الدماغ الثاني وعداء تشوميسكي للشيوعية!


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6940 - 2021 / 6 / 26 - 08:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

إني عضو في مجموعة مغلقة في احد مواقع التواصل الاجتماعي. المجموعة تناقش حصرا قضايا الماركسية اللينينية وتنشر تغريدات حول مختلف جوانب النظرية وتطبيقها. وهي مجموعة مغلقة ولذا يقتصر النشر فيها وقراءة منشوراتها فقط على المنتسبين الى المجموعة. احدى الموضوعات الحيوية التي تناقشها المجموعة الآن تتعلق بالتساؤل التالي
Anyone have an opinion on Noam Chomsky?
-هل لدى أي شخص فكرة عن نعوم تشوميسكي؟-
ومن الواضح ان التساؤل عمومي الى حد بعيد, ولذا يحظي بإجابات وتعليقات ذات محتويات متباينة و متباعدة.

ولكن مما يلفت نظري في هذه المجموعة هو لغة بعض المعلقين التي قد تبدو غير لائقة (اجتماعيا في منطقتنا؟). وهذه قضية ليست شكلية. إني اعتقد إنها طريقة تعبير مقصودة الغرض منها هو رفض الاخصاء الخطابي-الأوديبي من خلال عدم الانصياع للعرف البرحوازي المقيت الذي يحرص على استخدام كلمات توحي باللياقة والكياسة كنوع من النفاق الاجتماعي (المنتشر في اوطاننا انتشار الوباء). إني, لتجنب سوء الفهم, لا ادعو الى استخدام لغة مبتذلة (!) او سوقية (ولا ادري ما علاقتها بالسوق هنا), ولكني اعتقد إن استخدام الكلمات ينبغي ان بنظر اليه ضمن حيثيات الاستخدام وسياقاتها وليس بمعزل عنها مما يمكن ان يجرد الكلمة من طاقتها العاطفية ويحيلها الى جماد او فتيش . اعتراضي على الفتشية مزدوج. أولا, الماركسية, لكونها فلسفة التغيير, معادية لكل انواع الفتشية. ثانيا, بعرف المحلل النفسي جاك لاكان, لا يمكن فصل الفكرة عن العاطفة (وهذه الموضوعة لا تدخل في صلب اهتمام علم لغويات تشوميسكي كما سيرد ادناه), الفصل الذي سببته الكارتيزية في ثنائيتها التي تفصل الجسم عن العقل او الدماغ (حيث اضع هنا علامة مساواة بينهما تجنبا لتعقيد مفرط ارغب في تفاديه في هذه المقالة). وعلماء الأعصاب والأطباء يعتبرون الجهاز الهضمي الدماغ الثاني الذي هو لربما اكثر تعقيدا من الدماغ ألأول الذي يحتويه الرأس.

"تتكون شبكة الخلايا العصبية المبطنة للجهاز الهضمي من 100 مليون خلية عصبية، وهي واسعة النطاق لدرجة أنها اكتسبت لقب "الدماغ الثاني". تُعرف هذه الشبكة من الخلايا العصبية تقنيًا بالجهاز العصبي المعوي، وغالبًا ما يتم تجاهلها وتحتوي على خلايا عصبية أكثر من الحبل الشوكي أو الجهاز العصبي المحيطي."-
OUR SECOND BRAIN: MORE THAN A GUT FEELING
https://neuroscience.centreforbrainhealth.ca/our-second-brain-more-gut-feeling
(علم لغويات تشوميسكي يعالج الدماغ الأول على حساب الدماغ الثاني او الجهاز العصبي المعوي)

لذا لا غرابة في ان ينتشر اضطراب القولون العصبي انتشار الوباء في بلد مثل العراق, وهو انتشار سببه في الأعم الأغلب عدم قدرة الناس على استخدام الدماغ الأول (دماغ الرأس) من اجل التصدي لإرهاب الدولة, فيلجأ الناس الى استخدام الدماغ الثاني كتعبير عن إحباطهم وعجزهم. والدماغ الثاني, رغم تركيبته العصبية البالغة التعقيد, لا يستطيع التعبير عن العواطف بكلمات. وعدم إمكانية احالة العواطف الى كلمات يعني طمرها في الجسد ليتعامل معها الدماغ الثاني او الدماع الآخر. و لكن وظيفة الجسد, اي جسد, هي ليست في ان يسلك كمقبرة للعواطف, لذا يعتل الجسد ويصاب بالعلل والامراص, الامراض التي هي تعبير لرفض الجسد او ثورته بالضد من احالته الى مقبرة: انها إماتة للجسد الحي! والسلطة القاهرة المستبدة, والمعتوهة عقليا ايضا, هي التي تحمل الناس على قبر عواطفهم في اجسادهم, والحيلولة بالتالي دون انتاج الأصالة والابداع كوظيفة الدماغ الأول. والتعبير عن المشاعر بدل قبرها لا يتخذ وسيلة كلامية فقط, فقد يستخدم الفن من رسم ونحت وموسيقى للتعبير عنها رمزيا. ولكن في النهاية ينبغي إخضاع الرموز المشفرة أيضا الى ايض عقلي لقولبتها في كلمات مفهومة او تسعى الى ان تكون كذلك. لذا ان العلاج النفسي يسمى أيضا العلاج بالكلام, حيث يعمل المعالج النفسي مع المريض, آركولوجيا بمفهوم التحليل النفسي, في حفر القبور واستخراج الكلمات المحتبسة لوضعها في حيز التواصل الكلامي-الخطاب اللغوي كي يمّكن الدماغ الاول من التفاعل معها, وبذلك تنتفي الحاجة الى استخدام الدماغ الثاني والتسبب في الاضطرابات النفسية او النفسية-جسمانية.

على عكس المفهوم الماركسي اللينيني للغة واستخدامها, او على الأقل بعرف هذه المجموعة المغلقة, الذي يرفض, ليس بكل صراحة, فصل الفكر عن العاطفة بحجج اللياقة والكياسة الاجتماعية, وهو فصل يكرس المفاهيم الرجعية واللاثورية ويرفعها الى مرتبة التقديس, يحيل المفهوم البرجوازي الكلمات الى فتيش ويجردها من طاقتها العاطفية التي تؤجج التفاعل الاجتماعي وتقويه, وذلك للحيلولة دون التشكيك في المسلمات وخلق الديناميكية الأولية لإشعال فتيل الثورة. فكما تحتاج الرأسمالية لتراكم (رأس)المال الأولي, تحتاج الشيوعية, بنفس القدر, الى رأسمال عاطفي لتحريك الاجساد وتعجيلها بالتغلب, يمكن القول, على القصور الذاتي بموجب قانون نيوتن ألأول, او على صنوه في علم التحليل النفسي الفرويدوي, غريزة الموت! (بنى فرويد نظرياته في التحليل النفسي انسجاما مع فسيولوجية الطبيب وعالم الفيزياء هليمهولتز, والفسيولوجيا كانت وقتها جزءا من علم الفيزياء قبل انفصالها عنه لتصبح علما مستقلا).

لكل شخص طريقته الخاصة في التعبير عن نفسه او نفسها. وان كانت هذه البديهية للأسف قد قبرت في اوطاننا, كما تقبر العواطف في الأجساد المعطوبة, لصالح اجترار كلمات تملأ الفراغات في الخطاب اللغوي-اجتماعي ولكنها لا تقول شيئا, وهذا لا يعيق التواصل الاجتماعي الفعال فقط, ولكنه يساهم ايضا حتى في خلق سوء الفهم في ايصال الرسالة على المدى القصير وتكريس الموروثات الرجعية على المدى الأبعد. احد اسباب تلوث التواصل اللغوي عندنا وفقدانه فعاليته يعود الى انتشار التدين المزيف الذي وظيفته, او احدى ظائفه, هي التستر على اللأخلاقية وتطبيعها, وقولبة قواعد التواصل الاجتماعي للحفاظ على حالة القصور الذاتي والحيلولة دون تعجيل الاجسام ثوريا لينطبق بذلك عليها علم الموت والاموات Thanatology
What’s Thanatology & What Does a Thanatologist Do?
https://www.joincake.com/blog/thanatology/
كبديل لعلم الاحياء والتغيير, العلم الماركسي (الاحتفاء بالموت والشهادة سيان لدى المتدينين وشيوعيي -حزب الشهداء-!).
و الشخص يحتاج الستر لأخفاء شيطانه- قباحاته- بالمفهوم النفسي للشيطان حسب المحلل النفسي كارل يونغ , وليس بالمفهوم الثيولوجي الذي يحيله الى كائن مُقعد في كعبة المسلمين ينتظر ببلاهة وغباء, لا تليق بالشيطان, رجمه للتستر على شيطان النفس, وان كان دعاة التدين المزيف يساوون ضمنا ببن الاثنين. إني اسميه -التدين المزيف-. ولكن اذا اتفقنا مع ماركس في ان وظيفة الدين عموما هي التزييف لكونه أيديولوجية مقلوبة للوعي, وبذلك ستنتفي الحاجة لتوصيف التدين ب-الزائف- لأنه, حسب قاعدة ما يسمى -مقص اوكام-, علينا استخدام اقل الكلمات للتعبير عن نفس الفكرة. إذن سيكون -التدين المزيف-, بعرف الماركسية, مصطلح عديم المعنى وبنبغي أبداله بالتدين فقط. ولكن على الرغْم من معقولية هذا الاعتراض او ما يبدو هكذا, الا اني لا زلت معتقدا ان اضافة -الزائف- ليست فضفاضة او زائدة عن الحاجة يستدعي مقص اوكام قطعها. اني اعتقد ان اضافة -المزيف-الزائف- ضرورية, لأن الدين (كعلاقة فردية بين الخالق والمخلوق!) في منطقتنا قد اخلى الساحة للتدين المزيف كخطاب اجتماعي-سياسي, او قد اصبح الاثنان صنوين لبعضهما البعض. وهذا لا يشكل نقيضا للماركسية باعتبار الدين أيديولوجية بمعنى الوعي الزائف, رغم اننا لا نمتلك علامات قاطعة للتمييز بين الاثنين وهنالك تداخل. وبموجب هذا التمييز سيكون الدين-الاسلام السياسي دين اسلام مزبف. الدين الاصيل, ان صح التعبير, هو آيديولوجبة مثالية عابرة للتاريخ, اي انه سيكون بالأحرى جزءا من المادية الديالكتيكية, رغم انه ليس نتاج الطبيعة. بالمفهوم الضيق للطبيعة, ولكنه نتاج تفاعل الانسان مع الطبيعة وتعبير عن حوفه من المجهول وكوارث الطبيعة وسعيا الى تفسيرها من خلال الماورائيات. نجح العلم الطبيعي في عصر الحداثة في الاجابة على العديد من تساؤلات الانسان (القديم) حول الظواهر التي اعتبرها خارقة للطبيعة وشكلت مصدر مخاوفه وهلعه فوجد في الدين مصدرا للتعزية لتهدئة نفسه. اما التدين المزيف فليس هذا مبعثه. فما هو مصدر للخوف والقلق هنا لا ينتمي الى عالم الطبيعة قدر انتمائه الى عالم السياسة والاقتصاد والمجتمع, انه ردة فعل المجتمع على تفاقم وحشية الرأسمالية وفردانيتها, من اجل أضفاء عقلانية وهمية على فوضاها (الخلاقة!) او خلافها وما يرافقها, على صعيد الفرد والمجتمع, من مشاعر القلق والخوف بسبب تعاظم الفقر والعوز والاحباط وانفراط العقد الاجتماعي نتيجة تخلي السلطة, نيوليبراليا, عن واجباتها تجاه المجتمع وتحولها الى أداة قمع حصرا. لقد اصبح التدين المزيف جزءا من مادية تاريخية, وليس مادية ديالكتيكية, هدفه ترويض الإنسان وتدجينه في عصر انتصار الرأسمالية تاريخيا وعولمتها------- وبذلك يخلع التدين المزيف حتى ورقة التوت (الأيديولوجية) التي يتستر بها الدين.

ولكن لغوية تشوميسكي تضع اللغة, يمكن القول, في خانة المادية الديالكتيكية وليس المادية التاريخية, وذلك لكونها تستوحي اقتراح آلان تورينج في أن العقل البشري هو جهاز كمبيوتر. تم تبني هذا الاقتراح بحماس من قبل مجموعة متنوعة من التخصصات العلمية في الخمسينيات من القرن الماضي, وبضمنها علم اللغة التوليدي في لسانيات تشوميسكي.
Background: The Computational Theory of Mind
https://www.staff.ncl.ac.uk/joel.wallenberg/ContextsJoelGeoff/Background_CompTheoryOfMind.html

ورغم عداء تشوميسكي للينينية ومساواتها بالستالينية, الا انه لا يمكنننا الا ان نتسائل: الا تنسجم, في المحصلة, لغويات تشوميسكي مع نظرية ستالين في اللغة باعتبارها, بعرف ستالين, جزءا من البناء التحتي وليس جزءا من البناء الفوقي.
J.V. Stalin
Marxism and Problems of Linguistics
https://www.marxists.org/reference/archive/stalin/works/1950/jun/20.htm
نظرية ستالين لم تكن في الحقيقة من ابتكاره, بل من ابتكار عالم اللغويات الروسي الشهير Viktor Vinogradov, وهو فقط قام بصياغتها شكلا. لا تنتمي نظرية ستالين في الواقع الى علم اللغويات بقدر كونها مشروعا آيديولوجيا شوفينيا لتعظيم دور اللغة الروسية باعتبارها اللغة التي تصارعت مع لغات شعوب الاتحاد السوفيتي الاخرى وانتصرت عليها لتصبح اللغة الرسمية او المهيمنة في عموم الاتحاد السوفيتي.

لسانيات تشوميسكي ونظرية ستالين في اللغة تحيلان اللغة الى ظاهرة لا طبقية. و بتعبير آخر, انهما يؤبدان اللحظة الراهنة لكونهما مناقضتين للثورة والتغيير. انهما ينتصران للدماغ الثاني على حساب الدماغ الأول!

نظرية ستالين في اللغة لا تستدعي الدحض علميا لأنها, كما ورد اعلاه, كانت مجرد تعبيرا عن مشروع شوفيني لتكريس هيمنة اللغة الروسية في عموم الاتحاد السوفيتي. اما نظريات العقل التي تتخذ نموذج الدماغ ككومبيتر مثل نظرية تشوميسكي, فانها تتعرض الآن الى انتقاد علمي شديد من قبل العديد من الباحثين الذين يرفضون نموذج الدماغ ككومبيوتر ويبدلونه بنموذج للدماغ مستوحى من فيزياء الكم.

فقد قرر الآن فريق من الباحثين أنه على الرغم من أن اختياراتنا ومعتقداتنا لا تكون منطقية في كثير من الأحيان أو انها لا تلائم نمطًا ما على المستوى الكلي، على مستوى "الكم"، إلا أنه يمكن التنبؤ بها بدقة مدهشة. في فيزياء الكم، حيث يؤدي فحص حالة الجسيم إلى تغيير حالة الجسيم - كذلك يؤثر "تأثير الملاحظة" على طريقة تفكيرنا في الفكرة التي ندرسها.
How Quantum Cognition Can Explain Humans Irrational Behaviors
https://www.theatlantic.com/health/archive/2015/09/how-quantum-cognition-can-explain-humans-irrational-behaviors/405787/

-عندئذٍ ، وفقًا للإدراك الكمي، "يقامر" العقل بأفكارنا ومشاعرنا وتحيزاتنا "غير المؤكدة" لإنتاج أفكار وأفكار وآراء متنافسة. ثم نقوم بتجميع تلك الخيارات المتنافسة لربطها بواقعنا
"المحدد" نسبيًا. من خلال فحص عقولنا على المستوى الكمي، نغيرها ، ومن خلال تغييرها، نغير الواقع الذي يشكلها.
يمكن أن يؤدي تغيير الاستعارات التي نستخدمها لفهم العالم - وخاصة الاستعارة الكمية - إلى رؤى مذهلة, كما يوضح الفيلسوف التجريبي جوناثان كيتس
Your Brain Isn t a Computer — It s a Quantum Field
https://bigthink.com/ideafeed/does-the-mind-play-dice-with-reason

خطاب تشوميسكي في اللغة -ليس له علاقة جدية بالطريقة التي يتقدم بها العلم-.
A ‘Galilean’ science of language
https://www.cambridge.org/core/journals/journal-of-linguistics/article/abs/galilean-science-of-language1/5134714D7DBAF43A5CBF2F7BE8F0137C

إن الأطروحة التي يقدمها الفيلسوف أونغر تحتوي على الكثير من العناصر الداعمة للديمقراطية وهي تنسجم مع علوم ما بعد الحداثة ( (فيزياء الكم، نظرية الفوضى الرياضية، نظرية الكارثة الرياضية ومنطق غودل Goedel الرياضي)، وبالأخص الأنظمة اللاخطية. تتلخص هذه الأطروحة بأن النظام البديل للنظام الشمولي يجب أن يشجع كل قوى التحدي والابتكار. في المقابل يقوم هذا النظام أيضا بتوفير كل الضمانات والحصانة التامة لهذه القوى، ويضع أيضا تحت تصرفها كل الوسائل المتاحة للتعبير عن نفسها.
Unger, R. M. False Necessity
https://www.fruugo.at/false-necessity-antinecessitarian-social-theory-in-the-service-of-radical-democracy-1-politics-volume-1/p-54231728-109933713?language=en&ac=croud&gclid=Cj0KCQjw_dWGBhDAARIsAMcYuJwnBeKbdnlIiSyuZunpkXUxB3rZK4mQOrt3wGiauq2hePSAzB3LFGEaAsoAEALw_wcB

وفي المحصلة لا يسعني الا ان اتفق مع استنتاج المفكر الشيوعي ميخائيل بيرينتي:
-عندما يبتعد تشوميسكي عن طريقه المعبَّد جيدًا لمعارضة الشركات ويتشبث ب(مهاجمة ) الشيوعية واللينينية، فهو يطلق من الورك بألفاظ مخيبة للأمل وأحيانًا غير مفهومة. يجب أن نتوقع شيئًا أفضل من "رمز اليسار الرائد".-
Michael Parenti - Another View of Chomsky
https://www.reddit.com/r/communism/comments/1w0dtm/michael_parenti_another_view_of_chomsky/