فقهاء السياسة الدولية في مدينة الثورة


صادق إطيمش
الحوار المتمدن - العدد: 6944 - 2021 / 6 / 30 - 21:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إذا اعتبرنا ثورة الرابع عشر من تموز كأهم حدث تاريخي في مسيرة العراق الحديث ، وذلك من خلال تبني هذه الثورة سياسة عراقية وطنية لا يرقى إليها الشك ، رغم التلكؤات التي طرأت عليها وعرقلت مسيرتها هذه ، فلابد لنا من التطرق الى واحدة من مآثرها التي لا ينافسها عليها أحد ، حتى وإن تعرض هذا الإنجاز التاريخي للسرقة والإبتزاز سواءً من قبل الحكم البعثفاشي أو من قبل أحزاب المحاصصات الطائفية والقومية بعد ذلك .
الصرايف ....كان الإسم الشائع لتلك المساحة التي أخذت تتوسع يوماً بعد يوم لتشكل ملجأ ومأوى لآلاف من الفقراء والمعدمين الذين أجبرهم ضنك العيش وتسلط الإقطاع في جنوب العراق في العهد الملكي على الهجرة من مواطنهم والمجيئ الى بغداد التي كان العيش فيها في تلك الأيام يشكل حلماً يصعب تحقيقه لدى هذه الفئات البشرية التي لم تستطع مواصلة الحياة بأبسط مقوماتها الإنسانية تحت ظروف الظلم والجور والفقر والعازة التي تتعرض لها في مناطق سكناها في جنوب العراق . فهاجر " الشروﮒ " الى بغداد التي كانت تتوفر فيها فرص العمل المأجور او العمل الحر البسيط الذي سيوفر لهؤلاء المعدمين فرصاً للعيش هي بالتأكيد افضل بكثير من البؤس اللامتناهي الذي ظلوا يعانون منه في مناطق تواجدهم سواءً كان ذلك في مناطق الأهوار أو في أرياف محافظة ميسان " لواء العمارة سابقاُ " بشكل خاص أو في مناطق البصرة او الناصرية او الكوت عموماً . لم تكن رغبات هذه الآلاف النازحة سوى الحصول على اي عمل للتغلب على المشاكل الحياتية اليومية . اما السكن فلم يشكل عائقاً كبيراً لدى هؤلاء الذين تعودوا على إفتراش ألأرض والتحاف السماء.
وظل هذا الوضع المأساوي يكبر يوماً بعد يوم وتتكاثر معه الأعداد النازحة من جنوب الوطن حتى أصبحت الصرايف تشكل مدينة كاملة من حيث عدد سكانها لا من حيث المؤهلات الخدمية التي توفرها عادة المدينة لسكانها . مدينة تجاور العاصمة التي تعوَّد سكانها على رؤية الجموع الغفيرة التي تجتاح هذه العاصمة نهاراً لتنسحب تدريجياً إلى مواقعها في الصرايف ليلاً ، كي تعاود الكرة في اليوم التالي وهكذا على مر السنين والأعوام التي لم تتغير فيها البنى ألأساسية الخدمية ل " مدينة " الصرا يف هذه ، وكأن هذه الجموع و " مدينتها " لا يقعان ضمن تخطيط وحسابات الدولة العراقية الملكية .
وجاءت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 ، الثورة التي وضع الشعب فيها وفي قادتها آمالآ عظاماً في أن تتبنى سياسة وطنية تتماشى وتطلعات الفقراء والمعدمين الذين ورثتهم هذه الثورة من العهد الملكي الذي كان السند الرئيسي لقوى الإقطاع في ريف العراق والذي تسبب في الهجرة الجماعية التي شكلت الصرايف إحدى مظاهرها في العاضمة بغداد . وبالفعل فإن قيادة الثورة لم تبخل بالعمل المتواصل الذي كان هدفه الأول الوطن والمواطنين وقدمت إنجازات كثيرة لا نريد هنا التطرق إليها جميعاً ، إلا أننا نرغب الإشارة إلى واحد من إنجازاتها الكبيرة التي يكاد أن يغيب عن الإرتباط بثورة الرابع عشر من تموز التي صنعته وذلك بسبب السطو عليه وسرقته وتجييره لحساب فئات لا ناقة لها في هذا الإنجاز العظيم ولا جمل .

لقد إلتفت قائد ثورة الرابع عشر من تموز الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم إلى الحالة المأساوية التي يعيشها أبناء الصرايف وقرر إنهاء هذه المأساة الإنسانية التي يعيشها أهلها واستنفر همم كل من له شأن وخبرة في العمل على التخلص من أزمة كهذه ، وجاء القرار العظيم بتخصيص الأموال الكافية وشحذ الخبرات العراقية المؤهَلة للعمل على التخلص من الصرايف وتخطيط المنطقة على شكل شوارع ومناطق سكنية مقسمة تقسيماً هندسياُ منتظماً ، تُشق فيها المجاري وتوزع فيها أنابيب المياه وتُنصب عليها أعمدة الكهرباء وتوضع أماكن البنايات الخدمية كالمدارس والمستشفيات ودور العبادة ومكاتب الدولة الرسمية وتُبنى فيها البيوت الحجرية التي جرى بعدئذ توزيعها على سكنة الصرايف سابقاً . وبالفعل فقد تم كل ذلك وقامت مدينة أطلق عليها سكانها القدامى ... الجدد مدينة الزعيم . إلا أن الرجل الوطني عبد الكريم قاسم الذي قد يجري إنتقاده على هذا الموقف الخاطئ أو ذاك ، ولكن لا يستطيع أي احد الطعن بوطنيته الخالصة ونزاهته الثابتة ، الزعيم عبد الكريم قاسم رفض هذه التسمية وجرى تسمية هذه المدينة الجديدة رسمياُ بإسم : مدينة الثورة ، فأصبحت واحدة من الشواهد على إنجازات ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة .
وفي زمن ثورة الرابع عشر من تموز أيضاً ظل التوسع مستمراً في هذه المدينة التي أصبحت تشكل إحدى المراكز ألتجارية في بغداد ومركزاً للأيدي العاملة . وظلت مدينة الثورة وظل سكانها الذين غلب عليهم طابع الحياة البسيطة يتغنون بهذا الإسم ، وكثيرٌ منهم من يفتخر بانتماءه إلى هذه المدينة ، إلى مدينة الثورة .
وكما عاش العراق بأجمعه مآسي الإنقلاب البعثفاشي ألأسود في الثامن من شباط عام 1963 ، عاشت مدينة الثورة أيضاً تلك الكارثة التي حلّت بالشعب العراقي فتعرضت إلى هجمات البعثفاشية الشرسة ولاقى الكثير من أهلها أنواع الملاحقات وتعرضوا إلى السجون والتشريد والتغييب ، لا لكونهم قاوموا أعداء ثورة الرابع عشر من تموز فحسب ، بل لكونهم من سكنة هذه المدينة التي إعتبرها ألإنقلابيون واحدة من أكبر قلاع مؤيدي الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم ، حيث تبلورت فيها حركة وطنية لا تصب في توجهات الإنقلابيين بأي حال من ألأحوال . وبعد أن إستتب ألأمرللبعثفاشية المقيتة وتسلطت على الوطن بكل ما تحقق فيه من إنجازات لثورة الرابع عشر من تموز ، تسلطت على واحدة من أبرز هذه الإنجازات وسرقت ألإسم الذي وُلدت به هذه المدينة لتستبدله بالإسم الذي وضعه الجرذ المقبورلها ، إسمه القبيح ، كبديل ومحاولة بائسة منه لسلخ هذه المدينة عن تاريخها ظناً منه أن تغيير الإسم سيُبعدها فعلاً عن إسم ولادتها . وحتى بعد أن وُضع لها هذا ألإسم الجديد رسمياُ ، ظلت هذه المدينة تُعرف شعبياً بمدينة الثورة ، وظل الأمل يراود الجميع بأن هذه المدينة ستستعيد يوماً إسمها الحقيقي الذي سُرق منها بعد زوال الطاغية وحكمه الديكتاتوري الأرعن .
وجاء ذلك اليوم فعلاً واستبشر به الشعب خيراً بحلول موعد إعادة الحقوق التي سُلبت من أهلها إلى ذويها ومستحقيها الذين إنتظروا ما يقارب الأربعة عقود من الزمن . وبما ان كثيراً من هؤلاء الذين سُلبت حقوقهم لم يتسن لهم رؤية هذا اليوم بالنظر لتغييبهم وإبعادهم جسدياً عن عالم ما بعد البعثفاشية ، فمن اللياقة وأصول الأدب هنا أن يبدأ العهد الجديد بإعادة ألإعتبار الأدبي والسياسي والمادي إلى ورثة هؤلاء أولاً ، او إلى إعادة الإعتبار لهم برد منجزاتهم التي سرقتها البعثفاشية منهم إليهم . ويأتي في مقدمة هؤلاء الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم . إلا أن ما حدث لا يكاد يصدق ، إذ لا يصدق عاقل ان يجري إستبدال إسم الجرذ المجرم باسم شهيد للوطن ، وما أكثر شهداء وطننا ، ولكن أن يجري إختيار إسم هذا الشهيد بالذات ليحل محل أسم الذي قتل هذا الشهيد وسرق هذا الإنجاز التاريخي لثورة الرابع عشر من تموز الخالدة ، فهذا إنتهاك لإسم الشهيد لا تقديراً له ،كما يدعي البعض . لقد عمل الذين تبنوا هذه الفكرة ونفذوها بوضع إسم الشهيد الصدر محل إسم المجرم صدام على الإساءة إلى إسم الشهيد وليس إلى تقديره واحترامه . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الكل يعلم بأن ألإثنين ، أي لا المجرم صدام ولا الشهيد الصدر لهما أية علاقة بتأسيس هذه المدينة التي رفض مؤسسها الزعيم عبد الكريم قاسم أن تحمل إسمه دون إسم الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العراق الحديث ، الثورة ، ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة في قلوب العراقيين جميعاً . لذلك فإنه من الواجب على من تبنوا هذه الفكرة الخاطئة التي تُسيئ إلى الشهيد الصدر التخلي عنها ،وإعادة ألإنجاز المسروق إلى أهله ، إلى ثورة تموز ، وتسمية هذه المدينة بالأسم الذي ولدت به : مـدينة الـــثورة
إنه ليس من الصحيح بتاتاً أن يحاكي أنصار الشهيد الصدر تلك الأعمال ألإجرامية التي قام بها قتلة الصدر وسطوِهم ، كما سطت البعثفاشية ، على منجز تاريخي لا شأن لهم بإنجازه إطلاقاً ، ولا أدري ماذا سيقول الشهيد الصدر باستبدال إسمه بإسم قاتله لو كان اليوم على قيد الحياة . إما إذا كان السُراق الجدد لإسم مدينة الثورة لا يقصدون بسرقتهم هذه ألأموات والشهداء ، بل ألأحياء الذين لا زالوا يُرزقون ، فهذا أمر آخر قد لا يدعو إلى ألإستغراب وتنطبق عليه " الهوسة " العراقية الجنوبية التي يتغنى بها أبناء الجنوب اليوم معبرين بها عن الوضع الذي يمرون به منذ ألإطاحة بالنظام البعثفاشي المقيت والتي تقول :
بدلنه إعليوي إبعلاوي
ولم يكتف سراق هذا الإنجاز التموزي بالإساءة الى الشهيد الصدر باستبدال اسم قاتله باسمه ، او بعبارة اخرى بوضع البديل الديني هذا كإشارة الى استمرار مفعول الإسم السياسي ولكن بحيل والاعيب مقترنة بفتاوى دينية وشعارات طائفية وقيادات متخلفة برزت كفاءاتها فيما تكتب وتنشر وتُحَدِث سواءً في مجالسها الخاصة او لقاءاتها العامة . وآخر ما اتحفتنا به هذه القيادات من براعة التفنن في العلوم السياسية اعلانها بما تتعرض له مدينة الثورة ، نعم مدينة الثورة بشكل الخاص ، من مؤامرات دولية تقودها اسرائيل لتمنع تبليط شارع في هذه المدينة او إفشال إنشاء مدرسة او عرقلة تزويد المدينة بالماء الصالح للإستعمال البشري او ما يقوم به الموساد الإسرائيلي بتخريب مصادر الطاقة الكهربائية ومنع بناء اي محطة لتوليد الطاقة بشكل عام وغير ذلك من نشاطات الموساد الإسرائيلي المقترنة والمتزامنة مع نشاطات المثقفين العراقيين الذين يشكلون السبب الرئيسي لكبسلة بعض الشباب وشذوذهم الجنسي ونزوعهم لأعمال الشر ، وحتى " الخيسة " التي في المدينة سببها اسرائيل والمثقفون العراقيون . لقد اثارت هذه التصريحات من قبل بعض من استمروا في سرقة المدينة ليس باسمها فقط ، بل في كل ما حصلوا عليه بسببها من مكاسب وامتيازات ووظائف بدرجات عالية وحتى مقاعد برلمانية ، اثارت ضجة في مجلس الأمن الدولي بحيث تداعى اعضاؤه الدائميون لعقد جلسة طارئة لبحث النشاطات الإسرائيلية في تخريب مدينة الثورة وعرقلة إعمارها . وتشير الأخبار الى ان الجلسة هذه لا زالت مستمرة حتى اليوم .