يعقوب ابراهامي يودع زوجته و حكاية أم ( جميل) المرأة الشيوعية العراقية.


عبد الحسين سلمان
الحوار المتمدن - العدد: 6945 - 2021 / 7 / 1 - 12:18
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     

أنــا العِـراقُ، لسانـي قلبــهُ، ودمي فراتُـــهُ، وكياني منهُ، أشطــارُ…..الجواهري.

يوم 29.06.201 فارفت الحياة ( دبورا ) زوجة النبيل العراقي ( يعقوب ابراهامي).

يوم 30.06.2012 نشر النبيل العراقي ( يعقوب ابراهامي ) في الفيسبوك , قصة حقيقة عن امرأة شيوعية عراقية في الخمسينيات.

وهذه هي القصة.

"أم جميل"
(هذه قصة حقيقية. قصة عن أم وثمانية أولادها. كل الأسماء الواردة هنا هي أسماء حقيقية. كل الأحداث مروية كما جرت في الواقع. انا أبعث هذا البوست قبل أن أكمله وأكسبه الصورة التي خططتها له. ظروف قاهرة صعبة قاسية ومؤلمة منعتني منذ بضعة أشهر عن العمل عليه. في الصورة المرفقة تظهر "أم جميل"، "أبو جميل"، بيرتا والأحفاد).

عانقتني وهمست في أذني بلهجة يهود بغداد: "ابني! بوس أيدو لبوك وقلّو: بابا عذبتوك كثيغ". (ترجمة: يا ابني! قبِل يد أبيك وقل له: يا أبتي لقد عذبتك كثيراُ). تكلمت بصوتٍ خافت كي لا يسمعها "أبو جميل". كان مهماً لها أن يظن "أبو جميل" ان المبادرة جاءت مني وليس بوحيٍ منها.
لم يعرف أحدٌ خارج النطاق العائلي اسمها الحقيقي. كلهم نادوها "أم جميل". لم تعرف القراءة والكتابة. لكنها كانت الروح الحية والعقل المدبر وراء مضاهرات واحتجاجات عوائل السجناء الشيوعيين نصرةً لأعزائهم القابعين في غياهب السجون. جعلت من بيتنا وكراً تجتمع فيه أسر السجناء للتشاور، لكتابة العرائض، لتنظيم المضاهرات وللأتفاق على الخطوات المقبلة.

أيام صعبة مرت آنذاك على الشيوعيين العراقيين. تلك كانت السنوات التي شهدت اعدام مؤسس الحزب المحبوب وعددٍ من قادة الحزب البارزين. ومن بين مئات الشيوعيين وأنصار الشيوعيين الذين اكتضت بهم سجون العراق كان لأم جميل سجين واحد هو الأعز والأقرب اليها: أبنها.
لم تفتها فرصة واحدة لزيارتي. في الصيف والشتاء، في البرد والحر، في الأمطار والعواصف الرملية. كانت تركب القطار من بغداد الى السماوة، ومن هناك، عبر منطقةٍ صحراوية بدوية قاحلة، كانت تقطع الطريق بالسيارة مع اسرٍ أخرى لتصل في نهاية المطاف الى قلعةٍ عسكرية نائية، بالقرب من الحدود العراقية-السعودية. القلعة أقامها الأنكليز في عشرينات القرن الماضي وتحولت الى واحدٍ من أشرس السجون في تاريخ العراق: سجن نقرة السلمان الرهيب.

روت لي مرةً كيف تعطلت بهم السيارة في منتصف الطريق فباتوا الليلة في العراء. في صباح اليوم التالي مروا بخيمةٍ للبدو وراعي الماشية هناك رفض أن يأخد منهم ثمن الحليب الذي زودهم به. ترى هل عرف انهم ذاهبون للقاء الشيوعيين؟

كانت تصطحب معها دائماً أحد أبنائها أو بناتها.
أحياناً كانت تراففها بيرتا (الأخت الكبيرة). في لقائي الأول مع بيرتا في سجن نقرة السلمان أخذت تبكي: "اشسويت بينا؟ قتلِتنا كِلنا!" (ماذا فعلت بنا؟ لقد قتلتنا جميعاً!). وأنا، في المقابل، القيت عليها محاضرة قصيرة في موضوع النضال ضد الأمبريالية.

أحيانا كانت ترافقها نادرة. من الروايات التي نتداولها في العائلة عن نادرة هي أنها كادت ان تقتلنا جميعاُ قبل أن تبلغ السنة الأولى من عمرها لولا فطنة "سليم الجراح" الذي كان يسكن في منزلنا مع زوجته العاقر. ففي تطور سريع للأحداث في "الفرهود" وجدنا أنفسنا، أكثر من عشرين فرداً، مختبئين في حجرةٍ صغيرة في أعلى السطح لا تزيد مساحتها على عشرة امتارٍ مربعة. الجو في "المخبأ" كان خانقاً. ألخوف سيطر على الجميع. أحد لم ينبس ببنت شفة. الصمت كان سلاحنا الوحيد. من ساحة الدار علت اصوات مخيفة تطالب بقتلنا. وبينما كانت "أم كريِّم" الرائعة (امرأة مسلمة) تحاول أن تقنع حملة السكاكين ان المكان خالٍ من اليهود، قررت نادرة ان الوضع أصبح لا يطاق، وشرعت بالبكاء. لم يكن هناك أدنى شك ان بكاءها يعني الحكم علينا بالموت ويحبط كل محاولات "أم كريِّم" لصرف الأنظار عنا.
بسرعة البرق قفز "سليم الجراح وأخذ يملأ فمها بالسكر. كجراح محترف حسب "سليم الجراح" الحساب لأسوأ الأحتمالات وقبل صعوده الى"المخبأ" ملأ جيوبه بكمياتٍ هائلة من السكر.

"قتخنقا"! (أنت تخنقها!) - صرخت "أم جميل" مذعورة وهي تسمع صوت طفلتها يخفت شيئاً فشيئاً ثم يختفي.
"لا بأس! " - اجاب "سليم الجراح" الذي عقد العزم على ابرام صفقة رابحة (1 مقابل 20) مهما كان الثمن. وفي محاولة يائسة لأقناع الأم المذعورة بعقلانية الصفقة أضاف: "هذا افضل بكثير من أن تقتلنا جميعاً".

نادرة لم تختنق، أم جميل لم تفقد طفلتها و"سليم الجراح" خرج منتصراً بعد ان انقذنا بحفنة من السكر. نادرة تعيش اليوم في "المستعمرة العراقية" رمات غان في اسرائيل, تحتمي بين الحينّ والآخر من صواريخ "حماس" وتحن الى أغاني ناظم الغزالي وسليمة مراد.

أحياناً أخرى كان يرافقها اسحق. ذروة اعماله "الثورية" كانت في مدرسة شماش عندما كتب على لوحة الصف Down with Imperialism دقائق قليلة قبل ان يدخل المدرس الأنكليزي للغة الأنكليزية قاعة الصف ويذهل لما رات عيناه. الأمبرياليزم لم يسقط والأمر انتهى بعقاب بسيط وبدعوة الوالد للقاء مدير المدرسة.

أو جميل الذي كان يدرس الطبب. قبل بضع سنوات سأل كاتب في "الحوار المتمدن" قراء "الحوار" أذا كانوا يعرفون شيئاً عن مصير طبيب يهودي باسم "جميل" ("أسم على مسمى") عمل في المناطق الكردية في شمال العراق وعالج المرضى الفقراء مجاناً. دهشة الكاتب كانت كبيرة عندما أخبرته أن جميل هو أخي وهو يعمل طبيباً في نيويورك. جميل (الذي كان يردد دائماً: "بلادي وان جارت علي عزيزة ... وأهلي وان ضنوا علي كرام") كان سعيداً جداً عندما سمع ان هناك في العراق من لم ينساه حتى الآن. أتذكر ان الزميل جاسم الزيرجاوي كتب في حينه كلمةً مؤثرة جداً عن هذا "اللقاء" الفريد من نوعه عبر القارات والقوميات والأديان. لعل الصديق جاسم يذكر ذلك.

أحياناً أخرى كان يرافقها سعدي. سعدي سمي كذلك لأن "أم جميل" كانت حاملةً به أثناء "الفرهود"، والأسم يرمز الى سعادة النجاة من موتٍ محتم.
بعد أن حصل على كل الجوائز المدرسية الممكنة في مدرسة شماش الثانوية، احتل سعدي المكان الأول بين كل طلاب العراق في امتحانات البكالوريا لعام 1958. درس الطب وتخصص في الأوعية الدموية أو شيء من هذا القبيل. فرحت كثيراً عندما رأيت صورته، قبل بضع سنوات، في مجلة طبية امريكية تشيد بأنجازات الدكتور ابراهيم ابراهيم في عالم الجراحة. في نيوجرسي(حيث عمل سعدي) التقيت مرةً بشخصٍ قدم لي نفسه على انه الشخص الذي Doctor Ibrahim saved his life (دكتور ابراهيم أنقذ حياته). دكتور ابراهيم هو سعدي طبعاُ وسعدي نفسه مدين بوجوده لأمرأةٍ مسلمة.
" الفترة الثورية" مرت على سعدي في نيويورك، بعدها "عاد الى رشده" وهدأ بعض الشيء.

أحياناً كان يرافقها الياهو الذي كان يعتني بأخوته الصغار حين كانت "أم جميل" تقطع البادية أو تقود المظاهرات النسائية في "شوارع بغداد.
أما فوزي فقد وقع ذات يومٍ في حفرة عميقة وسط الصحراء القاحلة، ولولا أن منيرة (احدى المشاركات في "القافلة") أبصدرت به في اللحظة الأخيرة، أمسكت بشعره (الطويل)، سحبته وأخرجته من الحفرة, لكانت نهايته مفجعة. بعد ذلك كلما كانت أم جميل تتذكر هذا الحادث كانت تقول: "اشلون كنا مجنين. ناخذ لولاد ويانا بذاك الدغب". (ترجمة: كم كنا مجانين! كيف كنا نأخذ الأولاد معنا في هذه الدرب!). فوزي يقيم اليوم في لندن، ومن هناك ينذر العالم بقرب نهاية كوكب الأرض اذا استمر النظام الرأسمالي في الوجود.

كم كنت فخوراً بها عندما كانت تنقل الرسائل بين "الداخل" و"الخارج". اليوم عندما أفكر في ذلك اسأل نفسي: من أين أتتها الجرأة لفعل ذلك؟ الغريب أنني لم أسأل نفسي آنذاك هذا السؤال (ولم أسأل نفسي كذلك لماذا كنا نرفع "العلم الأحمر" في ساحة سجنٍ يقع وسط صحراءٍ قاحلة، تحت افواه بنادق السجانين، ونعرض أرواحنا للخطر؟

بعد كل عملية كهذه كنا نشعر وكأننا انتصرنا في معركة ستالينغراد. كم كنا سذجاً!) كانوا يصفونها بال"سبعة" (لبؤة). دبرت وأشرفت على تنفيذ خطة تهريب جهاز راديو (من الطراز القديم) الى سجن الكوت. (انتقلنا الى سجن الكوت عقب اضرابّ طويل عن الطعام. بعد مجزرة سجن الكوت نقلنا ثانيةً الى نقرة السلمان). اختارت بنفسها الفتاة الملائمة، جهزتها وألبستها كما يجب، ثم رافقت "السيدة الحامل" الى بوابة السجن. في نقطة التفتيش طلبت من الحراس أن يعاملوا "لسيدة الحامل" برفق. نجحت الخطة و"السيدة الحامل" عبرت بلا تفتيش.

حرصت أن تخفي عني آلامها. فقط في ساعة الوداع في مطار بغداد تبين لي ان وراء هدوئها الظاهر اختفى ألم شديد على الحزن الذي غرق فيه "أبو جميل".
تقدمت نحو أبي، أحنيت رأسي، امسكت بكلتا يديه، قبلتهما وقلت له: "بابا سامحني فقد عذبتك كثيراً".
وهو: "مو مهم، ابني، مو مهم". هذا أمر تافه - حاول أن يطمئنني - هذا أمرٌ لا أهمية له: "مو مهم".
ودعتهما واتجهت نحو الطائرة.

بعد أن حرر الشعب العراقي حسقيل قوجمان من السجن المؤبد، في ثورة 14 تموز، فتحت "أم جميل" باب بيتنا على مصراعيه أمامه. عاملته كأحد أبنائها. كنت بعيداً عنها ولا شك أنها رأت فيه تعويضاً عني. أكثر من مرة يشير حسقيل قوجمان في ذكرياته الى "هذه الأم العظيمة".

رحل "أبو جميل". ثم رحلت "أم جميل". بعد ذلك رحل حسقيل قوجمان أيضاً.
وورقة صغيرة، تحمل خط يدي، لم أكن واعياً لوجودها، عثرت عليها صدفةُ مختبئة بين تلالٍ من الأوراق والوثائق القديمة - بقيت الشاهد الوحيد على ما جرى في مطار بغداد صباح يوم 30/01/1957