يوميات نصراوي: اعياد الناصرة الشعبية التي لا تمحوها الذاكرة


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 6956 - 2021 / 7 / 12 - 12:56
المحور: سيرة ذاتية     

رئيس بلدية الناصرة علي سلام اعلن في آذار 2015 عن عيد البشارة عيدا
رسميا في الناصرة، مما عمق قيمته الإنسانية والنصراوية والتاريخية
1- عيد المنافسة على فقص البيض
كنت شبلا ناشئا ولم اكن احضر الاحتفالات الدينية لأني لا ارى بها موضوعا يشدني رغم معرفتي الجيدة بالدين بكون جدي من امي كان كاهنا للطائفة الاورتوذكسية في الناصرة، وانا طالب بالمدرسة المعمدانية التي كان مقرها الأول مقابل مقبرة الروم الأورتوذكس في الناصرة. فقط عيدان جذبا اهتمامي وحماستي، بصفتهما الشعبية، اولهم عيد الفصح الذي عرف ايضا باسم العيد الكبير، ونحن الصغار عرفناه باسم "عيد فقص البيض"، حيت كان يتجمع اهالي الناصرة وخاصة الشباب، من كل طوائف الناصرة وأحيائها، امام ساحة كنيسة البشارة للروم الأورتّوّذكس، قرب العين، حيت تقام المنافسات بين الشباب بالأساس على البيض، اذ تجري المنافسة على من بيضاته اقوى واقدر على كسر بيضات المنافسين، والرابح يأخذ بيضة او بيضات منافسه التي نجح بكسر فشرتها. وكانت تستمر هذه المنافسات على فقس البيض طوال ايام العيد. وكنا نحن الصغار نتجمع لمشاهدة تلك المنافسات او شراء البيض المكسرة قشوره بقروش قليلة.
طبعا هذا العيد تلاشى من اجواء الناصرة مع الأسف، ربما لأن البيض اصبح اكثر من الهم على القلب ولم يعد احد بحاجة لشراء البيض المكسور والمهزوم بالمسابقات بين الشباب. ولكن الخسارة الكبيرة اختفاء المضمون الشعبي الذي يجمعنا كأبناء الناصرة سوية، نتعارف ونتنافس بروح رياضية او بروح بيضية، والجميع مسرور بغض النظر اذا ربح او خسر. ولم نكن ابناء طوائف، الأمر الذي لم نفكر به اطلاقا، بل ابناء مدينة الناصرة.
2- عيد العذراء مريم، ويعرف دينيا بعيد البشارة
*علي سلام رئيس بلدية الناصرة أعلن في آذار 2015 عن عيد البشارة عيدا رسميا في الناصرة
اجمل ذكريات هذا العيد التي ارتبطت بذاكرتنا كعيد لعب السيوف والدبكة في ساحة الكنيسة، والغناء للسيدة العذراء ام المسيح، وايضا بمشاركة كل اهالي الناصرة كابناء مدينة واحدة وليس كأبناء طوائف. اصلا لم يفكر احد ان الناصرة مدينة فيها طوائف، بل مدينة لشعب واحد عانى من السراء والضراء ومن الطيبات والخيرات كمواطنين لأبناء الشعب الفلسطيني، وليس كأبناء طوائف. وان العذراء ام المسيح هي وسيطتنا عند الله لتلبية مطالبنا وتخفيف المظالم التي تمارسها حكومات اسرائيل ضد المواطنين العرب. وكانت ايامها ايام الحكم العسكري السيء الصيت الذي تحكم بلقمة خبزنا وبحقنا بالعمل وصودرت اراضينا، وحددت حرية تنقلنا في وطننا ، عدا هدم العديد من قرانا وتهجير اهلها الى الدول العربية المجاورة، او الى البلدات القريبة التي لم تنكب بجرائم التطهير العرقي التي طالت عشرات البلدات وهدمت ما يقاب 540 بلدة عربية، وفيما بعد شجرت اراضيها ، لاخفاء الجريمة ولمنع عودة المنكوبين والمهجرين الى قراهم، وقد شاهدت في قرية برعم، غابة كبيرة قال لي برعمي عجوز ان هذه الغاية زرعت على انقاض اراضي زراعية لبرعم كانت تنتج العديد من البقليات، رغم وجود قرار للمحكمة العليا يلزم السلطة باعادة المهجرين البراعمة لقريتهم، لكن الحكومة اقرت قوانين جديدة اغلقت الطريق على عودة البراعمة. نفس الأمر جرى في قرية اقرت، وما تبقى من اثار تلك القري كان يقال عنه للسياح الأجانب انه آثار رومانية قديمة.
عيد البشارة الذي يعرف يعيد ام المسيح العذراء مريم التي بُشرت بولادة ابن الله يسوع المسيح. يعتبر هذا العيد من اهم اعياد الناصرة وكيف لا والبشارة تمت في الناصرة التي اصبحت تعرف بمدينة البشارة ومسقط راس المسيح ابن مريم.
من اهم مميزات هذا العيد التي ارتبطت بذاكرتي وذاكرة ابناء جيلي، الطابع الشعبي، الذي كان اشبه بعرس يشارك فيه كل اهالي الناصرة. احتفالا بابن مدينتهم اولا وللتعبير عن آلامهم من الواقع السياسي والاقتصادي الذي يقيد حقوقهم كبني بشر، وكأنهم بسجن كبير.
من الذكريات التي لا تنسى كانت الدبكة والغناء بساحة الكنيسة، كانت تعقد دبكة يشارك بها المئات والأصح معظم اعالي الناصرة بدون فرز طائفي، في وسط حلقة الدبكة الواسعة كان يرقص سيافان من عائلة مزاوي النصراوية العريقة، يرقصان بشكل فني بالسيوف، وتثور حماسة الجمهور، تصفيقا وغناء.
كانت تلك أيام الحكم العسكري الذي فُرض اساسا على المناطق العربية، تلك كانت أيام عصيبة قاسية، كان الاحتفال الديني يتحول الى مظاهرة سياسية واناشيد وطنية ضد الحكم العسكري .. ويطلق المتظاهرون اغاثة للعذراء باناشيد مختلفة ابرزها استغاثة بالعذراء مريم يقول مطلعها:
يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح
الناصرة كما تعرف هي مدينة المسيح ، ويعتبر هذا العيد عيدها الخاص الذي تحتفل به بدون مشاركة العالم المسيحي، إنما بمشاركة مسيحييها ومسلميها. وحسب القصة الدينية، بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم انها ستلد ابن الله يسوع المسيح.
يجري الاحتفال في مختلف كنائس الناصرة، وما اتذكره جيدا هو الاحتفال الذي يجري في كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس – قرب العين، حيث يحضر البطريرك الأورتوذكسي من القدس، عادة بعد الصلوات الرسمية يقام احتفال في ساحة الكنيسة الرحبة يحضره كل مواطني الناصرة من كل الطوائف، هذه هي ابرز قيم ذلك العيد وأعياد الناصرة التي لم تعرف التفرقة بين مسيحي ومسلم.
اصبح لدبكة السيوف في الناصرة مكانا في الذاكرة الشعبية بصفتها فلوكلورا نصراويا. واصبح السيافان ابناء عائلة مزاوي النصراوية مكانة مميزة بالتاريخ الشفوي الذي لم يسجل، وربما هذا النص هو اول تسجيل لتلك الحقبة التاريخية والنضالية الهامة بتاريخ الأقلية العربية التي بقيت في وطنها.
الى جانب الطابع الفني والاناشيد المختلفة التي ساوردها بهذا النص، لا بد من الاشارة الى توارد قناني العرق للمحتفلين والراقصين والمنشدين، خاصة من طيب الذكر المرحوم اسعد كردوش (ابو اسحق).
كانت تفتح القناني ويخلط بعضها بالماء لتدور على الجميع، الجميع يشرب، واعني المسلمين والمسيحيين… والسحجة تصبح أكثر حماسية، السيافان يبدعان ب “القتال” الراقص .. والعرق يتدفق من كل النواحي ..
بعد انتهاء القداس الديني داخل الكنيسة وخروج البطرك والمطران والكهنة وجمهور المصلين، تشتد الحماسة بين الجمهور، الذين يصطفوا وراء القيادة الدينية الروحية، وتبدا المسيرة من ساحة الكنيسة الى دير المطران (كنيسة القلاية) يتقدمها كشاف الروم الذي يضم شبابا مسيحيين ومسلمين يسيرون أمام موكب المطران وضيفه البطريرك إلي دير الروم في مدخل سوق الروم، المسيرة التي بدأت كاحتفال ديني تتحول بدون مقدمات، الى تظاهرة سياسية يطرح فيها المحتفلين هموم حياتهم ويعبرون عن غضبهم من الظلم والتمييز العنصري بأبشع صوره في تلك الأيام .. وخاصة القيود العسكرية التي تمنع التجول في وطننا ويقيد حق العمل، بتصاريح عسكرية مذلة، اذ بدون تصريح عسكري الويل لم يلقى القبض عليه ، سيسجن وتجوع عائلته ويغرم بمبالغ لا يملك منها شيئا.
كانت تلك أيام الحكم العسكري الذي فُرض اساسا على المناطق العربية، تلك كانت أيام عصيبة قاسية، الحكم العسكري تصرف مع العرب بصلافة واستبداد، لا يختلف عما يواجهه اليوم أبناء شعبنا في المناطق الفلسطينية المحتلة. لقمة الخبز كانت تحت قيودهم التعسفية، الوظائف لا تمنح الا لمن “مرضي عليهم”، المعلمون الوطنيون يطردون من جهاز التعليم، التصاريح تمنح بقيود وأحيانا برفض دون تبيان الأسباب. ببساطة يمنعون ابناء شعبنا من الوصول لاماكن العمل في المناطق اليهودية حتى لو كانت تبعد 10 كيلومترات (حيث ان البلدات العربية تفتقد لفرص العمل).
كان الاحتفال الديني الذي ينتهي بمسيرة الطبول والصلوات حتى ايصال البطرك والمطران الى كنيسة القلاية سرعان كما يتحول الى مظاهرة سياسية ضد الحكم العسكري. اذ تبدأ الهتافات ضد الحكم العسكري .. وتنطلق الأهازيج الوطنية ويطلق المتظاهرون اغاثة للعذراء مريم سيدة البشارة: وقد حصلت من سيدة نصراوية على نص لتلك الأناشيد التي كان يطلقها ابناء الناصرة بمسيرة العيد، ورما توجد ابيات اخرى غابت من الذاكرة أننا للأسف لا نمارس تسجيل الذاكرة الشعبية.
تقول كلمات اناشيد التحدي"
يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح
ستي يا عدرا نجينا من الحكم العسكري خلصينا
يا عدرا احمينا احمينا احنا ليكي التجينا
يا عدرا يا ام القدرة زتي العسكر لبرا
وقد وصلتني من سيدة نصراوية هذه الأبيات ايضا، وليت من يتذكر ابياتا اخرى يرسلها الي مشكورا:
اول ما نبدا ونقول بالصلاة على البتول
يا شباب دادي دادي هاي العدرا بتنادي
يا عدرا احمينا احمينا واحنا ليكي التجينا
يا عدرا عليكي السلام وبعيدك يحلى الكلام
احمينا يا عدرا احمينا للزفة احنا جينا
يا عدرا يا ام المسيح شوفي شعبك عم بصيح
انت بنت بلادنا ابدا ما بتهملينا
بشوارعنا مشى المسيح وعلمنا الدين الصحيح
يا عدرا ليكي ليكي واحنا التجينا ليكي
يا عدرا يا ام النور ام الشامة والبخور
العدرا ام البشرية شفيعة المسيحية
الك يا عدرا السلام وبعيدك يحلى الكلام
مريم ام الطهارة مريم ام النصارى
الك برفع ايديي يا عدرا الناصرية
اسلام ومسيحية الكل بقول احمينا
طبعا والأهم:
يا عدرا يا ام المسيح ارفعي عنا التصاريح
بعد ان تفرغ قناني العرق، التي لا تخلو منها السحجة والتي لها حصتها في الغزل مثل:
“اللذة مش من اول كاس اللذة بقاع القنينة”
وغيرها من أغاني الغزل بالعرق يبقى الهم الوطني…
ما بقي ان أذكره ان الشرطة لا بد ان تعتقل مساء بعض المتظاهرين الذين بحت اصواتهم وهم يهتفون ضد الحكم العسكري ويناشدون ام المسيح ان ترفع عنهم التصاريح!!
للأسف لم يكن هذا العيد رسميا، حتى قرر رئيس بلدية الناصرة علي سلام في آذار 2015 عن عيد البشارة عيدا رسميا في الناصرة، مما عمق القيمة الإنسانية والنصراوية الرائعة لهذا اليوم المميز شعبيا وتاريخيا ونصراويا وفلسطينيا.