مطلقية الحق ومحاولات تأطيره شخصيا وزمنيا


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6965 - 2021 / 7 / 21 - 14:40
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

من أشهر المقولات التي يتداولها البعض في بيان حقيقة ما يعتقد تلك العبارة الهجينة المزدحمة بتناقضاتها الداخلية وما بنيت عليها من فكرة { كل ما عندنا من الحسين وكل ما لدينا فهو من عاشوراء}، قد لا يعرف البعض هذه المقولة وقد لم يسمع الكثيرون فيها من قبل ولكنها واحدة من أهم الأفكار التي ولدت لتكون عنوانا عقديا عند البعض ومفتاحا لفهم ما هو مؤمن به، الحقيقة هنا أنا لا أقف موقف الطائفي أو المعارض للفكرة بقدر ما أمارس دوري كفاحص لما بعد البنيان اللغوي والمقصدي منها سواء كنت مؤمنا بها أولا، القضية أكبر من ترديد شعار وكأنه مسلمة وبديهية منطقية عند البعض، فالحسين الذي يرمز له هنا مرتين الأولى بالتصريح والثانية بالدلالة البعدية سيكون محور الإيمان وبديله النوعي كليا وتماميا، من هنا فمن المعقول جدا عند البعض أن يقبل ألتماهي بين فكرة أن الحسين هو الحق أو قضيته وبين جعله أو القضية هي محور الإيمان دون أن يشعر أو يدرك ما تعني هذه المماهاة من بعد عميق يتصل بأصل الإيمان الكامل بالدين بالله بالحق مطلقا ومضافا.
الحسين الإمام الذي صارع أشكالا وممارسات من الظلم وأنتصر للحق بقضيته لا يمكن أن يكون بذاته أو بفض يته بديلا عن الحق أو شمولية الفكرة ولم يدع ذلك، إنما أراد من ذلك أن يكون جزء من قضية كبرى وهي قضية الحق والصراع الذي يقوده ضد الباطل من خلال معادلة أزلية وإشكالية قديمة تعرض لها الوجود البشري أولا ثم الوجود الإنساني لاحقا، هذه الجدلية أو المعادلة بحسب ما نؤمن خلقت قبل أن يخلق آدم بشرا مكلفا بأتباع الحق (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، فلما كان الإمر قد مضى أعلن الرب للجميع أن اللعبة التي ستكون بين الخلق هي لعبة الفساد والإعمار وبالنتيجة هي لعبة سفك الدم أو الحفاظ عليه (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)، فلم يكن كل الذي جرى إلا محاولة لدفع الحق أن ينتصر لأنه في النهاية أنتصار للإنسان على عدوه مهما كان عنوانه أو منهجه وعقيدته، إذا ما عندنا ليس متعلقا بشخص بقدر ما هو متعلق بقضية وإن كان الشخص يمثل هذا العنوان ولكن يبقى لاحقا له وجزء من سيرورة وجودية متأصلة.
إذا نحن أمام قضية كبرى بل ومحورية في وجود الإنسان لا تتعلق بالأشخاص بقدر ما تتعلق بالغائية منها ومن وجودها في الوجود، قد يكون آدم البشر وأبو الإنسان هو البداية المعروفة والمحددة وعلى طريقه سار كل اصحاب القضية من أنبياء ورسل ومصلحين وصالحين لكنه أيضا هو جزء منها، لا تنتهي القضية هنا بالتأكيد والجزم ولا تتوقف في مفترق محدد أو منعطف أو سد وجدار بل باقية تدور مع الوجود الإنساني حضورا وعدما، فأما أن ينتهي قطب من قطبي المعادلة بطريقة ما أو بتدبير قد يبدو أحتماله ضعيفا بقدر ما نفهمه من النص، أو بأبدية الوجود التي لا بد أن ينتهي مجملا ومفصلا (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، من الدلالة التأويلية والقصدية فإن عنصر الباطل والإفساد قائم حتى يوم يبعثون.
هنا ملاحظة مهم جدا في سياق فهم النص تتمحور حول الفترة الواقعة بين نهاية الوجود وبداية البعث الثاني، النص لا يطرح صورة النهاية بالشكل الذي يحدد القطع بالحصول ولا يثبتها أيضا خاصة هذه الفترة المحصورة بين حدين زمنيين معلومين بأنها خارج مفهوم الإفساد وسفك الدماء التي قالت به الملائكة، بل يطرح عمومية نافية لتوقف الصراع، فهل هذا يعني بالجملة أن بداية نهاية الصراع بين الحق والباطل لا تنتهي إلا في النقطة التي حددها النص وهي اليوم المعلوم؟ قد يفهم أيضا أن المتاح أو الواقع غير معلوم بالنسبة للإنسان الذي يسعى بالتكليف إلى الأنتصار للحق سيبقى متخلفا عن هذا التكليف أيضا للوقت المعلوم طالما أن إبليس أو الشيطان الرمز والمضمون لا يمكنه بمجرد وجوده الذاتي أن يكون سببا للإفساد أو سفك الدماء بعدم وجود البشر والإنسان.
نرجع مرة أخرى للمقولة والتي تكشف عن محدودية في فهم قضية الصراع وأختزالها بقضية شخص أو حتى بقضية أمه بزمانها ومكانها وحتى بوجودها، البعض سيطرح مقولة أن منهج الحسين هو منهج الحق وأن قضية الحسين هي قضية الحق، والإشارة هنا لا تنافي المجمل الكامل لما نقول، الحقيقة لا خلاف مع هذا الطرح وإنما الخلاف من كون النظرة التشخصية قد تؤطر وتحدد ما هو أكبر، بمعنى أن أختزالنا لقضية الحق بشخص وحدث وقضية تقزيم لها وإن كانت مصداق حقيقي، ما يهمنا في القول والعقيدة أن نجزئ أو نحصص الحق بإطار مهما كان كبيرا وعظيما وجليلا لكنه يبقى أطار محدد يستبعد من دائرته ما هو مشترك بل وما هو عام كامل تام، من الجيد أن نفهم الحسين وحق الحسين وقضية الحسين ضمن أطار الصراع الكلي بين قطبي الوجود، ونسقط إيماننا به وبها ضمن دائرة الإيمان بانتصار الحق، لكن لا يحوز لنا بأي صورة أن نرهن ذلك بحدود إيماننا، لأننا لا نمثل البشر المؤمن ككل أولا، ولا يمكن حصر الحق في دائرة محدودة لننتمي لها طالما أننا لا نتفق أساسا كبشر على معيارية ضابطة للحق وشارحه له غير أنه وضع الشيء في محله الطبيعي بلا زيادة ولا نقصان بحيث يؤدي دورة الوظيفي كاملا ومنتجا من غير تعويق أو ضرر.