيد الى كرسي الرئاسة أشهر سيف الأخلاق أمام تلك السياسة ، مُشاركا الشعب غضبه منها ، مؤكدا على الاستقامة ونظافة اليد والوفاء للوطن وحب الشعب والتفاني في خدمته ، ولم تكن الأخلاق لديه قيما يتم ترديدها فقط وانما أفعالا أيضا ، سكن الرجل حيا شعبيا وعندما أضحى رئيسا وجد حراسه صعوبة في إقناعه بسكن القصر لاعتبارات أمنية ، تقرب منه سياسيون على أمل عقد صفقات معه فرفض ، اعتبر السياسة ابتلاء فعقد العزم على تحمله ، وصولا الى قراراته الجريئة ، التي كان محركها حب الوطن والتضحية في سبيله ، فقد وضع حياته على كفه يوم 25 جويلية 2021 وسار نحو المستقبل بخطوة ثابتة ، وهو يصغي الى مطالب شعب لم يعد الخطر يداهمه بل أصبح يعيش في بيته ، فتهاوت تلك السياسة السياسوية أو توارت على الأقل عن الأنظار حتى الآن، وكان ذلك بيان نصر الأخلاق على السياسة .
خبر قيس سعيد الشعب وأدرك ألمه واضطهاده على مدى السنين ،هو أصلا خارج من بين ضلوعه، تجول في أرجائه فانحاز اليه، وهو الذي يشعر اليوم أن التاريخ التونسي وربما العربي أيضا يفتح أمامه صفحاته وعليه الكتابة ،هو زاهد في السلطة ومن يتهمه بالشعبوية اليمينية لا يعرفه ولا يعرف ما هي الشعبوية ، خالطا بينها وبين الشعبية عن مكر أو جهل. فالرئيس وهو ينشغل بحل المعضلات السياسية و الاجتماعية والقضائية والتعليمية ، يوجد في قلب الفعل الشعبي لذلك يؤيده طيف واسع من الناس ، من اتحاد العمال الى اتحاد الكتاب وجمعيات المحامين حتى الأحزاب والمنظمات والجمعيات ، التي تراه يسير مع الشعب ، فضلا عن الشبيبة .
انه يعبر عن روح الشعب ، ومن خلاله تتواصل انتفاضة 17 ديسمبر وفي قصر قرطاج نفسه ، مرددا الشعار بين جدرانه : خبز وماء ولا رجوع الى الوراء. مُؤكدا أن لا حوار مع الخلايا السرطانية ، و تتجول أرواح الشهداء في قصر قرطاج وقيس سعيد يناجيها ، واعدا اياها بتحقيق نصرها المؤجل .
ذلك هو جانب من لوحة تونس اليوم ، وفي الجانب الآخر هناك غربان تخيم في الغابة السوداء.، مُترصدة فرصتها ، لتهجم من جديد ، مُتوعدة بتحويل الأمل الى ألم ، وعندما نترك الأفعى تبيض ونسمح لبيضها بالتفقيس، يلتف جيش من الأفاعي حول الرقبة .