مقاربة جديدة للحد من تكرار أحداث تونس أو غيرها


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6971 - 2021 / 7 / 27 - 16:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تعددت القراءات لأحداث تونس الأخيرة، لكن طغت القراءات السياسية والإعلامية البحتة التي تحلل الأحداث في ظاهرها دون أي تعمق فيها، فعادة ما يطغى على هذه القراءات إما تصفية حسابات سياسوية أو أيديولوجية دون أي تفكير جاد لإيجاد حلول جذرية لهذا المشكل أو الأزمات العديدة التي تعيشها المنطقة، والتي تتكرر دائما فيها دون الإستفادة من تجارب سابقة، كما أنه عادة ما يتم تغييب المفكر الذي يقرأ ويحلل الأحداث في العمق، ويطرح الحلول، فتغييبه يعود إلى عامل رئيسي، وهو أن مجتمعاتنا هي مجتمعات صبيانية أو طفولية لا تولي الأفكار أي إهتمام، وكل همهما هو تسليط الضوء على الأشخاص و الأشياء حسب تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي، فهي لاتدرك أن للأفكار دورا هاما في أي عملية تغيير بعد ما تتفاعل مع الوضع الإقتصادي، خاصة مع مدى تطور قوى الإنتاج الذي يعد عاملا رئيسيا في أي عملية تغيير كما سنوضح ذلك فيما بعد إنطلاقا من فكرة أن تغيير البنية التحتية المتمثلة في قوى الإنتاج هي التي ستؤثر على البنية الفوقية المتمثلة في شكل الدولة والأخلاق والثقافة والذهنيات وغيرها.
ان تغييب الأفكار هي التي جعلت شعوب منطقتنا لاتمتلك أي نظرة مستقبلية مبينة على العلمية والأكاديمية، فتجدها تصفق لهذا السياسوي أو ذاك، وتوصله إلى السلطةن وهو ذو عقل فارغ وضحل لايتقن إلا فنون المناورة والتلاعب وحبك المؤامرات بمكيافيلية الذي هو المنهج الوحيد الذي يمتلكه للخلود في السلطة على حساب مصالح الدولة والشعب، أليس هذا هو ما وقع في تونس؟، أليس هذا هو ما وقع في الجزائر أثناء الحراك حيث حاول الوصوليون والإنتهازيون إستغلال ذلك للصعود السياسي مبعدين كل من يمتلك مشروعا سياسيا كاملا مشوهين له بكل الأساليب، بل بتعبير أوضح ظهر بقوة ما أسميهم في عدة مقالات لي "سياسويو ومثقفو العصبيات" الذي يستغلون العواطف ومختلف العصبيات الدينية والطائفية واللسانية والقبلية والجهوية للوصول إلى السلطة، فأدى ذلك إلى حروب أهلية، وحولت ما سمي بالربيع العربي إلى خريف دموي في كل هذه الدول (أنظر مثلا مقالتنا "مثقفو وسياسويو العصبيات" في الحوار المتمدن عدد 5267 بتاريخ 27أوت2016).
نعتقد أن ما يحدث في تونس كان منتظرا منذ فترة، فبعد وقوع ما يسمى ب"الربيع العربي" أعتقد الكثير بأن تونس هي الوحيدة التي نجحت في عملية الانتقال الديمقراطي على عكس دول الربيع العربي الأخرى التي تحول فيها هذا الربيع إلى خريف دموي بسبب سيطرة العصبيات الدينية والطائفية واللسانية والقبيلة والجهوية، إضافة إلى تدخل عدة قوى دولية عن طريق قوى إقليمية توظف بدورها قوى محلية موالية لها لخدمة مصالح استراتيجية كبرى لتك الدول على حساب شعوب دول الربيع العربي، لكن ان نجت تونس من مختلف هذه العصبيات بحكم عدة عوامل، ومنها التجانس النسبي للمجتمع التونسي من جهة والمستوى الثقافي والتعليمي والفكر الحداثي المنتشر فيها نسبيا نتيجة لمدرسة بورقيبة، لكن لم تستفد الطبقات الشعبية في تونس من التغيير الذي وقع بحكم أن المستفيد الوحيد هي نخب محدودة كانت مهمشة في الماضي، فارتقت سياسيا، وسعت لأخذ مكان النخب السابقة، وهو ما جعل هذه الطبقات الشعبية تتحسر على نظام بن علي، خاصة بعد ما طغت السياسة السياسوية لدى النخب الجديدة التي أرتقت الي السلطة، فأصبحت حتى هي فاسدة بشكل أبشع، فأغلب التشريعات والقوانين التي تصدرها عن طريق البرلمان أو عند مناقشة قانون المالية وتوزيع الميزانية تستهدف خدمة مصالحها الخاصة على حساب هذه الطبقات المحرومة والشعبية، كما أنحسر دورها في بيع الكلام فقط (الكلاموجيا) لدرجة ملل المواطن التونسي منها، كما ساءت الأوضاع بسبب تقهقر الذهنية الحضرية لصالح ذهنية بدوية بدأت تطغى بغطاء ديني للأسف الشديد، فتقهقر الوضع العام.
ان كل ملاحظ ومتتبع لما يحدث بعد كل عملية تغيير بثورة يقتنع بأن شعوبنا لازالت بعيدة جدا عن الممارسات الديمقراطية، فيقتنع الكثير بعد ذلك بضرورة إعادة الاستقرار والأمن وضبط الأمور، فيحن البعض من هؤلاء الي حكم أحادي يقوم بذلك بشرط ضمان التوزيع العادل للثروة، فيظهر في هذه الظروف المهدي المنتظر أو المنقذ والمخلص الذي ستنساق وراءه الجماهير، فكل ممارسة ديمقراطية في منطقتنا يتبعها بعد فترة حكم إستبدادي يضمن نوع من توزيع عادل للثروة، فقد عرفت مصر والعراق وسوريا مثلا ديمقراطيات نيابية قبل منتصف القرن العشرين، لكن مل منها الشعب الذي صفق فيما بعد لانقلابات عسكرية في مصر1952 وسوريا نهاية الأربعينيات وعراق 1958، بل في الكثير من الأحيان تسوء الأوضاع أكثر بعد كل تغيير، فيغيب على الكثير بأنه لا يكفي تغيير النظام أو إستبدال أيديولوجية بأخرى ليتحسن الوضع، فما يخفى على الكثير أن الأمور أعقد مما يتصورون، خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماغي، فنحن نعيش تحت سيطرة نظام رأسمالي عالمي يتحكم في كل شيء بعد ما ربطنا بمركزه المتمثل في أمريكا وفرنسا وبريطانيا أثناء الفترة الإستعمارية، فأبقانا مجرد أسواق لسلعه ومناطق للإستثمار في الصناعات الإستخراجية فقط كالنفط دون المنتجة للسلع كما كان يقع قبل إستعادة بلداننا إستقلالها، فهذا الإرتباط هو وراء تنامي الفقر والبؤس نتيجة لهذا الإستغلال الرأسمالي العالمي الذي يسميه المفكر الإقتصادي سمير أمين ب"التبادل اللامتكافيء"، والذي حلله وفككه الكثير من منظري التبعية من قبل كرؤول بريبيش وإيمانويل والرستين وغيرهم، والذين توصلوا إلى فكرة ضرورة فك الإرتباط بهذا النظام الرأسمالي العالمي إن أرادت بلدان العالم الثالث الخروج من التخلف وتحقيق التنمية، وهو ما يتطلب عمل جماعي ومشترك من هذه البلدان، فكم تمنينا أن تتحول حركة عدم الإنحياز إلى حركة إقتصادية عالمية تدعم تعاون جنوب- جنوب، وتطالب بنظام إقتصادي عالمي جديد أكثر عدلا وإنصافا بدل الرضوخ لواقع فرضته دول رأسمالية علينا عند تقسيمها للعمل في القرن19 بعد إستعمارها لنا (أنظر في ذلك مقالتنا "ماعلاقة التوسع الرأسمالي بتخلفنا؟-عودة إلى نظريات التبعية-" في الحوار المتمدن عدد5931 بتاريخ 12جويلية2018).
ان هناك عدة عوامل تعرقل قيام أي ديمقراطية في منطقتنا، وهي الانتشار القوى لمختلف العصبيات الدينية والطائفية واللسانية والقبيلة والجهوية، وأيضا محاولتنا نقل ديمقراطية تستفيد منها نخب محدودة دون الطبقات الشعبية، ولهذا ضرورة التفكير في نظام سياسي بديل يعود بالفائدة على الجميع وفي آليات عملية لفك الإرتباط بالنظام الرأسمالي العالمي، وقد سبق لنا ان طرحنا ذلك في كتابنا "النظام البديل للاستبداد- تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-" الذي نشرناه عام 2013، ودعمنا أفكاره بعشرات المقالات لتبسيطها للقاريء الكريم. فهل من المعقول أن تكون المجالس التشريعية منحسرة في فئات محددة تدافع عن مصالحها، ويبعد عنها الكثير من الفئات التي لن تجد من يدافع عن مصالحها في التشريع وسن القوانين ومناقشة الميزانيات، ولهذا طالبنا بمجلس تشريعي يتم إنتخاب ممثليه على أسس فئات مهنية وإجتماعية التي ستتحول إلى دوائر إنتخابية بدل الدوائر المبنية على أساس جغرافي التي عادة ما تنتج نوابا تنتمي غلأى فئات محددة مع غياب فئات أخرى التي لن تجد من يدافع عن مشاغلها وهمومها ومصالحها، فلست هنا للتفصيل في هذا الموضوع، فقد شرحته بالتفصيل في العديد من كتبي ومقالاتي من قبل.
اما فك الارتباط بالرأسمالية العالمية يتطلب ثورة صناعية وتشجيع الإنتاج الوطني ودفع أصحاب الأموال للإستثمار في القطاعات المنتجة بدل تخصيص أموالها لإستيراد سلع ومنتجات المصانع الرأسمالية، فتخدم بذلك إقتصاد هذه الدول وديناميكيته على حساب إقتصاد دولها، فيجب ان تنحسر عملية الإستيراد في المواد أو المنتجات التي تعجز عن إنتاجها محليا، فهذا ما يؤدي إلى رأسمالية وطنية تدور حول الذات، وليست تابعة وخادمة للرأسمالية العالمية ولدولها المركزية كأمريكا وفرنسا وغيرها، وهو ما سيسمح بتنمية إقتصادية، فبتقوية قوى الإنتاج بثورة صناعية، سيتم تغيير الذهنيات، وينتشر الفكر الديمقراطي والمواطني بشكل صلب في المجتمع، خاصة إذا تم تدعيم ذلك بثورة علمية وثقافية وتعليمية، مما سيمهد للإنتقال إلى مجتمع ديمقراطي فعلي، وليس شكلي، فقيام رأسمالية وطنية تخدم الأوطان، وليست تابعة هو مرحلة ضرورية قبل قيام أي نظام ديمقراطي، فلم تنتشر الأفكار الديمقراطية والمواطنية في أوروبا إلا بعد ما مرت بثورة صناعية وبمرحلة الرأسمالية الوطنية.
فما وقع في تونس كان منتظرا منا، وقد أشرنا اليه من قبل في عدة مقالات، لكن وجهت لنا انتقادات من الكثير الذين لازالوا يزرعون أحلاما وأوهاما غير واقعية، فنشروا في المجتمع فكرة أنه يكفي تغيير الأنظمة لتتحسن أحواله، ليصدموا في الأخير بالواقع الذي يجب مواجهته بذكاء وبإستراتيجية وبمشروع مجتمع واضح المعالم، وفي الأخير لا يسعنا الا أن نذكر، ونتساءل هل مقولة الافغاني ومحمد عبده بأن شعوب الشرق تحتاج إلى مستبد عادل أو مستنير لازالت صالحة؟. فإن سلمنا بصحة هذه المقولة اليوم فيجب ان ينحسر دور هذا المستبد المستنير او العادل في التمهيد والتحضير لأرضية إجتماعية صلبة تسمح بقيام مجتمع ديمقراطي، وتتمثل في القيام بثورة صناعية وفك الإرتباط بالرأسمالية العالمية كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، مما سيقضي على مختلف العصبيات الدينية والطائفية واللسانية والقبلية التي تعرقل العملية الديمقرطية، كما يجب ان ينشر هذا المستبد الأفكار الديمقراطية والمواطنية بواسطة ثورة علمية وتعليمية وثقافية، فإن كانت أوروبا قد أعتنقت هذه الأفكاربعد مدة طويلة بسبب ظروف القرن19، فإن اليوم لانحتاج إلا فترة قليلة لاتتعدى بضعة سنوات، ولن تتجاوز ثماني سنوات على أقصى تقدير للقيام بهذه النقلة الضرورية لأي عملية تغييرإيجابي تخلصنا نهائيا من الدائرة المغلقة التي نحن قابعون فيها منذ زمن طويل.