الطيّبُ … الذي يُنسى!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6940 - 2021 / 6 / 26 - 23:56
المحور: حقوق الانسان     


هذا "عيدُ الأب" الذي مرَّ قبل أيام، ولم يشعر به أحدٌ. على عكس "عيد الأم" الذي يملأ الدنيا صخبًا وغناءً وإعلاناتٍ على الشاشات، وزهورًا وهدايا.
جميعُ الأدبيات في ثقافات العالم دلَّلتِ الأمَّ ووضعتها درّةً على تاج العلاقات الإنسانية. وأسكنتها الأديانُ المكانةَ الأعلى بين البشر. وخُلِّدت في القصائد والروايات والأغاني. وتستحقُّ الأمُّ كلَّ هذا لأنها منذورةٌ لأعسر وأنبل مهمة بيولوجية يؤديها كائنٌ حيّ تجاه كائنٍ آخر. أن يَخلُصَ من جسدها جسدٌ، ومن روحها روحٌ، كما تُشرق زهرةٌ وليدة من طمي الأرض. ثم تُكملُ دورَها حتى تستوي الزهورُ فوق أغصانها.
وعبر سلسال تكريم الأمّ، يُنسَى الأبُ. ونادرًا ما يتذكرُ الأبُ أنه يُنسى. فهو كذلك منضوِ تحت مظلّة تقديس الأم، منذ كان طفلا يختبئ في حضن أمه إن غاضبه طفلٌ، أو نهره أبٌ. فتعلّم أن "أي" إنسان يأتي بعد الأم، حتى هو حين يُصبح أبًا. فيشاركُ صغارَه الاحتفالَ بعيد الأم، ويقرأ عليهم الحديث الشريف: “أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أبوك.”
الأبُ العظيم لا يعبأ بالتكريم. ربما لأنه لا يشعرُ بالأبوّة لصغاره وحسب، بل لزوجته التي صارت أمًّا لصغاره. يُنسى الأبُ، وينسى أن يتذكر أنه يُنسى، ويفرحُ مع الفرحين بعيد الأم؛ فيحتفلُ مع صغاره بالصبيّة الجميلة التي حملها من بيت أبيها إلى بيته، فصارت على يديه "أُمًّا" يلتفُّ حولها صغارُه، ويحتفلون بعيدها، بعدما يأخذون منه ثمن الهدايا اللطيفة التي سوف يفاجئونها بها.
لكن فتاةً أمريكية طيبة عاشت في أوائل القرن الماضي، فكّرت في هذا الطيب الذي يُنسى، فقررتْ أن يتذكره العالمُ بأسره. اسمُها "سونورا لويس سمارت دود". كانت تستمعُ في قدّاس أحد أيام الآحاد عام 1909 إلى عِظة دينية حول عيد الأم. وكانت أمُّها قد رحلت وهي تلد طفلَها السادس، ولم تُكمل "سونورا" بعدُ عامَها السادس عشر. فكرّس الأبُ، المزارع البسيط، حياتَه لتربيتها مع أشقّائها الذكور الخمسة. لم تعرف البنتُ إلا حنانَ أبيها، ولم تُجرّب غير حضنه، ولم تسمع إلا وجيبَ قلبه على أطفاله، وما شهدت غير سهره على مرضها وصحوها واستذكارها دروسها. فقررت. أن تردَّ له اعتباره كتبتْ عريضةً مطولة تكلمت فيها عن مكانة الأب في حياة أطفاله، وأوصت في نهاية عريضتها بتخصيص يوم للاحتفال بالأب، أسوةً بعيد الأم العالمي الخالد، العابر للجغرافيات والأزمان. واقترحت أن يكون عيدُ ميلاد والدها يومَ العيد. قدمت الفتاةُ العريضة للائتلاف الحكومي في مدينة سبوكين، فأيدت فكرتَها بعضُ الفئات المجتمعية في ولايتها. وفي العام التالي احتفلت مدينة "سبوكين" بولاية واشنطن بأول عيد أب في العالم يوم 19 يونيو 1910. ثم جاء عام 1966 ليُصدرَ الرئيس الأمريكي "ليندون چونسون" مرسومًا رئاسيًّا رسميًّا بتخصيص "الأحد الثالث من شهر يونيو"، من كلّ عام: عيدًا رسميًّا للأب.
لكنه، مع كل ما سبق، ظلّ عيدًا خجولا. يتسلَّلُ كلَّ عامٍ من الروزنامة على استحياء بخُطى خجول، كأنما لا يريدُ أن يشعرَ به أحدٌ. وبالفعل، قلّما يشعرُ به أحد. فثمة أبٌ يُفاجأ بأطفاله يتحلّقون حوله ويقدمون له الهدايا. فيبدأ في فضّ الأغلفة وهو يتساءلُ: "هل اليومَ عيدُ ميلادي وقد نسيتُ وتذكّروا؟!" وبعد برهة يسمعُ من يقول: Happy Father’s Day, Dad. فيتذكر ما قد نسى. وثمة آباءٌ لا يعرفون شيئًا عن هذا العيد الخجول.
أقدّم مقالي هذا هديةً لكل أبٍ عظيم في هذا العالم. وأقدّمه للرجل الجميل الذي جعلني أُمًّا وجعلتُه أبًا: المهندس المعماري المرموق "نبيل شحاته”، الذي جعل من أطفالي شبابًا ناجحين وسعداء. أقولُ له: (لم تكن فقط أبًا رائعًا لأطفالنا مازن وعمر، وفاطيما ابنتنا الروحية، بل كنتَ لي، وستظلُّ: أبًا حنونًا، وشقيقًا رائعًا، وصديقًا طيبًا لا أخجلُ أن أرمي بين يديه دموعي وضعفي حين تقسو الحياة. كلّ عيدٍ أب وأنت أجملُ أب.) كما أهديه لأبي المتصوف الرائع الذي علّمني أن أحبَّ اللهَ وجميعَ خلق الله. “الدينُ لله، والوطنُ لكلّ أبٍٍ يقدمُ أبناءه للوطن.”
***