فنُّ التعليم … عبقريةُ مُعلّمة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6975 - 2021 / 8 / 1 - 12:17
المحور: حقوق الانسان     

Facebook: @NaootOfficial

هذه الكلماتُ للمعلّمين والمعلّمات بوصفهم رُسلا يحملون رسالات التنوير للنشء، ونَدينُ لهم بالشكر إذْ أخذوا بأيدينا لنفتحَ كوّة النور والعلم حين كنّا صغارًا، ومازالوا يُكملون رسالاتهم النبيلة مع أولادنا. قصةٌ وصلتني وددتُ مشاركتها معكم لنتعرّف على عبقرية معلّمة فهمت طبيعة رسالتها العظيمة وأتقنت حملها.
في إحدى المدارس، حلّت معلّمةٌ محلَّ أخرى تركت عملها. شرحتِ المعلمةُ الدرسَ، ثم طرحت سؤالاً وأشارت على أحد الطلاب للإجابة، فضجَّ الفصلُ بالضحك. لم تفهمِ المعلمة سببَ ضحك التلاميذ الجماعيّ المفاجئ. لكنها استنتجت من خلال تهامس الطلاب الساخر، ومن إطراقة الخجل والانكسار في عيني الطالب، أن زملاءه يرونه بليدًا غبيًّا واعتاد المعلمون على تجاهله، كأنه غير موجود. بعد انتهاء الحصّة وخروج الطلاب، انفردت المعلمةُ بالطالب، وكتبت على ورقه بيتًا من الشِّعر، وطلبت إليه أن يحفظه دون أن يخبر أحدًا. في اليوم التالي كتبتِ المعلمةُ بيت الشِّعر على السبورة، وشرحت معانيه البلاغية، ثم مسحته، وسألت الطﻼب : من منكم حفظ البيت؟ لم يرفع أيُّ طالب يده إلا صديقنا الذي رفع يده على استحياء، فشجعته المعلمةُ، فقام وسرد بيت الشعر بطلاقة. فصفق الطلابُ مشدوهين ونظراتُ الإعجاب ملء عيونهم. تكررتِ التجربةُ مع فروع أخرى من بحور العلم، نجح الطالبُ في استرجاعها أمام زملائه، فتبدّلت نظرتهم إليه، والأهمُّ أن نظرته لنفسه قد تبدلت من الانهزام إلى الثقة بالنفس وحبّ العلم؛ فشرع بالاجتهاد واجتاز الامتحانات بتفوق ودخل المرحلة الثانوية واجتازها وأنهى الدراسة الجامعية، ثم درجتيْ الماجستير والدكتوراه؛ ليحكي لنا قصته ممتنًّا للمعلمة التي صنعت منه هذا الإنسان الناجح، محلّ شخص خامل كان مقدّرًا له أن يكونه؛ لولا ذكائها وإتقانها "فن التعليم" الصعب، في مقابل معلمين يضعون العراقيل أمام تلاميذهم فيضيعون على المجتمع أفذادًا ممتازين وأدهم الإحباطُ وكسرُ الهمم.
وأنا أقرأ قصة هذا الدكتور الجميل تذكرتُ حكايةً من الفولكلور الإنجليزي الرمزي. مجموعةٌ من الضفادع شاركت في مسابقة لتسلّق جبل شاهق. وقف الناسُ بالأسفل يهتفون ساخرين: (لن يصل أيُّ ضفدع إلى قمة الجبل! مستحيل!) وبالفعل، بدأت الضفادعُ في التساقط واحدًا في إثر واحد، إلا ضفدعًا واحدًا أكملَ السباقَ حتى وصل إلى القمة وحيدًا. وذُهل الجميعُ وبدأوا في التلويح له بدهشة حين بدأ رحلة الهبوط في سلام، ونال الجائزةَ وسط تعجّب الجماهير. وحين سأله الصحفيون كيف حقق المعجزة، لم يردّ، بل أشار بإصبعه بما يعني أنه أصمُّ لا يسمع. الدلاليةُ الرمزية من تلك الحكاية هي أن "صَمَمَ" الضفدع الناجح قد فوّتَ عليه سماعَ الهتافات المُحبطة التي أسقطت زملاءه الذين سمعوا وصدّقوا وآمنوا باستحالة الفوز، فأخفقوا، وسقطوا. بينما كان الحظُّ حليفًا للضفدع "الأصمّ" الذي أكمل مسيرة العمل والجد والكد والكفاح، دون شوشرةٍ ولا ضغائنَ، حتى وصل إلى القمّة؛ وكأنه سمع مقولة "ڤيتوريو أريجوني”: (الناجحُ إنسانٌ حالم، لا يستسلم أبدًا.) هكذا يفعل كلُّ عباقرة الكون: لا يلتفتون إلى التافهين الذين يقتلون أنفسَهم كدًّا وجدًّا، لا للنجاح، بل لإفشال الناجحين.
حكاية أخرى واقعيةٌ تؤكد نظرية "الصَّمَم الجميل" الذي يحمي الإنسان من الطاقة السلبية المعطّلة للنجاح. في نهاية إحدى محاضرات درجة الدكتوراه في الرياضيات، كتب البروفيسور على السبورة معادلتين (لا حلَّ لهما) في "التفاضل والتكامل”. وقال لطلاب الدكتوراه: (معادلتان أخفق في حلّهما علماءُ الرياضيات عبر التاريخ. لتعلموا أن العلم مازال بعيدًا، والعقل البشري مازال في مرحلة الطفولة. هاتان المعادلتان ليستا للحلّ. فقط مطلوب منكم تدوينهما لتتذكّروا قصورَ العلم، ومحدودية العقل البشري.) وخرج البروفيسور والطلاب من قاعة المحاضرة إلا طالبًا كان يجلسُ في آخر الفصل، غارقًا في نومه. استيقظ فجأة وشاهد المعادلتين على السبورة، فظنّ أنهما واجبُ الغد، فدونهما في دفتره ومضى. سهر الطالبُ الليلَ يحاول حلَّ المعادلتين. وفي الصباح ذهب إلى البروفيسور في مكتبه قائلا: (سيدي، حللتُ واحدة، وأخفقتُ في حل الأخرى! ) هتف البروفيسور مذهولا: (مستحيل! كيف نجحت فيما أخفق فيه أكبرُ عباقرة العالم؟! ) ما حدث هو أن نومَ الطالب في المحاضرة، قد فوّتَ عليه الإنصاتَ إلى كلمة (مستحيلٌ حلُّها). فسهر الليلَ وحاول ونجح؛ بينما لم يحاول زملاؤه، ولا أساتذته، لأنهم وضعوا العربةَ أمام الحصان، وقدّموا المستحيلَ على الممكن، وركنوا إلى الركون دون المحاولة، فأغلقوا بابَ الخيال والإبداع.
“الدينُ لله، والوطن لمن يرتقي بأبناء الوطن.”
***