نظريات طبيعة نظام الاتحاد السوفياتي في ضوء انهياره (نحو نفي نظرية - رأسمالية الدولة - السوفيتية) 3-3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6955 - 2021 / 7 / 11 - 14:46
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

هذه هي الحلقة الثالثة و الأخيرة ضمن محور النفي العلمي لنظرية "رأسمالية الدولة" في الاتحاد السوفيتي - بعد الحلقتين السابقتين اللتين تناولتا واقع التخليق المافيوي من جديد للطبقة الرأسمالية التي استنبتت في جمهوريات الاتحاد السوفيتي عقب انهياره بعنوان "ضرورة رأسمالية العصابات"؛ و من ثم مناقشة النظريات الثلاث المطروحة بصدد طبيعة النظام في الاتحاد السوفيتي : "رأسمالية الدولة" و "الجماعية البيروقراطية" و " الدولة العمالية المشوهة بيروقراطياً" . في هذه الحلقة الأخيرة ، سأقدم ترجمة لأجزاء من مقالة "أميلي لانيير" التي تفسر سبب افلاس نظرية "توني كليف" عما أسماه بـ "رأسمالية الدولة في روسيا" ، و هو الافلاس الذي اختلسه البرجوازي منصور حكمت لنفسه بعدئذ باعتباره أحد أعداء الماركسية و الشيوعية الحقيقية مثلما سبق و أن أوضحت و سأوضح المزيد في قادم الأيام .
و من أهم ما يرد في هذه المقالة هي الحقيقية العارية المتمثلة بأن لصق يافطة "رأسمالية الدولة" على النظام السوفيتي السابق إنما ينسف من الجذور كلاً من المفهوم الماركسي للدولة و للرأسمالية في آن واحد . بالنسبة لماركس و انجلز و لينين و كل من يريد وعي الماركسية الموثقة نصياً و ليس تزييفها برجوازياً ، فإن كل دولة انما هي الأداة للقمع الطبقي ، و بالتالي فإن النظام الرأسمالي في كل دولة رأسمالية هو - بالضبط حتماً - لـنظام "رأسمالية الدولة" باعتبار أن وظيفة هذه الدولة الأساسية إنما هي تكريس هيمنة رأس المال اجتماعياً و سياسياً و اقتصادياً و قانونياً . كما أن يافطة "رأسمالية الدولة السوفيتية" تنسف الفكر الماركسي للرأسمالية لكونها تتوهم بإمكانية وجود الرأسمالية في المجتمع بدون الوجود الفعلي الملموس لـ " رأس المال " و لا لـ "تراكمه" و لا لـ "مالكيه الرأسماليين" ، على غرار الإيمان الغيبي بوجود "الجن" و "الشياطين" و "الملائكة" .
ظهرت هذه المقالة على موقع (Ruthless Criticism ) بتاريخ (September 17, 2009) على الموقع :
https://communistobjections.wordpress.com/2009/09/17/critique-of-state-capitalism-theory/
وُلد المؤرخ النمساوي اليساري أميلي لانيير في فيينا عام 1961 ، و له كتابات و محاضرات بصدد تفكك الاتحاد السوفيتي و يوغسلافيا و نشوء الاتحاد الأوربي و عمل محكمة العدل الدولية في لاهاي. و في رأيه ، لم تدرك أي دولة شيوعية أو اشتراكية سابقة أو حالية الأفكار التي يعتبرها شخصياً مرغوبة . و هو يوضح أيضا بكونه يرى في إنشاء دولة و مجتمع بلا مال هو الحل المناسب لإنهاء الرأسمالية .
أنظر :
https://www.vajma.info/cikk/magazin/6549/Jugoszlavia-felbomlasa-egy-becsi-tortenesz-szemszogebol.html
نص المقالة [الأقواس لي]:
"حول المفهوم الغامض لـ "رأسمالية الدولة" و محاولة تعريفها
أميلي لانيير (Amelie Lanier)
ضمن العنوان "رأسمالية الدولة" على "الويكيبيديا" ، نقرأ ما يلي :
"بالنسبة للماركسيين والاقتصاديين غير التقليديين ، فإن رأسمالية الدولة هي الصيغة لوصف المجتمع الذي تمتلك فيه الدولة قوى الإنتاج وتديرها بنمط رأسمالي ، حتى لو كانت هذه الدولة تسمي نفسها "دولة اشتراكية" . في الأدب الماركسي ، تُعرّف رأسمالية الدولة عادةً بهذا المعنى : كنظام اجتماعي يجمع بين الرأسمالية - نظام الأجور لإنتاج فائض القيمة والاستيلاء عليها - مع ملكية جهاز الدولة أو سيطرته على وسائل الإنتاج . من خلال هذا التعريف ، فإن الدولة الرأسمالية هي تلك الدولة التي تسيطر فيها الحكومة على الاقتصاد وتتصرف بشكل أساسي مثل شركة عملاقة وحيدة . و هناك نظريات وانتقادات مختلفة لنظرية رأسمالية الدولة هذه ، بعضها موجود منذ ثورة أكتوبر أو حتى قبل ذلك . و الموضوعات المشتركة بينها هي تحديد أن العمال لا يتحكمون بشكل هادف في وسائل الإنتاج وأن علاقات السلع و الإنتاج من أجل الربح يبقيان فعّالين داخل رأسمالية الدولة ...
بعد عام 1940 ، طورت التيارات التروتسكية المنشقة تحليلاتها الأكثر تعقيدًا من الناحية النظرية عن رأسمالية الدولة . و كانت إحدى الصيغ المؤثرة هي تلك الخاصة بـ "تيار جونسون-فوريست" ، لـ " سي إل آر جيمس " و لـ "رايا دُنيافسكايا" المصاغة في أوائل الأربعينيات على أساس دراسة أول ثلاث خطط خمسية للاتحاد السوفيتي جنبًا إلى جنب مع قراءات لكتابات ماركس الإنسانية المبكرة .[ يخص هذا التيار الاتجاه اليساري الراديكالي في الولايات المتحدة المرتبط بالمنظِّرَين التروتسكيين : سي إل آر جيمس و رايا دُنيافسكايا (باسمها المستعار "فريدي فورست") اللذين أسسا عام 1940 مجموعة دراسة داخل حزب العمال الاشتراكي الامريكي للعمل على فكرة رأسمالية الدولة ، ثم انضمت إليهما "جريس لي بوجز" ، لتنشق المجموعة بعدئذٍ عن ذلك الحزب .] و سوف يقودهم تطورهم السياسي هذا بعيدًا عن التروتسكية . و كانت النظرية الأخرى تعود لـ "توني كليف" ، المرتبط بالتيار الاشتراكي الدولي وبحزب العمال الاشتراكي البريطاني (SWP) ، ويعود تاريخها إلى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين . و على العكس من جونسون فورست ، فقد صاغ كليف نظريته عن رأسمالية الدولة السوفيتية على نحو يمكِّن مجموعته من البقاء داخل الحظيرة التروتسكية ، وإن بطريقة غير تقليدية ."
انتهى نص الويكيبيديا .
(http://en.wikipedia.org/wiki/State_capitalism)
نحن هنا أمام فكرتين مختلفتين على الأقل حول ما يغطيه مصطلح "رأسمالية الدولة" : إما أنها شركات مؤممة تديرها مؤسسات الدولة داخل الدولة الرأسمالية ، أو أنها تستخدم لتسمية نظام "الاشتراكية الحقيقية" السابق . في كلتا الحالتين ، يبدو أن هناك بعض الالتباس حول مفاهيم "الدولة" و "الرأسمالية" و "العلاقات بين الاثنين". إن تعريف "الرأسمالية" الوارد أعلاه كـ "نظام الأجور لإنتاج فائض القيمة والاستحواذ عليه" إنما يختزل ، أولاً ، الرأسمالية كنظام داخل اطار حقل الإنتاج فقط . كما أنه يستبعد نظام المنافسة في السوق ، وخضوع الإنتاج بكامله لخلق القيمة المجردة ، و دور النقود كمقياس لهذه القيمة المجردة – باعتبار أن هذه النقود هي القوة الاقتصادية الحقيقية أو "المجتمع الحقيقي" (Reales Gemeinwesen) ، كما عبَّر عنها ماركس . ومن هذا يمكننا أن نستنتج بأن هؤلاء الماركسيين هم غير معنيين بنقد هذه المفاهيم . و ثانياً ، أن وجهة النظر هذه تفتح الباب على مصراعيه أمام سلسلة من المقارنات الخاطئة : عندما نشخص الرأسمالية كنظام لدفع الأجور ، فإن كل نظام يتم فيه دفع الأجور سيصبح حينئذٍ نظاماً "رأسمالياً". من هذا التعريف ، يمكننا أن نرى أن بعض الماركسيين لديهم مفهوم للرأسمالية بمعنى مختلف عما عبَّر عنه ماركس في "رأس المال" و في الكتابات المرتبطة به. و لكن ماذا عن مفهوم الدولة ؟ من الواضح في هذه النظريات أنها تعتبر ملكية الدولة داخل الاقتصاد الرأسمالي شيئًا غير عادي يجب تشريفة بإطلاق تسمية خاصة به . يبيُّن هذا أنه بالنسبة إلى أتباع نظرية "رأسمالية الدولة" فإن ملكية الدولة والملكية الخاصة تعتبران ظاهرتين متناقضتين وتستحقان اهتمامًا خاصًا عند تعايشهما. لذلك دعونا نفحص التعايش بينهما - المتكرر إلى حد ما .
ملكية الدولة في الدولة الرأسمالية
لننتقل إلى النمسا كمثال على بلد له قطاع كبير من الصناعة المؤممة . في النمسا ، كانت ملكية الدولة شائعة جدًا حتى التسعينيات من القرن الماضي ، حيث كانت الغالبية العظمى من المصارف ، و قطاع الطاقة ، و مصانع الصلب والكيماويات ، و حتى التصنيع الإلكتروني تديرها الدولة . و كان الجزء الأكبر من الشقق السكنية عبارة عن ملكية تعاونية . و بدون الدخول في موضوع الأسباب التاريخية لهذه المشاركة الكبيرة للدولة في الاقتصاد – كان لابد من إنقاذ الملكية الألمانية السابقة من قوات الاحتلال السوفياتي عن طريق التأميم – فإن علينا أن نفهم سبب استمرار هذا النظام المزدوج للملكية حتى التسعينيات .
لم يكن لدى النمسا ما يكفي من رأس المال لإدارة هذه المؤسسات - التي كانت في الواقع مملوكة للألمان خلال فترة ما بين الحربين العالميتين ، أو أنها تأسست خلال الحكم الاشتراكي الوطني - من قبل ملاك خاصين بعد عام 1955 ، عندما غادرت سلطات الاحتلال البلاد . و مع ذلك ، فقد كانت ضرورية تمامًا كقاعدة للاقتصاد النمساوي ، حيث أنها شكلت قاعدة ريادة للأعمال الخاصة . و لقد زودت المصارف والطاقة والصناعة الأولية الحكومية القطاع الخاص بكل ما يحتاجه من أجل العمل في المنافسة الوطنية والدولية . و كانت ضرورية تمامًا إذا كانت النمسا ستبقى جزءًا من الغرب ، أي تعمل كدولة رأسمالية.
وبالتالي ، فإن القطاع المؤمَّم لا يشكل تناقضًا مع الشركات الخاصة ، ولا هو قطاع مستبعد من المنافسة ، بل هو نوع من الإنتاج والعمالة المحميَّين . كما شكل القطاع المؤمَّم قطاعاً اقتصادياً تنافسياً بالكامل ، ومكملاً ضرورياً للاقتصاد . و كما هو الحال في القطاع الخاص ، كان الاستثمار في القطاع الوطني موجهاً نحو الربح و يدر عليه أرباحًا. و غالبًا ما كانت الصناعة الوطنية - بما أنها تحمل قدرات أكبر للاستثمار - رائدة في إدخال التقنيات الجديدة التي أدت إلى تحسين معدل الاستغلال ، أو كما يطلق عليها عادة : إنتاجية العمل . و من هناك انتقلت ملكيته إلى الشركات الخاصة بغية تحسين القدرة التنافسية للشركات النمساوية على المسرح الدولي . و لقد كانت لهذا عواقبه المعتادة على سبل عيش الموظفين : ففي الثمانينيات ، على سبيل المثال ، في مصنع الصلب الكبير في لنتز (الذي تم بناؤه في الأصل باسم "مصنع هيرمان غورينغ" بعد عام 1938) ، تم تخفيض قوة العمل من 25000 عامل إلى 6000 عامل في غضون 5 إلى 6 سنوات....
و في بلدان أخرى ، مثل فرنسا أو بريطانيا العظمى [و الولايات المتحدة الامريكية لاحقاً] - و هي الأهم من وجهة نظر حجم رأس المال و تراكمه - كان التأميم وسيلة لوضع الصناعات أو المصارف الرئيسية تحت إدارة الدولة ، و من ثم ضخ الأموال من ميزانية الدولة لجعلها فعالة ؛ أي أن تصبح ذات ميزة تنافسية دوليًا من أجل خصخصتها لاحقًا . في جميع هذه البلدان ، تم استخدام عائدات الدولة للانخراط في الاستثمارات في الصناعة الوطنية بهدف زيادة القدرة التنافسية لرأس المال الوطني ضد مؤسسات الدول الرأسمالية الأخرى .
من الضروري تذكّر هذه الحقائق ، وتذكير القارئ بها ، إذ أننا كثيراً ما نجد في الوقت الحاضر - نتيجة لعدم اليقين العام في المفاهيم العامة و أيضًا لحنين معين – أن كلمة "الرأسمالية" تستخدم عند الحديث عن الأسواق المحررة و التجارة الحرة و التحويل غير المحدود للأرباح ، في حين أن ملكية الدولة أو حتى إجراءات الدولة التي تقيد هذه "الرأسمالية التوربينية" تُعتبر ضرورية و ديمقراطية و بالتالي مناهضة للرأسمالية وعادلة واجتماعية – أي أنها متناقضة مع الرأسمالية !
علاوة على ذلك ، فإن التناحر المفترض بين ملكية الدولة والملكية الخاصة غير صحيح بسبب حقيقة كون الرأسمالية في حد ذاتها إنما هي دائمًا رأسمالية الدولة ، بمعنى أن الرأسمالية لا يمكن أن تتواجد قط بدون الدولة . وهذا يعني أن الدولة ، باعتبارها احتكارًا للسلطة ، هي القاعدة والشرط الأساس للرأسمالية ، أو كما يطلق عليها في الوقت الحاضر ، اقتصاد السوق . بدون الدولة التي تفرض استبعاد العمال عن وسائل الإنتاج - بقوانينها ، وقضائها ، وشرطتها ، وسجونها - وبالتالي تجبرهم على بيع قوة عملهم لصاحب العمل ، لا يمكن أن يحدث أي إنتاج رأسمالي . إن الدولة تفرض تعاون الطبقات على أساس تناحرها ، وتضمن الطاعة ، ولكنها أيضًا تفرض وظيفة البروليتاريا لخدمة أهداف طبقة المالكين ، أي جني الأرباح من استخدام العمل . العمل المأجور هو مصدر فائض القيمة والربح ، ولكن هذا لا يمكن أن يوجد إلا إذا وضعت الدولة الأساس له وضمنت الشروط المسبقة اللازمة للاستغلال ...
كتاب و نظرية توني كليف
كتب كليف كتاب "رأسمالية الدولة في روسيا" في أربعينيات القرن العشرين ، و نُشر عام 1955 . و تحتوي مقدمة الطبعة المعادة لعام 1996 على هواجس عديدة للنظرية الماركسية في القرن العشرين التي تمثل المبادئ الأساسية : إنها فوق كل شك و هي تشكل الأساس من كل المزيد من التفكير النقدي .
"إن التصور بأن النظام الستاليني كدولة اشتراكية ، أو حتى كدولة عمالية منحطة – في المرحلة الانتقالية بين الرأسمالية و الاشتراكية – إنما يفترض أن هذا النظام هو أكثر تقدمية من الرأسمالية."
لماذا يحتاج العمال الدولة ؟ هل سألوا أحداً منهم هذا السؤال من قبل؟ لكن هؤلاء الأصدقاء الحقيقيين للرجل العامل مثل توني كليف مقتنعون بأن هذا سيكون شيئًا رائعًا ، بل و تقدميأً . و اعتراضه على الاتحاد السوفيتي انما ينصب علة كون الاخير لا يفي بمعايير كليف الخاصة في هذا الصدد....
أحد هذه المصطلحات المستخدمة بشكل متكرر ، ولكنها فارغة المعنى ، هو مصطلح "التقدم". إنه ينتمي إلى "غائية التاريخ" الماركسية ، التي بموجبها يصبح التاريخ هو الموضوع ، و هو يتبع قواعد معينة و يتطور بالضرورة بشكل إيجابي وتدريجي ...
يسوق كليف التغيير الحاصل في النظام السياسي في أوروبا الشرقية كدليل على استمرارية الرأسمالية : "إن الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر يصحبه بالضرورة استبدال جهاز الدولة بجهاز آخر . في حين أنه بالكاد تم لمس آلة الدولة في أي مكان في عام 1989."
هنا المنهج هو برمته غير علمي إلى حد ما مرة أخرى . يخترع كليف ببساطة بعض الضرورات التي تناسب هدفه ، ويلقي باللوم على الواقع لتناقضه معها . و على الضد من ذلك ، يمكن للمرء أن يستنتج من الطريقة التي تم بها تنفيذ تغيير النظام و ما زال يتم فرضه في اوروبا الشرقية أنه يمكن استخدام آلة الدولة القائمة من أجل فرض اقتصاد السوق و الملكية الخاصة في البلدان التي غابت فيها هذه "النعم" لعقود. إن طريقة كليف غير العلمية هذه في الجدل تتواصل طوال الكتاب بأكمله . و هو يفجر تفكيره الهزيل و غير المرضي بالكثير من الحقائق . لنأخذ ، على سبيل المثال ، الفصل الأول ("العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في روسيا الستالينية") بصدد : "تراكم رأس المال من ناحية و الفقر من ناحية أخرى" . هنا تُقدَّم للقارئ الكثير من الحقائق و الجداول - والتي أجدها مملة . حيث نعلم أن استهلاك اللحوم في الاتحاد السوفيتي كان منخفضًا جدًا مقارنةً باستهلاك اللحوم في بريسلاو في القرن التاسع عشر. و يتم إبلاغنا في أي عام تم إدخال الصرف الصحي إلى أرخانجيلسك . و يتم وصف ظروف المعيشة البائسة لسكان الاتحاد السوفيتي بتفاصيل كثيرة . الشيء الوحيد المفقود هنا هو الدليل الموعود في العنوان : تراكم رأس المال . و هو يختتم المقطع بسؤال بلاغي : "هل من الضروري إعطاء دليل إضافي على أن تراكم الثروة من جهة يعني تراكم الفقر من جهة أخرى ؟" و لكنه لا يقدم لنا أي دليل على الإطلاق على أن الثروة قد تراكمت ، من ناحية ، و على أن هذه الثروة المفترضة كانت ستعمل كرأس مال من ناحية أخرى .
و المقاطع الأخرى في الكتاب هي من نفس هذه النوعية . لنأخذ ، كمثال ، الجزء المتعلق بـ "ضريبة المبيعات" . هنا يحاول كليف أن يوضح كيف أن الدولة تستغل رعاياها عن طريق فرض الضرائب عليهم . و لم يخطر بباله أن الدولة الاشتراكية - التي تتولى بنفسها إصدار نقدها – كان بإمكانها أن تطبعه حالاً لو أن قادتها كانوا بحاجة إلى المال . إن الضرائب ، مثلها مثل الأسعار في الاقتصاد الاشتراكي الحقيقي ، تنتمي إلى نظام الروافع للتحكم في الاقتصاد ، ولكنها لم تكن ضرورية على الإطلاق لملء خزانة الدولة .
علاوة على ذلك ، فإن غباء طريقة كليف يظهر بوضوح في الاستنتاجات لأحد الفصول . فبينما حدب ماركس على الكشف عن القوانين الاقتصادية التي تميز الاقتصاد الرأسمالي و على شرح العلاقة بين زخمه - على سبيل المثال : الاستنتاج المنطقي لقيمة قوة العمل أو لحتمية الأزمة ؛ بالنسبة لكليف ، فإن الاقتصاد الرأسمالي بأكمله يقدم نفسه على أنه فسيفساء كبيرة مثل الكثير من الحجارة المتاخمة لبعضها البعض . إنه يغرق جمهوره بالمصطلحات و الحقائق و الاقتباسات و الأرقام ، و بهذه الطريقة يجمع صورته عن الرأسمالية و النظام السوفياتي (بكلماته : الروسي) . انه يبتكر "الميزات" و "العناصر" و "الخصائص" و ما شابه . و نظرًا لعدم وجود أهمية للعلاقة القائمة بينها عنده ، لذا نجده يقارن بسهولة بين كومة من التفردات التي جمعها و- مفاجأة ، مفاجأة! - ليرى أنها تمتلك الكثير من القواسم المشتركة مع الرأسمالية . هذه هي الطريقة التي ظهرت بها النظرية "النقدية" لرأسمالية الدولة ، وهي النظرية التي لا تستحق حتى تسمية "النظرية" .

من يلتزم بنظرية رأسمالية الدولة و لماذا ؟
لقد كانت ثورة أكتوبر و تأسيس الاتحاد السوفيتي تجربة اجتماعية كبيرة . لقد أظهرت للعالم قوة الأفكار : مجموعة من الذين لا يملكون و المنظمين فقط على أساس الأفكار و النظريات و المعتقدات يمكنهم أن يطيحوا بحكومة أكبر دولة في العالم و أن يقضوا على الطبقة الحاكمة فيها . بَنى البلاشفة النظام الاجتماعي الذي أنشأوه على أساس خاطئ . لقد كانوا مغرمين جدًا بالطبقة العاملة لدرجة أنهم أرادوا الحفاظ عليها و تحويل كل فرد من أفراد المجتمع إلى عامل ، و بالتالي تكريمه . ربما كان ذلك مستوحى من عنوان إحدى مقالات إنجلز - "الدور الذي يلعبه العمل في الانتقال من القرد إلى الإنسان" – حيث اعتقدوا أن الإنسان يصل إلى أعلى مرحلة من التطور عن طريق العمل ، فيصبح "الإنسان الجديد . " بقي الاتحاد السوفياتي قائماً لأكثر من 70 عاماً ؛ هَزَم الفاشية ؛ وأخيراً توقف عن أن يكون . كتراث ، فقد ترك الكثير من الأنقاض الصناعية و الخردة ، لكنه خلَّف دولة قوية مع صناعة عسكرية مثيرة للإعجاب . و ترك الكثير من الأسئلة : لماذا ظهر ؟ لماذا اختفى ؟ هل كان خطأ ككل أم كان له أساس سليم ؟ هل استسلم بسبب التهديد الخارجي ، أم بسبب النزاعات الداخلية ؟ إلغاء الملكية الخاصة ، الشيوعية - هل هذا أمر ممكن على الإطلاق ، أم أنه مجرد حلم غير واقعي للمثاليين السذَّج ؟ كل هذه الأسئلة حتمية و يجب الإجابة عليها . و تزداد هذه الأهمية كلما بان ساطعاً بأن ماركس كان محقًا في تحليله للرأسمالية. ثم يأتي هناك كتاب مثل كتاب كليف الذي صرح فعلاَ قبل فترة طويلة بأن النظام السوفياتي لا قيمة له . و ما هو أكثر من ذلك ، فقد قالها كماركسي معترف به . لذا ، يُنظر إلى نظريته على أنها نظرية نقدية يسارية يمكن قبولها بسهولة من قبل أي شخص يعارض النظام السياسي والاقتصادي الحالي . و لكن يجب على المرء أن يكون حذراً في استهلاك مثل هذه الأنواع من السلع الجاهزة . إن كليف - وجميع الآخرين الذين يعملون بمفهوم "رأسمالية الدولة" - لا يقدِّمون التفسير ، و لا هم مُقنِعون . جاذبية أفكارهم لها أسباب أخرى : خدمتها للأحكام الشعبوية المسبقة . إنهم يحيون العبارات الاشتراكية البالية . وفي الأوقات مثل هذه التي نعيش فيها حيث تتعطل الأيديولوجيات ، فإن هذا النوع من الثرثرة يوفر ملاذًا آمنًا لأولئك الذين يتوقون للتفرج بدم بارد على الآخرين وهم يعانون من تحطم السفن في البحر العاصف . الحديث عن رأسمالية الدولة مناسب للحييكمين ممن يزرعون موقفًا نقديًا و يسخرون من البشرية كلها لعجزها عن الهروب من عجلة الدواسة بسبب رؤاهم القاصرة ."