مصر بين البيادة والقيادة


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6989 - 2021 / 8 / 15 - 20:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كمْ عِشـتْ أسأل أين وجــهُ بلادي
أين النَّخـيل وأين دفْءُ الـــوادي
لا شيء يبدو في السماء أمامنا
غــير الظـْـلام وصـــورةِ الجـــلَّاد
فارق جويدة
***
"البِيَادة"، - لمن لا يعرفها - هي الحذاء الطويل (البوت) الضخم الذي يرتديه العسكر في أقدامهم، وقد اختص بها أفراد المشاة في الجيش المصري، لأنهم عند المشي، يضربون به الأرض بقوة، فيحدث صوتًا مميزا، فصارت الكلمة تعنيهم بأحذيتهم، ولكنها تطلق أيضًا على أحذية العسكر بوجه عام، إذْ لا فرق بينها. ويمكن استعمالها كصفة مميزة لهم أينما وجدوا. ورغم أنها كلمة تركية الأصل وليست عربيّة، ولا صلة لها - لغويًا - بكلمة ”الإبادة“، لأن أصلها ليس "بَيَدَ"... إلَّا أنها - سلوكيًا - هي ”الإبادة“ بعينها، فكل من يرتديها هو من ”أصحاب البيادة“ أو بمعنى أصح ”عبيد البيادة“، لأنها تأسر عقله وقلبه، كما تأسر قدميه، وإلَّا ما ثبت في الميدان، وحاول أبادة الأعداء. ويظل عبيد البيادة على عهدهم لها مدى حياتهم، سواء لبسوها أو خلعوها من أحذيتهم، وسواء حكموا بأنفسهم أو استغلوها في حكمهم، ومهما كانت رتبتهم أو مناصبهم أو مواقعهم في المجتمع، فلا شيء لديهم سوى الدياسة ( من داس يدوس) والوطء الشديد والدهس لكل من يعارضهم أو يقف أمامهم. باختصار، إن تخَلُّوا عن لبس البيادة في أقدامهم تبقى لابسة في عقولهم، وواضحة في سلوكهم!
أما القيادة (Leadership) باختصار شديد، هي القُدْرة على تحفيز وإثارة اهتمام مجموعة من الأفراد، لبذل أقصى ما في وسعهم لتنفيذ أي مهمة أو هدف أو مشروع، أو إطلاق طاقاتهم للإقدام نحو تحقيق أهداف منشودة بكلّ فعالية وحماس، وقد يتعلمها المرء أو يتميّز بها عن غيره لتوجيه الآخرين بطريقةٍ تمكنه من كسب طاعاتهم واحترامهم وولائهم، وشحذ هممهم، وخلق التعاون بينهم في سبيل تحقيق هدف بذاته، بحسب تعريف سوزان وورد الأستاذة بجامة كلومبيا البريطانية، راجع الرابط:
https://www.thebalancesmb.com/leadership-definition-2948275
ولغوياً يأتي لفظ القيادة من الفعل قادَ يَقُود، فهو قائِد، بمعنى يمشى أمام المفعول به (المَقُود) وتولّى توجيهه وتدبّر أمره:
https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/القيادة/
القيادة تحتلف تمامًا عن الإدارة، فلا يحظى القائد أو الزعيم أية قيمة ضرورية له، ما لم يثق الناس به، ويثق هو بهم، من خلال التأثير عليهم بأسلوب قيادته ونمط زعامته، ووضوح الهدف الذي يرمي إليه، بينما الإدارة التي تعني تسيير العمل بشكل صحيح وبالأسلوب العلمي المُعَدِّ سلفًا، لا يحظى الإداري إلا بثقة رئيسه أو صاحب العمل، دون الحاجة إلى مقدرة خاصة للتأثير على الآخرين. وبينما ترتبط الإدارة بمجال واحد وربما شركة أو مصنع، فإن القيادة ترتبط دائمًا بالعديد من المجالات الحياتية للبشر، فقد تكون قيادة السياسة والمجتمع أو الدين أو الحَملات الانتخابية أو المظاهرات والثورات أو غير ذلك، وبالتالي يُمكن اعتبارها شكلًا من أشكال الفن الذي يجعل الأشخاص يقومون بفعل الأشياء التي يُريدها القائد لقناعتهم أنها ضرورية ويمكنهم القيام بها. كما تتضمّن اتخاذ القرارات الصعبة والسليمة لتجاوز الصعوبات من خلال خلق رؤية واضحة لتحقيق الأهداف بعيدًا عن الأيديولوجيات المختلفة، راجع الرابط:.
https://searchcio.techtarget.com/definition/leadership
الدولة كائن حي يقوى ويضعف - ماديا ومعنويا - بفعل النمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المتبع في قيادته. وعندما تقودها عقلية البيادة، وهي عقلية فاشية مؤدلجة بصلابة، لها تفكير خاص يحمل على سلوك معين، لا يصلح سوى للتعامل مع الجيوش وقيادتها، وتجهيزها ماديًا ومعنويًا لخوض الحروب، فإنها تفشل بالضرورة فشلا مريعًا، ولا بد أن تؤدي حتمًا إلى التدمير المادي والمعنوي للدولة وساكنيها، ويصبح عندئذ من العبث أن يتحدث المرء عن كرامة الإنسان في ظل سيطرتها الطاغية التي تدوس رقاب الناس بعنف وتطأ أجسادهم بقوة وتدهس عقولهم بلا رحمة، حتى وإنْ زعمت على العكس من ذلك، أنها تعمل كل ما بوسعها لحماية البلاد من التحلل والانهيار، ونقلها من التخلف والانحطاط إلى التقدم والتحضر، إذْ أن كل ما في وسعها محدود جدًّا ومحدد سلفًا ولا يعمل سوى على ترسيخ التخلف والانحطاط، ويزيد من انحلال الدولة ويسرِّع في انهيارها!
كثيرًا ما نجد سائر الحكام العربان يحرصون أشد الحرص على وضع أنفسهم أمام شعوبهم كأصنام إلهية مقدسة، والاطمئنان إلى نعت أنفسم بالقادة الملهمين والزعماء المخلدين وأمراء المؤمنين … إلخ، إلا أنهم جميعًا يستعملون عقلية البيادة في قيادة شعوبهم، لذلك لم يكن الضعف الذي أصاب بلدانهم وأطبق على مفاصلها، وليدَ الصدفة أو مجرد لفحة عارضة يمكن معالجتها، بل أسلوب عمل ممنهج وله قواعد تتسم بالعجرفة والسذاجة والجهل، وضيق الأفق، وأوهام العظمة، والشكوك، واحتقار العلم والمعرفة، والعداء المزمن للديموقراطية؛ من خلال نظم فاشية تتمركز في شخص واحد (حكم أوتوقراطي). ومع ذلك يروِّجون الوهم بأن نظمهم تجعل الحكومات اكثر كفاءة والدول اكثر استقرارا، رغم أنها تعمل في نفس الوقت على تقليص شطط واضطراب القاعدة الاجتماعية، فتبدو ظاهريًا وكأنها مستقرة، إذْ يترتب على ذلك تضخيم التبعات، وإبقاء التوتر الاجتماعي كامنًا تحت السطح، ليزداد حدة وشططًا كل يوم، ومن ثم تتركز الاضطرابات وتظهر فجأة في أحداث أقل، ولكنها أكثر حدة، وأشد ضرراً. هذا ما أثبتته الانتفاضات الشعبية في كل من تونس ومصر وسوريا واليمن في بداية عام 2011.
بدأت عقلية البيادة عملها في مصر، ودفعتها نحو التخلف والانحطاط والفساد المادي والمعنوي، مع تنكر العسكر لعملهم الأصلي واغتصابهم الحكم، فظهر انفصام التفكير لديهم، بين ما تعلوه وما يجب عليهم أن يتعلموه، وبين يفعلون وما يجب عليهم أن يفعلوه! ظهر أنهم أضعف من مواجهة الحقائق السياسية في البلاد، أو لعدم أهليتهم لمواجهتها، لذلك راحوا يتعاملون بالبيادة الراسخة في عقولهم مع جميع القضايا في الداخل والخارج، مثلًا، في الوقت الذي كان البكباشي عبد الناصر لا يكف في مناسبات وبلا مناسبات عن مهاجمة خصومه ونعتهم بالرجعيين، كان هو نفسه رجعيًا إلى حد التزمت، وبينما كان البعض ممن يعملون تحت زعامته يغرقون تدريجيًّا في الفساد الأخلاقي والانحطاط السلوكي، اعترض أخلاقيًا على بعض ما ينشر في المجلات ويذاع في الإذاعة. فبعد عامين على انقلابه، كان الكاتب إحسان عبد القدوس ينهي يوميًا برنامجًا له في الإذاعة بجملة: ”تصبحوا على خير.. تصبحوا على حب“، مما أثار حفيظة عبد الناصر، وطلب منه استبدال كلمة ”حب“ بـكلمة ”محبة“، فرفض إحسان، وانقطع بعدها عن تقديم برنامجه. ويروي إحسان أن البكباشي اعترض أيضًا على أحداث روايته «البنات والصيف» والرسومات المرافقة، التي كانت تنشر في مجلة « صباح الخير» عام 1958، وأبلغه اعتراضه عن طريق عميل البيادة الصحفي محمد حسنين هيكل، مما اضطر عبد القدوس إلى تعديل اتجاه الرواية وتخفيف الرسوم المصاحبة لها. عندئذ قرر إحسان أن يرسل خطابًا توضيحيًا إلى عبد الناصر، يدافع فيه عن أفكاره وتوجهاته، لكنه على ما يبدو نسي الخطاب في درج مكتبه؟!. وعندما اكتشف وجوده، قرر أن ينشر في صدر مجموعته القصصية "أسف لم أعد أستطيع"، عام 1980. في هذا الخطاب، نفى إحسان عن نفسه تهمتي الدعوة إلى الجنس والإلحاد، وقال: « أن ما أراه يا سيدي الرئيس في مجتمعنا لشيء مخيف، إن الانحلال والأخطاء والحيرة والضحايا، كل ذلك لم يعد مقصورًا على طبقة واحدة من طبقات المجتمع بل امتد إلى كل الطبقات»، وأضاف في مقطع أخر: «أبلغني صديقي هيكل أن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت إحدى قصص ”البنات والصيف“ بما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية، والذي سجلته في قصصي يا سيدي الرئيس يحدث فعلا، ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه، والقانون لن يحول دون وقوعه، إنها ليست حالات فردية كما قلت، إنه مجتمع منحل، ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة». وفي أحد الاجتماعات مع رجال الإعلام والصحفيين الكبار، قال عبد الناصر بوضوح: « نحن نبني المجتمع الاشتراكي، أمام الصحفي اختيارات: إمَّا أن يلتزم بخط الدولة، أو يقعد في بيته»، إنظر المقال على العنوان التالي:
https://www.dotmsr.com/news/204/727953/إحسان-عبد-القدوس-إلى-جمال-عبد-الناصر-لم-ألحد-لكن
وإذا كان ما رآه عبد القدوس في المجتمع عام 1980، على أنه شيء مخيف من انحلال وأخطاء وحيرة وضحايا تشمل كل طبقات المجتمع، فإن ما نراه اليوم أكثر بكثير، ويبعث على الفزع والاشمئزاز والقنوط واليأس، خاصة وأن ما قاله عبد الناصر أصبح في الوقت الحاضر لا ينطبق على الإعلام وحده، بل على كل مجالات الحياة: إمَّا أن يلتزم الجميع بخط رئيس البيادة أو يقعد في السجن، حتى الموت! بالطبع لم يكن باستطاعة عبد الناصر أن يستعمل البيادة بشكل مطلق في بلد كانت في بداية عهده مازالت تتمتع بثراء مادي ومعنوي جعل منها دولة رائدة في المنطقة بأسرها، ولكنه أخذ على عاتقه مهمة التأسيس التدريجي لثقافتها العقلية، بصورتها الحالية، فهو الذي وضع مبادئها وصاغ أفكارها، وهو الذي حدد أطر العلاقة بينها وبين السلطة، وقد ابتكر أنماطا متعددة للكذب والخداع والتلاعب بالجماهير وقيادتها كالقطيع، ومن ثم سار الحكام من بعده على كتالوجه. جاء أنور السادات من بعده، وهو بنفس العقلية، ليضع نصب عينيه إعادة المتأسلمين ومدارسهم إلى الواجهة السياسية، ليهدم بهم البناء الناصري الاشتراكي الهش، فأدخل عنصر الدين في قيادة القطيع، ورفع شعارات ”الرئيس المؤمن“ و«دولة العلم والايمان» و«أخلاق القرية»، وفتح المجال على مصرعيه لشيوخ الجماعات الإسلاموية ليصبحوا نجومًا، يصنعون نجوميتهم بالهجوم البدني والأخلاقي على المعارضين وعلى الفن والأدب وبرامج التليفزيون والسينما، في تحالف لضرب الناصريين واليساريين، فازداد نفوذ رجال الدين وتأثيرهم المدمِّر على الرأي العام وعلى الحكومة نفسها. وكما هو الحال في سائر بلاد العربان وقفت النخب المختلفة عاجزة وحائرة دائمًا بين السياسة الفعلية والخرافة الدينية، فلا يمكن لإحداها ممارسة السياسة بشكل حقيقي ولا يمكنها كبح جماح الخرافة الدينية، وأصبح الكذب كأداة للسيطرة لم يعد كافيًا وحده، فلجأت الحكومة إلى الإرهاب والقهر والقتل.
أما عن مبارك فقد كتب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في مذكراته الجديدة التي نشرت تحت عنوان ”الأرض الموعودة“، أنَّ مبارك:«ترك لدي انطباعا اعتدت عليه لاحقًا في تعاملي مع حكام استبداديين متقدمين في السن أغلقوا أنفسهم في قصورهم ويديرون أمورهم عبر خدام متجهمين يحيطون بهم، ولم يعودوا يفرقون بين مصالحهم الشخصية ومصالح دولهم وليس وراء تصرفاتهم أي غرض سوى دعم شبكة معقدة من المحسوبية والمصالح التجارية التى تبقيهم فى الحكم». نعم، لم يهتم مبارك بشيء قدر اهتمامه ببقائه على قمة السلطة، وحماية نفسه وأسرته والموالين له من الجلاوزة، وتضخيم ثرواتهم على حساب الشعب، وترك الحبل على الغارب لتغوُّل البيادة في المجتمع، ممَّا أحدث فوضى عارمة، وفسادًا غير مسبوق في جميع المؤسسات وبين الشعب لمدة 30 عام. وعندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في 25 يناير 2011. ازدادت مخاوف عبيد البيادة على مصالحهم الشخصية التي تحققت خلال الأعوام السابقة، فأرغموه على التنحي في مقابل حمايته وحماية جلاوزة من أية مساءلة أو معاقبة قانونية، وتولى قيادة البلاد مجموعة من قادة العسكر الكبار، يتسمون بالجشع والإجرام والنرجسية والكراهية الشديدة للشعب، واختاروا أحد جنرالاتهم لقيادة البلد، تتركز في شخصه جميع هذه الخصال، وفرضوه عنوة على الشعب، فانخرط منذ اليوم الأول لحكمه في تحويل مصر بكاملها إلى نموذج لسجن “البانوبتيكون panopticon“ الذي صممه، في عام 1791، عالم القانون والفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنثام (Jeremy Bentham 1748 - 1832)، ويعني به الرؤية الشاملة، التي تغيّرت فيه طبيعة السجون عمَّا كانت عليه من قبل، وهي سراديب وزنازين معتمة، فأصبحت بنايات على طراز معماري مدروس وحديث، عبارة عن مجموعة من الزنازين في شكل دائري، ولا يسمح تصميمها بالتواصل بين السجناء وبعضهم البعض، ويتوسطها فناء به برج للمراقبة، وتُضاء من الخارج بحيث لا يستطيع السجناء رؤية من في برج المراقبة، بينما المُراقِب وحده هو الذي يرى جميع من في الزنازين، مراقب واحد لآلاف السجناء. هذا التصميم يُرسِّخ الشعور بالمراقبة الدائمة لدى السجناء، فحتى لو لم يكن هناك من يراقبهم في البرج فهم لن يستطيعوا معرفة ذلك؛ ممَّا يجبرهم على التصرف طبقًا للتعليمات لمعرفتهم أنه قد يكون هناك من يراقبهم الآن. وهكذا يراعى في تصميم سجن بانوبتيكون أن يلعب المعمار دورًا في قوة ممارسة السلطة، إلى جانب المراقبة والتعذيب والعنف.
وفي كتابه “المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن” يرى الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو أن تصميم سجن البانوبتيكون هذا، كجهاز للانضباط والإكراه، يجعل السجناء حاملين للسلطة بداخلهم، فالمهم أن يتيقن السجين أنه مراقب طوال الوقت، في حين لا يمكنه الجزم أنه مُراقب الآن بالتحديد. كما أن شخصية من يمارس السلطة والمراقبة عليه ليست مهمة، فأي شخص يستطيع القيام بهذا الدور حتى وإن جاء صدفة أو لا علاقة له بالأمر، فتتولد العبودية لديهم، ولا تحتاجون إلى القوة لإكراههم على السلوك وفقًا لتعليمات مفروضة عليهم، بل تصبح العبودية جزءًا من السلوك الاعتيادي لهم. وهذا بالضبط ما تحاول البيادة العسكرية الحاكمة في مصر تحقيقه دون وازع!
مثال بسيط جدا على تصرفات عبيد البيادة في مصر: أنه في 26 أبريل 2021، وعقب 3 حوادث قطارات في أسبوع واحد، راح ضحيتها عشرات الأشخاص، قال ”الفريق“ المعيَّن وزيرًا للنقل، في جلسة أمام البرلمان إن « وجود عناصر متطرفة لا تريد لمصر الأمن والأمان والسلام في الوزارة هي من تقف وراء هذه الحوادث». وذكر الوزير في تصريحات صحفية، أن هناك ”268 عنصرا“ ينتمون إلى جماعة الإخوان في هيئة السكك الحديدية، وطالب البرلمان بإصدار قانون يسمح بفصلهم من ”الوظائف الحساسة“. بعد نحو شهر من هذه التصريحات، تقدم أكثر من عشرة نواب في برلمان البيادة، بمشروع قانون يتيح للدولة الفصل الفوري وبلا محاكمة أو تعويض مادي، للموظفين الذين يمسون الأمن القومي، أو يشتبه في انتمائهم إلى جماعات ”إرهابية“. وفي غضون ساعة واحدة أقر مجلس النواب هذا القانون. وهكذا بدلا من أن يتم معاقبة المسؤول على جريمة ارتكبها، يتم معاقبة غيره بناء على شكوك حول فكر يتبناه أو رأي يعتنقه أو عقيدة يلتزم بها، لقد أصبح القانون بمثابة ”محاكم تفتيش“ على النوايا، مع التأكيد على أن المتأسلمين أنفسهم لكونهم مجموعة مؤدلجة لا يقلون عن عبيد البيادة في شيء، وينافسونهم في كل شيء!. جميعهم يواجه الواقع المادي الملموس بالكذب والخداع والتفسيرات الميتافيزيقية الخرافية في محاولة عبثية للهروب من ألم الجهل ووجع المعرفة إلى طمأنينة الغيب. ومع أنَّ عبيد البيادة يناصبون العداء بشكل واضح للجماعات الإسلاموية التي تنافسهم السلطة على البلاد وتتبارى معهم في إذلال العباد، إلا أنهم يرون في تركها بزعامة ما يسمَّى زورًا بـ”الأزهر الشريف“، للقيام بالحملات الأخلاقية، حماية لهم من مزايدات المتدينين، كما أنه يعطي الانطباع المطلوب وصوله للشعب، وهو: أنه بإمكانهم القبض على أي شخص إذا تخطى الحدود السياسية أو الأخلاقية التي يحددونها له! إنه مراقب أينما كان وكيفما يكون!
ولطالما سيطر هاجس الأمن على عبيد البيادة منذ اغتصابهم السلطة، إلَّا أنه أصبح نوعًا من الخبل العضال لدي رئيسهم المفروض عنوة على الشعب، جعله ينشيء أكبر ماكينة قمع لا مثل لها في تاريخ مصر، وراح يستغل بيادته في خضم سكرة انخداع المجتمع في إقامة مشروعات مدنية تتميز بـ”عسكرةٍ“ غير مسبوقة، وتُعزّز قبضة العسكر على الاقتصاد ولا تُقدّم أي منافع اقتصادية واسعة أو ملموسة، سوى استفادة العبيد، والفاسدين ومعدومي الأخلاق والضمير منها على المدى القصير، إنها مجرد إنجازات مادية غير مجدية، تتعلق فقط بالرغبة في إرضاء الناس، وإشعارهم أن هناك شيئا ما يحدث، وتتضح فيها تبنِّيه لرؤية سياسية تعيد رسم ديموغرافية البلاد على نحو يحولها إلى أحد أكبر السجون المفتوحة ومجتمعات المراقبة في العالم، إلى ”بانوبتيكون“ مصري بامتياز،
يقول عنها الشيخ خالد الجندي في جريدة المصري اليوم إن أنها أصبحت تعيد للإنسان حيويته ونشاطه!
ولم تقتصر أذرعه الأمنية على المواطنين داخل البلاد فحسب، بل امتدت أيضًا إلى أولئك الذين تركوا البلاد وأقاموا خارجها بسبب تصرفات البيادة الحمقاء. يتم القبض على أي مواطن مهما كان لمجرد كلمات قالها، وتوجَّه إليه تهمًا ملفقة، ومعدَّة مسبقًا ومعلبة، لإيداعهم في هذا السجن الرهيب!. وتقديمه في وقت ما لقضاء تم توظيفه سياسيًا، ومنظومة عدالة تم تدميرها منهجيًا بالكامل، فقد احتلت مصر في عام 2020 المركز 125 عالميًا من بين 128 دولة على مؤشر سيادة القانون الذي يصدره مشروع العدالة العالمي، وذلك بناء معايير تشمل ثماني فئات يتم رصدها ومقارنتها بالنظراء الإقليميين قبل منحها تصنيفًا عالميًا، وهي: القيود المفروضة على السلطات الحكومية، غياب الفساد، وصول المواطنين إلى الوثائق الرسمية، مراقبة أداء الحكومة، الحقوق الأساسية للمواطنين، النظام العام والأمن والامتثال التنظيمي، وأخيرًا العدالة المجتمعية والعدالة الجنائية.
https://worldjusticeproject.org/rule-of-law-index/factors/2020/Egypt/Order%20and%20Security/
عبيد البيادة ورئيسهم المفروض عنوة على رقاب الشعب، يخافون من الشعب، فيكذبون عليه منذ بداية حكمهم، والشعب بدوره يخاف منهم، فيكذب عليهم. دائرة الخوف مستمرة، وتخلق دوائر أخرى من الكذب والخداع تكبر كل يوم، لقد أوجدوا بسلوكهم أزمة ثقة بين الناس بعضها البعض، وبينهم وبين الشعب، يعتبرون المواطن كاذبًا، والشعب يعتبرهم لصوصًا، وأنَّ جميع توجهاتهم السياسية ما هي إلّا خطوات لمزيد من إذلاله وابتزازه. الخوف يملأ نفوس الجميع بالقلق واليأس والإحساس بالعجز والاكتئاب، ويحملهم جميعًا على الكذب والاحتيال.
رئيس البيادة المفروض عنوة على البلاد، لا يعتد بتوجُّهات أحد، ولا يلقي بالًا لآراء أحد، ولا يهتم بنظرة العالم المتحضر إليه، ولا يعترف بالعلم ولا يحترم العلماء ويمضي في سياسة البيادة مع الكذب والدجل التي وضع أسسها البكباشي عبد الناصر، دون اعتبار أو تقدير. فكل شيء عدا ما في عقله مجرد (هري) أو بتعبير مهذَّب ”ثرثرة فارغة“. الجميع يجب عليهم أن يسكتوا ويصمتوا، ويستمعوا له وحده، ويقبلوا أقداركم ويلقوا مصائرهم التي يحددها لهم، لأنه في طريق البيادة ماضٍ بلا تردد وبلا رحمة، تحميه مؤسساته بالقمع المفرط والقسوة الحادة والقهر المدمِّر، وعلى الإعلام الموجه أن يصفِّق له والحشود المخدرة والمسيرة أن تهتف وتهلل، وتحلف بحياته!. وفي آخر هذيان له يقول: «لو سكتُّ علشان أحافظ على الكرسي ربنا هيحاسبني ويقول لي أنا اللي جبتك وأنا اللي همشيك»، هذا الهذيان يدل دلالة واضحة على أن جهات شعبية معينة تضغط عليه لترك السلطة، مما جعله يلجأ إلى المفهوم الديني السياسي الذي يلغي إرادة الشعب تمامًا، ويعني أنه كحاكم مستبد يستمد سلطته المطلقة وشرعيته من الحق الإلهي Divine right ويعتبر أي نوع من العصيان والخروج عليه ذنباً بحق الله، وقد ساد هذا المفهوم القرون الوسطى في أوروبا، وما زال سائدا في الدول المتأسلمة، بناء على الآية: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} (آل عمران 26)!
رئيس البيادة المفروض عنوة على الشعب، لا يعرف وربما لا يريد أن يعرف كيف يستثمر في عقول المواطنين، وتقديم خدمات تعليمية حرة ورعاية صحية مفيدة لهم ولبلدهم، ومنحهم الحق في الاختلاف وفي التفكير النقدي البناء، ويحاول بدلا من ذلك أن يمسك بجميع الخيوط بيديه، ولا يترك أمراً، إلا ويقحم نفسه فيه، لإحكام سيطرته على الدولة والمجتمع بما فيهما من موارد وبشر وعمران ومواصلات وبرلمان وقضاء، حتى أجساد المواطنين لم يتركها، فلا مكان للبدناء في "جمهوريته الجديدة"، يجب استبعاد الموظفين، أصحاب البنية الجسدية غير الرياضية والمُشتبه في سوء أخلاقهم وعدم ولائهم له، أو انحراف توجهاتهم السياسية عن توجهه هو.
من المستحيل لدي عبيد البيادة أن يخْلَعوا بيادتهم، بل ويخشون من التفكير في خلعها، وليس لديهم أدنى قابلية لتغيير فكرهم وتصرفاتهم، ولا يمكن إقناعهم بأن استقرار الدول وتطورها يعتمد أساسًا على تغيير وتبديل الحكام والحكومات باستمرار، ممَّا يعزِّز استقرار الحكومة والدولة ويطمئن المواطنين، ويجعلهم أكثر استجابة للضغوط، كما أنه يطيح بقادة محددين، مما يقلل الفساد والمحسوبيات والرشوة. إن هذه القابلية للتغير هي التي تجعل النظم الديمقراطية اقل هشاشة من أنظمة البيادة وغيرها من الأنظمة الفاشية والأوتوقراطية.