نحو آليات جديدة باتجاه مشروع مستقبلي لسورية


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 6995 - 2021 / 8 / 21 - 20:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعد عشرة أعوام يمكن القول: إنّ مفاعيل تعقيدات الحراك الشعبي السوري لا تزال تنطوي على احتمالات عديدة، فقد يفضي الحراك الدولي والإقليمي إلى حل سياسي ما، لكنه سيرفع الستار حينئذ عن سورية مختلفة، تتنازعها الخلافات المتنوعة. فقد كان التشكيل التاريخي للدولة السورية عند بدايات القرن العشرين مهلهلاً وضعيفاً إثر تفكك الإمبراطورية العثمانية، وبقيت منذ سنة 1946 تحمل جملة هائلة من التناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية من دون أن تلتفت إليها نخبها السياسية والفكرية لتعترف بحجم معضلاتها كي لا تُتهم في وطنيتها، فضيعت فرصاً ثمينة لإيجاد حلول عملية خلاقة بعد الاعتراف بها.
لقد فشل نظام حزب البعث، على مدى 58 عاماً، في بناء دولة لكل مواطنيها. وبالتالي، فإنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن تشويه صورة الدولة المركزية إلى حد جعل شرائح واسعة من المجتمع السوري تتطلع إلى صيغ حكم بديلة، قاسمها المشترك تقليص دور السلطة المركزية.
وتبدو سورية اليوم ملغّمة بكل عوامل الانفجار الداخلي وعصية على التوحد الوطني ضمن دولة مركزية، مما يتطلب البحث عن صيغ أكثر جدوى لإعادة بناء الدولة السورية الحديثة في ظل الجمهورية الثالثة القادمة. وبما أنّ السلطات المركزية المتعاقبة لم تستطع النهوض بعبء مهام بناء الدولة الوطنية الحديثة، فإنّ العقلاء يعتقدون بأنّ اختفاء رائحة الموت من سورية مشروط اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالدعوة الصريحة إلى إقامة نظام لامركزي موسّع يكفل الوحدة الوطنية الطوعية، ويقطع الطريق على بعض الدعوات التي قد تفضي إلى تقسيم سورية.
فبعد أن تغيّر العالم من حول النخبة الثقافية والسياسية، وتغيّرت الظروف الداخلية والخارجية، وصارت سورية في دائرة تحديات جديدة وشديدة التعقيد، فإنّ على الفاعلين السياسيين إعادة النظر في كثير من مسلماتهم وأنماط تفكيرهم وطرائق عملهم وعلاقاتهم، وإطلاق أفكار وآليات جديدة باتجاه مشروع مستقبلي لسورية، يتجاوز حمى الانقسامات والصراعات، وقد يكون النظام الرئاسي المحصن بالدستور وبضمان عدم عودة الاستبداد ونظام اللامركزية الجغرافية الموسّعة أحد خيارات المشروع.
إنّ الأمر يتطلب توافق الشعب السوري على بلورة عقد وطني جديد يخلق مساحة لمشاركة قوى سياسية واجتماعية واقتصادية في العملية السياسية الوطنية. وهذا يستدعي أن يتناول الحل السياسي القادم المواضيع والمسائل الأساسية كافة التي تهم جميع المكوّنات السورية الرئيسية، من خلال انخراط الجميع في عملية صياغة العقد الوطني الجديد. على أن تواكب هذه العملية السياسية ضمانات دولية وإقليمية في إطار الأمم المتحدة، توفر الضمانات لإنجاحها وتثبيت نتائجها وحماية هذه النتائج.
إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفيدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسية، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضاً النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي.
ولعل الأمر المهم هنا، هو أنّ الحراك الشعبي وضع سورية أمام مرحلة جديدة لم تعد تقبل بصيغة الدولة التسلطية التي قامت على المركزية وسلطة الحاكم الأوحد، ووضعت جميع السوريين أمام امتحان الديمقراطية والحرية والتعددية، وهذه مفاهيم ينبغي أن تتجسد في العقد الاجتماعي الجديد القادم والقوانين الكفيلة بحفظ الحقوق وممارستها في إطار دولة المواطنة.
وفي الواقع، تتطلب العقلانية التعامل مع الجدل السوري الجاري بشأن حدود النظام اللامركزي من زاويتين مهمتين: أولاهما، على أنه يقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة المكوّنات القومية والدينية ضمن الدولة السورية الواحدة. وثانيتهما، أنه يقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزياً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: إذا كان نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة يقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين سورياً فألا يستحق من الجميع التوقف عنده وإعطاء الفرصة له بعيداً عن الشعارات الجاهزة والتي تساويها بالتقسيم والخيانة؟
والمهم - قبل كل شيء – السير نحو حل سياسي يفتح الأفق أمام تحقيق المصالحة الوطنية بعد إقصاء رأس نظام الاستبداد وتقديمه، مع من تلطخت أياديهم بدماء الشعب السوري، إلى محاكمات عادلة، واستعادة هيبة الدولة، وإنهاء المظاهر المسلحة وحل الجماعات والميليشيات خارج نطاق القانون والعقد الاجتماعي الجديد، ونبذ العنف ووضع حد للجوء إلى الثأر والانتقام والالتزام بسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية، وذلك سيكون المدخل الصحيح للخيارات المفتوحة. مع العلم أنّ هناك اتفاقاً عاماً بين علماء السياسة على أنه لا يمكن الاعتراف بأنّ نظاماً سياسياً ما هو نظام ديمقراطي إذا لم يتوافر فيه شكل أو آخر من أشكال الحكم المحلي. بل إنّ الديمقراطيات تقارن على أساس مدى نضج نظام الحكم المحلي فيها، وإن كان الحكم المحلي سمة للنظم الديمقراطية فإنّ القيم المتجذرة في عقول ونفوس الأفراد داخل الوحدة المحلية هي التي تحكم على ما إذا كانت هذه المسألة لها معنى حقيقي أو مزيف، فلا يمكن أن نكتفي قولاً بأن " المحليات هي مدارس الديمقراطية "، أو مرحلة التعليم الأساسي لها، والتي تؤهل الفرد لممارسة السياسة على المستوى الوطني، بل ينبغي أن تكون القيم السياسية السائدة داخل الوحدة المحلية قيماً إيجابية في اتجاه الديمقراطية. ذلك أنّ العمل المحلي يحتاج إلى قدر كبير من المشاركة، سواء في انتخاب أعضاء المجالس المحلية أو في المساهمة في المشاريع التنموية التي يتم إنشاؤها داخل الوحدة المحلية، أو الرقابة على الأعضاء ومحاسبتهم على أدائهم ومطالبتهم بتقديم كشف حساب إلى هيئة يكوِّنها الناخبون، تناقشهم في الأعمال المزمع القيام بها وتراجعهم في أوجه القصور، وتساعدهم على تلافيها، وقيمة المشاركة تتطلب وجود قدر مرتفع من قيمة الحرية. والحرية والمشاركة يضمنان قدراً من العدالة في توزيع الموارد والأعباء المحلية، ويحفظان للمواطنين حقهم في المساواة أمام المجالس والنظم المحلية.
وإذا كان النظام المحلي له هذا الدور الهام في تحقيق الوحدة الوطنية الطوعية، فإنّ القيم السياسية الحديثة هي بيت القصيد في هذه العملية، فالمشاركة السياسية مثلاً تقوّي الوحدة الوطنية السورية، والمشاركة عن طريق اللامركزية، على أساس جغرافي وليس قومي أو طائفي، تسمح للولاءات الفرعية بأن تعبر عن نفسها دون كبت، ما يؤدي إلى التخفيف من وطأتها فلا تصبح معضلة في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية.