حزب الريف أم حزب المثقفين أم حزب العمال والفلاحين؟


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 6990 - 2021 / 8 / 16 - 10:15
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها     

حزب الريف أم حزب المثقفين ؟
دخلت إلى صفوف الحزب عام 1974، في العيد الخمسين للحزب، بعد ثلاث سنوات من التدرج مع مجموعة من الأصدقاء في ديوانية مهدي عامل الأسبوعية في منزله في سن الفيل. حين قدمت طلب انتسابي، طلبت أن أتنظم في فرقة القرية بقيادة مناضل قليل الكلام شديد الصلابة هو خليل مشورب الذي ظل حتى آخر حياته يملك حساً سياسياً سليماً لا يملكه كثيرون ممن تعاقبوا على قيادة الحزب.
مثلما كانت حداثة سني سبباً في التباس علاقتي بزملائي في التعليم، أوقعتني حداثة سني الحزبية في حرج إزاء من سبقوني بسنوات إلى صفوف الحزب. بعد عام على انتسابي، صرت عضواً في قيادة الفرعية (إقليم التفاح)، وفي السنة ذاتها عضواً في قيادة منطقية النبطية، وبعد عامين عضواً في قيادة الجنوب، وبعد عامين آخرين عضواً في اللجنة المركزية. وصرت أشارك في اجتماعات القيادة المشتركة اللبنانية الفلسطينية، وأصوغ بياناتها وخطابات بعض قادتها ونصوص مؤتمراتهم الصحافية، وتحولت إلى خطيب دائم في تأبين شهداء الحزب .
شجعني على دخول هذا المعترك وشجع القيادة على اختياري للعمل في هذا المضمار استاذي في النضال حسن حمدان، مهدي عامل، الذي كان يكتب في فلسفة السياسة بأسلوب كنا نسميه عند الجاحظ، اسلوب الاستدارة، وهو يعني أن الكاتب يبدأ جملته بكلمة- مصطلح، وينطلق منها في مقطع قد يطول صفحة أو أكثر ليعود إليها في آخر الكلام، أي أنه كان يدور حول الفكرة ويقلبها على كل جوانبها ولا يتوقف عن الحفر فيها حتى ينهكها وينهك القارئ. غير أن حسن حمدان كان يتحدث في محاضراته السياسية أمام مستمعيه، بإسلوب ابن المقفع، السهل الممتنع. أسلوبه أمام مستمعيه مختلف تماماً عنه أمام قرائه.
أول إطلالة سياسية لي على منبر جماهيري كانت في القنطرة، إحدى قرى مرجعيون. الإطلالة الثانية كانت في الحلوسية، إحدى قرى صور، ثم كرت مسبحة الندوات. في المرة الأولى تخيلت أن الحاضرين في النادي الحسيني كانوا يسمعون دقات قلبي من رهبة المقام، في الثانية هدأ روعي وفي الثالثة صرت متمكناً من مواجهة جمهور، اياً يكن عدده، وصار اعتلاء المنابر كأنه مهنتي.
اعتليت منابر الحسينيات في الجنوب، وكنت كلما انهيت خطبة، أنزل عن المنصة فأرى المحبين يتحلقون حولي ويرمونني بالإعجاب بسلامة لغتي وقوة منطقي وطلاقة لساني وصحة موقفي (مواقف الحزب) لكن مع سؤال الملامة والعتب والشكوى إياه، على تحميل الجنوب فوق ما يحتمل، الذي ظل يتكرر أربع سنوات: أأنا العاشق الوحيد لترمى تبعات الهوى على عاتقيا؟ والهوى هو قضيتنا الفلسطينية. لم نكن ننتبه في حينه إلى أننا توسلنا العنف من أجل إصلاحات سياسية في النظام السياسي، وأننا حمّلنا لبنان كله، وليس الجنوب وحده، فوق طاقته على الاحتمال حين كنا نقاتل باسم كل العرب، ولم نكن منتبهين إلى أن كل العرب كانوا يضحكون في سرهم لأننا انزلقنا على قشرة القضية الفلسطينية لنقضي على نطفة الديمقراطية التي لم تكن موجودة داخل هذه الأمة إلا في الربوع اللبنانية.
بعد عشرين عاماً رمي الحظر على هذا السؤال والحرم على من يطرحه وانطفأت الشكوى، بل تحولت وتبدل اتجاهها. كان الجنوب يشكو لأن الوطن يحمّله عبء أزمات الأمة العربية، صار الوطن يشكو من مغامرات الجنوب الذي زج الوطن في معارك مع الأمة العربية. نعم، نحن كنا اكثر ديمقراطية من سوانا، أعني أقل استبداداً.
النقد لا يعني تبرؤاً مما فعلناه. لقد قدمنا، من غير ندم، من أجل القضية الفلسطينية، وإن تكررت الظروف لن أتردد في التضحية من أجلها ومن أجل كل أحلامنا الجميلة، لكنني تعلمت ألا أضحي بوطن لأكسب حلماً بوطن.
لا أتبرأ مما فعلناه، لأن فيه من الجوانب المشرقة ما يجعلني أكثر تمسكا به. فالحزب هو الذي أطلق طاقاتي في التعبير والكتابة، وهو الذي فتح لي المنابر لألقي فيها مئات المحاضرات العامة ومحاضرات التثقيف الحزبي، ولأشارك في مئات الندوات، وفي أجوائه تشجعت على الكتابة ، فنشرت أكثر من عشرة كتب ومئات المقالات وترجمت أكثر من عشرين كتاباً. وفي مناخ اليسار العالمي تعرفنا على رواد القرن العشرين الذين ترعرع معظمهم في صفوف الأحزاب الشيوعية أو حولها، فنانين وموسيقيين ونحاتين ورسامين وفلاسفة وشعراء وروائيين ومسرحيين. ولأن فيه تعلمنا قيم التفاني والتضامن والتضحية ونكران الذات. ولن يعمي فشل التجربة أبصارنا ولا ستجعلنا أزمة الحزب ننقلب على المآثر التي ينفرد بها بين سائر الأحزاب الشمولية والديمقراطية على حد سواء.

استبداد رفاقي
تعرضت أكثر من مرة لما يمكن أن يكون محاولة اغتيال أو حادثاً خطيراً.
بعد أن كلفت بمسؤولية الحزب السياسية في الجنوب تحت الاحتلال، غادرت إثرها صيدا إلى بيروت، ثم سافرت في عطلة الصيف، بعلم قيادة الحزب بل بقرار منها وبموافقتها، في رحلة سياحية على حسابي لا من ضمن تلك التي كانت مخصصة للقيادات في كل صيف مع بطاقة السفر على نفقة الحزب وإقامة على نفقة البلد المضيف في المعسكر الاشتراكي. أقفل مطار بيروت الدولي خلال وجودي في باريس. نصحني رفيق الرحلة شبيب دياب بأن أستفيد من هذه "الإقامة الجبرية". قابلت أستاذاً في جامعة السوربون وتسجلت في الدراسات العليا، وأقمت هناك وانتظرت إعادة فتح المطار. أعيد تشغيله بعد ثلاثة أشهر، لم أنتظر بل عدت في أول طائرة، تلبية لنداء داخلي وواجب نضالي. فاجأتني القيادة ب" فرمان" همايوني خلاصته إعفائي من كل مهامي الحزبية التنفيذية والابقاء على عضويتي في اللجنة المركزية للحزب، والسماح لي بقراءة محاضر الجلسة التي عقدت خلال غيابي.
استنتجت من خلال قراءتي محاضر دورة الاجتماعات أن قيادة الحزب بنت قرارها على أحلام جميلة وعلى أوهام انتصار كبير من شأنه، في نظر القيادة يومذاك، أن يغير وجه لبنان والمنطقة (انعقد ذلك الاجتماع في خريف 1983، مباشرة في اعقاب الانسحاب الاسرائيلي من الشحار الغربي ومنطقة الجبل). قضى ذلك القرار بإعادة بناء الحزب ليكون حزباً "من طراز جديد"، أي على مستوى المهام "الكبرى" التي تنتظره بعد التحرير، ولا سيما استلام السلطة في لبنان وإحداث تغيير في النظام السياسي.
لا شك في أن تقليص رقعة الاحتلال شكلت انتصاراً حاسماً للمقاومة التي كان الحزب الشيوعي بمثابة عمودها الفقري حتى عام 1985، أي العام الذي نفذت فيه إسرائيل انسحابها الثالث وتحصنت في ما كان يسمى الشريط الحدودي. لكن قرار الحزب كان يخفي أزمته الحقيقية الناجمة عن تفاقم التناقض بين نشاطه الجاد والفاعل في عملية التحرير وبين نهج النظام السوري الذي كان له في المقاومة مآرب أخرى، والناجمة أيضا عن بداية الانهيار في المنظومة الاشتراكية، والانهيار الكامل في حركة التحرر الوطني العربية. ضحايا الأزمات ليسوا في العادة من صفوف من يتسببون بها. تذكرت حكايات أمي عن الاستبداد، وتذكرت كيف داهمني الخطر والاستبداد من القاعدة الحزبية أيضاً لا من القيادة وحدها.


بيد أن أحداثا كبيرة مؤلمة تركت أثرا في حياتي الحزبية. أولها ذاك القرار"الهمايوني"، وألمه ناجم من كونه قراراً ظالماً، ومن كونه صادراً من ذوي قربى. لم تكن الأحداث الأخرى أقل إيلاماً، لكنني قاومت تلك الآلام بصبر وعناد ولم أغتبط أبدا عندما بدأ يهوي الذين اتخذوا ذلك القرار أو وافقوا عليه، واحداً بعد الآخر من برجهم الحزبي أمام ناظري، بل رحت أمسك بإيديهم لأساعدهم على النهوض من أزمة كانوا هم أيضاً من ضحاياها، بالرغم من أنني كنت أنا ضحية أزمة مزدوجة ، أزمة الحزب العامة التي أتحمل جزءاً من المسؤولية عن تشخيصها ومعالجتها، وضحية أزمة القيادة التي بدأت تخبط خبط عشواء " من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم "، على قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى.
في حزيران 1982 ، بدأ هجوم الجيش الاسرائيلي على لبنان ، وطلبت إلي القيادة أن أخرج من المدينة وأرسلت مرافق مسؤول المحافظة الرفيق حسن اسماعيل ليبلغني قراراً حزبياً بذلك. غادرت منزلي في مدينة صيدا مع زوجتي إلى البقاع حيث أقمت هناك شهرين، كانت زوجتي تقوم خلالهما برحلات مكوكية وتنفذ مهمات نضالية بين منزلنا ومركز وظيفتها في الرميلة شمالي صيدا ومكان إقامتي في بيت آل شمص في مدينة بعلبك. في نهاية الشهرين أبلغتني القيادة قراراً يقضي بضرورة عودتي إلى صيدا وتكليفي مهمة قيادة الحزب في الجنوب في ظل الاحتلال. زوجتي قادت السيارة ونقلتني في أول شهر آب، مثلما سبق لها أن نقلت سواي من قيادات الحزب والحركة الوطنية، من بينهم مصطفى سعد، من بعلبك إلى صيدا.
فور وصولي بدأنا بتنظيم عملنا في القيادة السياسية، ضمن الحدود الدنيا، وأول نشاط قمت به هو التحضير لاجتماع بين الشيخ محمود فرحات، الذي كان يشغل منصب المدير العام للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والسيد محمد حسن الأمين في بيت أحد أقرباء الأول في ضواحي صيدا، هيأت له وحضره معي محي الدين حشيشو عضو قيادة الجنوب، وذلك تحضيراً لأول نشاط سياسي في مواجهة الاحتلال. أما المجموعات العسكرية ،التي كانت تخضع لتنظيم سري لا تعلم به القيادة السياسية، فقد بدأت بتجميع ما تبعثر من أسلحة وذخائر، استعداداً لتنفيذ أول عمليات المقاومة في الجنوب ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي.
في منتصف شهر أيلول خسرنا في قيادة الجنوب أحد أبرز وجوه الحزب النضالية في مدينة صيدا، محي الدين حشيشو، ولم يكن قد مضى على تعيينه في القيادة اكثر من شهر ونصف، إذ اختطفه شباب من أبناء الحي ينتسبون إلى القوات اللبنانية، في اليوم التالي لمقتل رئيس الجمهورية اللبنانية بشير الجميل، وبات من مفقودي الحرب. أنقذني من خطف مماثل، يقظة زوجتي وجيران أوفياء شجعان أمنوا لي سبل التخفي عن أعين الخاطفين.
في تلك الليلة نمنا على حريرأخبار تفيد بنجاة بشير الجميل من الانفجار، وكان ذلك خطأ كبيراً لم يكن بإمكان أحد منا تفادي ارتكابه بسبب ضعف وسائل التواصل وتبادل المعلومات. إذ كان علينا أن نتوقع ردود فعل قواتية حتى لو لم يصب الرئيس بأذى. لكننا كنا سذجاً، أو أننا كلنا في قيادة الجنوب كنا لا نعرف عن الجانب الأمني من الحرب شيئاً، وكنا نعتقد أننا منخرطون في صراع سياسي وعسكري ولم نحسب حساباً للجانب الأخطر، أعني صراع الأجهزة ذات النفوذ القوي في كل الأحزاب، ولا تصرفت، أنا شخصياً، بما تستوجبه تلك المخاطر، معتبراً أننا كقيادة سياسية لن تطالنا مفاعيلها، لأن أعداءنا لا يعرفون عن قيادتنا السياسية السرية شيئاً، ولأن إمكانات التخفي شبه معدومة لدى موظفين معروف دوامهم ومواقيت عملهم وعودتهم إلى منازلهم.
في صباح اليوم التالي استيقظنا في السادسة إلا دقائق على صوت مذياع جوال في سيارة يدعو المواطنين إلى الالتزام بقرار صادر عن قوات الاحتلال يقضي بمنع التجول. بعد دقيقتين علمنا من إذاعة لندن أن الرئيس من بين قتلى الانفجار. أوصدت زوجتي النوافذ وأقفلت بابي المنزل، الحديدي والخشبي، وأسدلت الستائر، وخرجت لتبعد سيارتينا المركونتين أمام المبنى، حتى لا تكونا دليلاً على وجودنا في داخله، وأعلمت جيراننا في الشقة الثانية من الطابق الأرضي ذاته، أم علي صباح وأولادها، أننا لن نفتح الباب إلا لأحد أفراد عائلتها، إذا ما نبهتنا بطرقة معينة على الباب اتفقنا عليها.
في العاشرة كانت طرقة الباب ذاتها، وإذ بناصر صباح يأتينا بخبر خطف محي الدين حشيشو. منزله لا يبعد عن منزلنا أكثر من خمسين متراً. دخلت لساعتين إلى بيت نزيه الخطيب وزوجته حكمت صباغ الخطيب (مديرة الثانوية السابقة) في الطابق الأول من المبنى، وخرجت بعدها إلى بيت أحد الاصدقاء، وهناك علمت بأن بين الخاطفين شاب من آل صافي، من سكان البناية الملاصقة، والده مكلّف من قبل أصحاب المبنى الذي أسكن في طابقه الأرضي بالإشراف على بنايتهم في غيابهم في المهجر. قصدته مساء بدافع مسؤوليتي عن رفاقي، متظاهراً بالثقة متسلحاً بعلاقة الجيرة، لأسأله عن محي الدين حشيشو، فطمأنني إلى أنه سيخضع لتحقيق بسيط وسيعود، ولامني على مغادرتي منزلي، وأكد لي أن راكبي السيارة الذين "رافقوا" محي الدين إلى "الاستجواب" طرقوا باب منزلي ولم يجدوني. خرجت على عجل من بيته قبل أن تنتهي على شاشة التلفزيون مشاهد تشييع بشير الجميل في بكفيا، وقبل أن يأتي أحد أبناء صاحب المنزل ويعتقلني.
بعد أن هدأت خواطر القوات، عدت إلى منزلي، لأعلم أن فهد الكردي، رفيق محي الدين حشيشو في النضال في صيدا، كان قد خطف هو الآخر من منزله في ذلك الصباح، وأمكن له أن ينقذ نفسه بمساعدة الصدف. في لحظة خروجه مع الخاطفين طلب من زوجته بإلحاحه المعروف ولجاجته المعهودة أن تتصل فوراً بفاروق الزعتري الذي كان نائبا لرئيس البلدية، والذي كان، بحكم موقعه الرسمي هذا، على موعد مقرر سابقاً مع الحاكم العسكري الاسرائيلي في المدينة. حين التقيا أصر على عدم البدء بالاجتماع قبل إعادة فهد الكردي. بعد أقل من نصف ساعة أعاد الإسرائيليون فهد الكردي من بين أيدي القواتيين. للأسف، لو كان فاروق الزعتري، صديق اليساريين في صيدا، على علم بخطف محي الدين حشيشو لاستخدم موقعه الرسمي، من دون شك، كمسؤول في البلدية وأعاده كما أعاد فهد الكردي.
خلال اسبوع التخفي هذا قصدنا أن يكون المنزل سرياً، لكنه سرعان ما فقد سريته بعد أقل من أربع وعشرين ساعة وتحول إلى ملتقى لأصدقاء ورفاق لي من بينهم الدكتورشبيب ذياب القادم من شمسطار مصطحباً خطيبته من النبطية ثم إلى صيدا قاصدا منزلي ثم البيت الذي أقيم فيه. في اليوم ذاته قصد منزلي في صيدا شقيقي مقلد المقيم في الضاحية تفادياً لما يمكن أن تقوم به القوات من أعمال عنف وخطف واغتيال في بيروت، ثم عاد أدراجه حين علم بتعقيدات الظروف التي تحيط بي. تولت دنيا أمر التواصل مع رفاقي من المنزل"السري"، كما تولت مع صديق محي الدين حشيشو، الدكتور مصطفى دندشلي، الذهاب إلى بيروت لإعلام قيادة الحزب بحادثة الخطف، حيث واجهتهما أحداث أشد إيلاماً وأكثر خطورة، حين تطلب منهما البحث عن أماكن سكن القيادات الحزبية الذهاب إلى الضاحية الجنوبية للسؤال عن أحدهم عند الرفيق ماجد مقلد. في تلك اللحظات كانت الطريق الى الضاحية تشهد أكبر مجزرة ارتكبتها القوات الاسرائيلية والقوات اللبنانية بحق الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا.
مقطع من سيرة ذاتية