ظاهرة الإرهاب بين الحلول والرؤى


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6997 - 2021 / 8 / 23 - 01:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في العلم الأجتماعي عند دراسة أي ظاهرة لا بد أن نعود فيها للجذور وحتى الدقيقة منها المتصلة والمنفصلة وإثارة الكثير من الفرضيات والتساؤلات بالقدر الذي يكون شبه تكامل لا يخلو من جدية وحرفية في البحث والنقد والتصويب والتدليل والتفسير وحتى التأويل المبني على قواعد دقيقة ومنضبطة للحد الذي نبعد فيه الدراسة عن عنصري الأفكار المسبقة أو إسقاط الرغبات والأفكار الدفينة على منهج وطريقة البحث وصياغة النتائج , إن طريقة أستخدام المسوح الإحصائية وتوفير قواعد بيانات علمية وأستخدام طرق التحليل النفسي ودراسة النظريات الفكرية والمعرفية التربوية ,ومراقبة الميول والاتجاهات بمستويات زمنية ومكانية مختلفة وأعتبار العينيات المدروسة تمثل نموذج ليس نهائيا وناطقا بالكلية عن موضوع الدراسة سوف يساعدنا في رسم صورة مقربة عن واقع الظاهرة وهيكلية بناءها الفكري والتأريخي ومن خلالها يمكننا أن نتوقع ووفقا لقياسات قواعد التنبؤ مصير الظاهرة وكيفية توجيه المسار وفق طرائق ومناهج تعتمد أسلوب المعاكسة والضد وتغيير الاتجاهات المستقبلية .
يمكننا القول وبكل تجرد ومسئولية أن الظاهرية الإرهابية (الإفساد في الأرض)لم تنشأ من سبب واحد خارج طغيان الأنا الذاتية المتضخمة ,وإنما هي نتاج جملة من العوامل والمؤثرات التي شاركت وساهمت في خلقها ,ابتدأ من الحاضنة الإنسانية الأولى وهي الأسرة ثم المحيط بها والمحدود بعلاقات تأثير وتأثر وتربية وتنشئة تصنع الشخصية الطبيعية للطفل القادم لمعترك الحياة وهو غير محصن ولا مهيأ للمواجهة مع تأثيرا أقوى من وعيه وإدراكه الذاتي عن مفاهيم قصرت التربية والتنشئة والتعليم في زرعها بوعيه البعيد اللا مباشر , غياب الطفولة عن مفاهيم الجمال والسلام والمحبة والتعاون والعطف على كل الخلائق وتنمية حس المسئولية وزرع قيم التسامح ومنح الأخر مثلا حق التعبير عن نفسه والسماح لمبدأ الأختلاف كونه قانون طبيعي .
إن غياب مثل هذه المفاهيم والقيم والممارسات ستجعل من هذا الطفل قنبلة موقوتة سيتم البدء بتشغيلها لمجرد أن تزرع أي مفهوم مخالف للقيم الإيجابية التي تم تغييبها عن المنهج البدوي للتربية التعليم ,كما أن تعريض الطفل خاصة والإنسان حتى البالغ لمشاهد وصور تتسم بالعنف والقسوة ومناظر الدم والقتل وتبرير ذلك على أنه جزء من واقعنا لا بد لنا أن نواجهه بشجاعة ,سيزرع في وعينا السفلي المكنون رغبة دفينة لمعالجات ستجد في هذه الصور مبرر لها لمشاكل قد لا تستوجب إلا قليلا من التعقل وأستخدام المنطق في حلها .
في غياب منهج تربوي وأعلامي وتثقيفي يحد من مشاهد القسوة والعنف وصور الدمار والموت والكوارث والحروب , ومشاهدة الفظائع علنا وبكل وسائل الإعلام بجميع صنوفها وأشكالها سيساهم أيضا في تنمية الحس باعتيادية هذه المشاهد ولا تثير في الإنسان العادي أي ردات فعل أستنكارية ضدها ,بل تتحول إلى نمط دفين من تقييم وقياس لمكانة الإنسان ويصبح بذلك هذا المشهد جزء من ثقافة الواقع مما يدفع الإنسان وأيضا باللا وعي أعتبارها جزء من قانون الطبيعة ,هذا أيضا سبب في ترسيخ الكثير من الأفكار التي يجدها في طيات كتب وروايات تأريخية وأفكار دينية مضللة ومنحرفة تجسد سادية الفرد تجاه الأخر ويظن القارئ نظرا لما يشاهده في الواقع أنها تتكلم عن كل الحقيقة وعليه أن يتمسك بها لأنها أولا من واقعه وثانيا لأنها مرتبطة بمقدس محترم له سواء أكان هذا المقدس ديني أو قومي مثلا أو حتى فكري محض .
لقد مكن المجتمع ومن خلال عدم أهتمامه الجاد والمدروس بتطبيق مناهج تربية وتنشئة وتعليم وإعلام في جعل الكثير من أفراده عرضة للاهتزازات الأجتماعية التي لا تسلم منها أي مجتمع غير متمكن من التحكم بأدواته الرقابية بمعنى التدبيرية الاحترازية التي تحصن أفراده من الوقع في براثن عدم التقدير والفرز بين الصحيح والخطأ ,في هذه اللحظات الحرجة يمكننا أن نصنع من مجتمعنا مجتمع حاضن للإرهاب , مجتمع مستعد لأن يتقبل ثقافة الإفساد ويمنح لها كل الدعم اللازم للتطور خاصة إن لم يكن المجتمع ذاته أيضا قادر على تأمين نوع أخر من الأستقرار وهو الأستقرار الأقتصادي المبني على قاعدة المساواة والعدل .
الفرد الإنساني الذي يجب أن يبقى طبيعيا أي وفقا لقوانين الطبيعة التي تصفه بالسوي أي المتوازن بين عوامل الأمل والعمل وبين الحاجات والنجاحات ,سوف يجد في ظل ما ذكرناه من تقصير أساسي في العوامل الأجتماعية الطبيعية أمام الكثير من الاهتزازات والهزات العنيفة مع كل فشل لم يدرك أسبابه أو لم يستطيع أن يجد له تفسير معقول ومنطقي ليستحضر نتيجة هزائمه وخيبتاه كامل وعيه العميق لعله يجد جوابا أو تصرفا يبرر له أو يعبر بع عن ردات فعل تجاه ما تعرض له من أهتزاز ,هنا مكمن الخطورة وهنا تبدأ مفاعيل الديناميت (الأنا) المضحية بالأخر , هنا نتوقع أننا أمام مفسد ومجرم ومدمر وفاني لا يتورع أن يفعل ما بوعيه من تصرف يؤمن به لأنه استقاه من واقع وحاضر وتأريخ مجتمع سمح له أن يختار ويخزن وعيه بهذه الحلول .
الإرهاب الإفساد أذن ليس نتيجة عامل واحد ولا وليدة فكر أو عقيدة أو دين , الإفساد هو خلل أجتماعي يصيب المجتمع في وعيه الجمعي ومسئوليته الأخلاقية وفي نظامه الأساسي وحركته الكلية اليومية والتفصيلية , الإرهاب بمعنى الإفساد تحول سلبي في قيم إنسانية المجتمع وضياع للهوية الإيجابية التي تحصن وتصون الإنسان عن الإنحراف ,بهذا المعنى ممكن أن نتوقع إرهابا متنوعا من عدة مصادر قد تكون سياسية وأقتصادية وفكرية ودينية وحتى أحيانا تصبح القواعد الأخلاقية نوعا من الإرهاب والإفساد كما في قضايا القتل غسلا للعار أو يتصرف البعض بدواع يعتقد أنها أخلاقية ليحل محل المجتمع في المحاسبة وأستيفاء الحق والقانون .
الإرهاب في الأخر هو أهتزاز أركان المجتمع عندما يعجز أن يوفر لأفراده الحلول والرؤى التي تؤمن للفرد حقي السلام والعدل والمساواة ,فشل المجتمع في ضبط حركة التوازن بين أفراده وحركة التوازن بين الماضي والحاضر ,الإرهاب الإفساد جريمة مجتمع وليس ذنب فرد عندما يعجز أن يلاحظ الظواهر المخلة ويباشر في دراستها وبعمق ويصلح من مسارات تشهد أضطرابا في الحركة البينية داخله ,الإرهاب جريمة عالمية ساهمت بها مجتمعات وعمقتها أفكار تحط من قدر الإنسان وتحوله إلى ما يشبه الرقم المجرد من الحضور في صنع الواقع وتطلب منه أن ينخرط في منظومة تدار من خلف ستار تحت مسميات غيبية أو خفية أو محاولة تقديسها أو تعظيمها على أنها خيار شعبي كما فعلت النازية والفاشية في أوربا في القرن الماضي .
الإرهاب جريمة منظمة ومؤسسة لها قواعد وأصول ومنهج لا تعمل خارج الضبط والإحكام وليست ردات فعل متفرقة أو حالات فردية تنتهي بانتهاء من يمثلها ,الإرهاب يمكننا أن نسميها ثقافة الأنا المريضة التي يجب أن تعالج وفق طرائق وأساليب علمية لا تعتمد على الحلول والنظريات السطحية مثل العمل العسكري أو الدعائي المضاد , الإرهاب بحاجة إلى دراسة نقدية وتحليلية وتقويمية متخصصة وأحترافية ولكل حالة على حدة , فالإرهاب السياسي غير العسكري والفساد والإفساد المالي بحاجة إلى حلول جذرية ومعالجات قانونية وأقتصادية وفكرية تبين أولا مسارات النشوء وثانيا الحلول الإستباقية أولا ومن ثم الحلول التصحيحية للواقع ,علينا أن نتخذ من الترهيب والترغيب منهجا مع جملة من المسائل المتكاملة طريقا لمكافحة ظاهرة الفساد في البر والبحر الذي كسبته أيدي الناس وأن لا نترك واجب حضوري أعتمادا على القوة وحدها .