الانحلال السياسي في مصر


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6939 - 2021 / 6 / 25 - 02:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

عالم الاجتماع البولندي، والأستاذ بجامعة "ليدز" البريطانية، الراحل: ”زيجمونت باومان“ (1925 - 2017)، قدَّم فهمه لواقع المجتمعات البشرية المعاصر بأبعاده المختلفة والمعقدة، من خلال ثمانية كتب عن ”السيولة“ في ”الحداثة، الحياة، الحب، الأخلاق، الأزمنة، الخوف، المراقبة والشر“، وشرح في أولها وهو كتاب "الحداثة السائلة" (ترجمة الدكتور حجاج أبو جبر وتقديم الدكتورة هبة رؤوف عزت، من إصدارات الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، مفهوم السيولة الذي يعنيه، بأنه انفصال القُدْرة (أي ما نقدر على فعله) عن السياسة (أي ما يتوجب علينا عمله)، أي تفكك النظم والمبادئ والقيم، وتخلخل الروابط التي كانت تجمعنا بالمواد الصلبة (أي الأخلاق والمرجعيات والقيم). وأن مجتمعاتنا - بحسب تعريفه - انتقلت من مرحلة الإنتاج والتطور وتحكُّم الدولة وكبحها جماح الأفراد لصالح المجموع، إلى مرحلة السيولة التي تخلت فيها الدولة عن هذا الدور، وفتحت الأسواق أمام الرأسمالية الحرة والسوق الاستهلاكية والتحديث المستمر الذي لا غاية ولا هدف له إلا المزيد من الاستهلاك والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات. ويرى باومان أن هذا الترابط الكبير بالمواد الصلبة التي كانت محددة سلفًا، قد أصبح يتبدل ويتغير وفقًا لمصلحة الفرد المتغيرة دومًا، فلم تعد الأخلاق والمرجعيات والقيم الثابته، ثابتة كما كانت أو كما يجب أن تكون.     
بالتأكيد، لو كُتِب لهذا العالم المزيد من الحياة، لكان قد قدم لنا مزيدًا من التشخيص العلمي العميق عن السيولة في مجتمعاتنا، وربما أرجع هذه السيولة إلى ما يمكن تسميته بـ”السياسة السائلة“ أو ”الانحلال السياسي“ الذي حدده عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنغتون في كتابه ”النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة“.
هذا الانحلال أو الاضمحلال السياسي يستشري بشكل وبائي في العديد من دول العالم، خاصة المتخلفة منها، كما هو الحال في دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وبعض الدول الأسيوية، ومن ثم أدَّى إلى السيولة في كل شيء. وقد ظهر بصورة واضحة في مصر مع استيلاء العسكر على السلطة في مطلع الستينات من القرن الماضي، ولم يكن لديهم أية معرفة أو خبرة سياسية، وانعدمت لديهم الرؤية المستقبلية لقيادة البلاد إلى النهوض والرفاهية والحرية، أي أنهم، بحكم ثقافتهم العسكرية الطاغية، يعانون من انفصال ما يَقْدِرون على فعله عمَّا يتوجب عليهم فعله، فأوقعوا البلاد في الانحلال السياسي، دون وعي منهم أو تعمُّد، بل لجهلهم بالعمل العمل السياسي الرشيد، وعجزهم عن القيام به، وإصرارهم الغبي على حماية أنفسهم وبقائهم على قمة السلطة، وإصابتهم بمرض جنون العظمة، مما أدى إلى الوضع الكارثي للانحلال والتفتت والانقسامات الاجتماعية التي راحت تزداد كل يوم مع وجودهم الدائم على قمة السلطة في البلاد، وتسببت في حدوث حالة من التحلل السياسي وانهيار الأخلاق والبعد عن المرجعيات والقيم، فأصبحت الدولة "شبه دولة“، مهددة دائمًا بالانحلال التام.
مثال واحد من عشرات الأمثلة على الانحلال السياسي الذي أصاب الدولة المصرية في مقتل هي الحوادث الكبيرة المتكررة منذ عقود، والتي شهدتها شبكة السكك الحديدية، وراح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى الأبرياء.
أنظر قائمة الحوادث على الويكيبيديا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/قائمة_حوادث_سكك_حديد_مصر
يقول الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه في أخلاق العبيد إن « العامة يحولون العجز إلى ميزة؛ الكذب يحول الضعف إلى ميزة. فالعجز، أي عدم القدرة على رد الضربة بمثلها يصير (طيبة). والسفالة الجبانة تصير تواضعاً، والخضوع لمن يكرهونهم (طاعة). والجانب المسالم لدي الرجل الضعيف، أي جبنه الذي يشكل غناه، وعادة الإنتظار قبل المقابلة، الإنتظار لدى الباب، هذا الجبن يتجمل هنا بإسم رنان هو (الصبر) وأحياناً يسمى فضيلة، والعجز عن الانتقام يصير ترفعاً عن الانتقام، بل أحياناً يعتبرونه صفحاً عن الإساءة - "فهم لا يعرفون ما يفعلونه، نحن وحدنا نعلم ما يفعلون"- يتحدثون أيضاً عن حب الأعداء ويتصببون عرقاً» - من كتاب ” جينالوجيا الأخلاق“
وعلى هذا النحو، بدلا من أن يستقيل (اللواء) وزير النقل الذي لا صلة له على الإطلاق لا بالنقل ولا بغير النقل، أو أن تتم إقالته ومحاسبته بتهمة عدم الكفاءة والإهمال والفشل في الإدارة وفي العمل على تحسين البنية الأساسية للسكك الحديدية، ورفع مستوى كفاءة العنصر البشري فيها، كما يحدث بالضرورة في جميع الدول الصلبة المحترمة، يتم السماح له بالهذيان أمام مجلس النوُّاب، يوم الاثنين 26.04.2021، وإلقاء اللوم على (كبش فداء) ممن وصفهم بالعناصر المتطرفة داخل الوزارة، ويطالب باستبعادهم منها، والزعم بأن استقالته تُعَد هروبًا من المسؤولية، وأن مسؤوليته المزعومة تقتضي منه تكليف (مشايخ) ووعاظ الأزهر لتأهيل وتثقيف العاملين في السكك الحديدية وتوعيتهم بفضائل الديانة الإسلاموية، فينبري من - ناحيتهم - بعض نواب المجلس بالثناء عليه وتعظيمه وتقديره!، وفي 21 يونيو الجاري وقع تصادم قطار بضائع بأتوبيس نقل عمال في حلوان، ما أسفر عن مصرع اثنين وإصابة 6 آخرين، وفي نفس اليوم وقع تصادم آخر بين قطارين بالقرب من محطة مصر الاسكندرية، لم ينتج عنها إصابات بحسب وسائل الإعلام المملوكة للدولة. وعلى إثر ذلك قال الوزير: «إنه لم يجد المعاونة الكافية من قيادات وموظفي السكك الحديدية منذ توليه المنصب» إذن هو الإصرار الدائم من الوزير على إيجاد كبش فداء وتحميله مغبة إهماله وعجزه!
أليس في هذا انحلال واضمحلال سياسي بأجلى صوره!. ولذلك سوف تستمر منظومة حوادث القطارات، والحوادث في كافة المجالات الحياتية الأخرى للمواطنين من الصحة والتعليم والإعلام والثقافة العامة وغيرها.
كيف حدث هذا ولماذا؟
***
بدأ الانحلال السياسي أولا من داخل الجيش وبالجيش، عندما قرر طغمة من الضباط الفاشلين في الصف الثاني التنكر لمهنتهم وقلب نظام الحكم الملكي الدستوري والسيطرة على السلطة في البلاد. ولأن الجيش هو المؤسسة التي خرج منه هذه الطغمة العسكرية للاستيلاء على السلطة، وهو وحده القادر على التعرض لها والتأثير في مجريات عملها سلبًا أو إيجابًا، كان لا بد لأي حاكم عسكري أن يتعامل معه باسلوب يتسم بالمهادنة والرياء، مما زاد من انحلاله، وأضعف من قدراته القتالية، وأبعده تمامًا عن مهامه الأساسية وهي حماية الحدود الخارجية للبلاد، فلم ينتصر قط في حروبه العديدة، باستثناء ”ربع نصر“ في عام 73 كاد أن يتحول إلى هزيمة ساحقة. وفي نفس الوقت كانت تجرى عمليات مستمرة لإضعاف الشعب وإبعاده عن العمل السياسي، ففي أول سنتين من حكم العسكر (1952 - 1954)، وبعدما قاموا بحل الأحزاب القديمة، وقمع التنظيمات السياسية مثل الإخوان المتأسلمين والشيوعيين وغيرهم، حدث فراغ سياسي تام، فوجدوا أنفسهم في حاجة ماسة لخلق نظام جديد يتواءم - بحسب تصورهم - مع ما أسموه آنذاك بـ”العهد الجديد“، وإعتمدوا لذلك مبدئين: الأول هو فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية ووقف العمل بالقوانين المدنية أو إخضاعها لسيطرتهم، والثاني هو الحكم باسم الشعب، وليس بالشعب أو من أجل الشعب، مع أن الوضع الطبيعي هو أن أحدًا لا يملك حق الحكم أو مجرد الحديث بإسم الشعب إلَّا الشعب نفسه. كذلك، وفي نفس الوقت كان لا بد من أن يعملوا كل ما في وسعهم لإرضاء القيادات العليا والوسطى في الجيش، مما أفضى إلى وجود انقسامات وتحزبات مختلفة وولاءات متضاربة بداخله، أدت بالضرورة إلى أضعافه وإبعاده عن مهامه الأساسية.
الطبيعة النخبوية الضيقة لنظام أقلية من هذا القبيل، لا بد وأن
يستند في قوته إلى أساليب أمنية وبيروقراطية، لذلك حاول البكباشي عبد الناصر استغلال هزيمة يونيو 1967 لتقليص الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، بقيادة صديقه وحبيبه المشير عامر، وذلك بتوسيع دور المؤسسة الأمنية والشرطة على حسابها، فقرر إنشاء ”قوات الأمن المركزي“ التي توسّع حجمها سريعاً مع انضمام مئات الألوف من المجندين إليها، بحيث صارت جيشاً موازياً. ولكن بعد إبرام خلفة (السادات) اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، توقف الانضمام إليها تدريجياً لاعتبارها خطراً على الأمن القومي، وبدأت عملية إعادة تعريف ”العدو“ على أساس أنه من داخل الدولة وليس من خارجها، لذلك، وبعد حرب أكتوبر 1973، جرى الاعتماد التدريجي على الجيش في القمع الداخلي، فقمع به السادات الانتفاضة الشعبية في يناير 1977، كما قمع به مبارك التمرد الجزئي لقوات الأمن المركزي عام 1986، وعندما استعان به وزير الدفاع الجنرال عبد الفتاح السيسي لقمع الانتفاضة الشعبية في يناير 2011، لم يغادر المدن وصار لاحقاً الحاكم بامره في البلاد، ومن ثم استعادت مؤسسة الجيش نفوذها السياسي الذي حاول عبد الناصر تقليصه بعد هزيمة 67. فقطعت الطريق على انتفاضة يناير، وأجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي، ليس لصالح القوى الشعبية المنتفضة، بل لصالح مجلسها العسكري الأعلى، ثم تكرر ذلك في 3 يوليو 2013 حين أسقطت الرئيس المتأسلم محمد مرسي وسدت الطرق على انتفاضة 30 يونيو ضد حكم جماعته الإخوانية المتأسلمة، ثم صار على إثر ذلك وزير الدفاع الجنرال عبد الفتاح السيسي هو الحاكم الفعلي للبلاد إلى أن عُيِّن رئيساً بعد أقل من عام، بناء على انتخابات صورية تتم فبركتها كالعادة منذ عهد عبد الناصر.
الانحلال والاضمحلال السياسي يحدث عادة عندما ينفصل ما يقدر على فعله الحاكم والمسؤولون التابعين له عما يتوجب عليهم فعله، فلا يتصدون للمشاكل الحقيقية، ويعملون على حلها بحزم وفي الوقت المناسب وبالوسيلة المناسبة، وذلك بسبب ما ينتابهم من بلادة أو لجهلهم وعجزهم وخوفهم، فالإنسان الذي يجهل عملًا ما يعجز عادة عن تنفيذه، ويخاف من الإقدام عليه، وتتضح بلادته في اللجوء - عوضًا عن ذلك - إلى ابتكار مشاكل جديدة تكون موازية لها لتعمل عن إلهاء المواطنين وتحويل أنظارهم عنها. في فترة الستينات من القرن الماضي، رأى عبد الناصر ضرورة إحداث توازن أيديولوجي بين اشتراكيته المزعومة وما رافقها من تغيرات اجتماعية راديكالية وبين القوى الدينية المتصارعة معه على السلطة، فعمد إلى ضرب الجماعات الإسلاموية المتنامية داخل المجتمع (خاصة الإخوان المتأسلمين)، وفي نفس الوقت قام بتقوية مؤسسة الأزهر وزيادة نفوذها المادي والمعنوي. وعندما حلت السبعينات من نفس القرن، كانت المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد قد تفاقمت وازدادت أوضاع البلاد سوءًا، فقلب السادات سياسة سلفة 180 درجة، واتجه إلى الرأسمالية بأسلوب فوضوي، وعقد العزم على مصالحة دويلة إسرائيل بعد الهزائم المتكررة معها، فكان عليه أن يهادن المتأسلمين في داخل البلاد وخارجها، ليأمن شرورهم، فأضاف لقب ”محمد“ إلى إسمه، فأصبح محمد أنور السادات، ولقب نفسه بالرئيس المؤمن ونادى بأخلاق القرية الغير منضبطة!، وعمد إلى إحداث تغييرات أدت إلى مزيد من الانحلال السياسي في المجتمع، منها:
• أنَّه سمح باسلمة الحياة واختراع ما يسمي بالزي الإسلامي، والاقتصاد الإسلاموي، والبنوك الإسلاموية!
وسمح بنشر الاحقاد وتعميق الخلافات والخرافات الطائفية والعقائدية!
• وعمَّق السيطرة علي مؤسسات الدولة ومنع الحريات وتسلط البيروقراطية، فأصيب المجتمع بالجمود والتخلف ومحو هويته الوطنية!
• وعمل على تدمير الفكر واغتيال المفكرين، وتهميش العلم والعلماء وإفساد التعليم، وانتشار البرامج الدينية وبناء المساجد!
• أفسح المجال لرجال الدين، لتكفير المختلفين معهم والمخالفين لآرائهم، ونشر الخرافة والشعوذة، وعبادة الماضي، وكراهية الإحساس بالجمال والسعادة في الحياة، وعشق القبح والفساد!
• عمل على عُزلة المجتمع وسيطرة الذكورة عليه، وفرزه وتمييزه من خلالا الحجاب والجلباب واللحية والزبيبة والهوس بالانثى وتعدد الزوجات، وظهور الجانب القذر من الديانة الإسلاموية!
راح السادات يتاجر بالوطن وترك المتأسلمين يتاجرون بالدين والجميع يتاجرون لحسابهم الخاص، من أجل تمرير سلام اضطراري مع العدو المزمن للعربات والمتأسلمين!
***
ومع تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وتمدد وانتشار الجماعات الإسلاموية خلال 30 عام، حكم فيها حسني مبارك، بمزيد من البلادة والجهل والعجز والخوف، أصبح الجيش لا يلقي بظلاله العسكرية على النهج السياسي لرئيس الدولة فحسب، بل أصبح - تدريجيًا - هو المشرف والمراقب والمحدِّد الأول لجميع السياسات الجارية في البلاد. بنى الجيش دولته الخاصة داخل الدولة، فأصبح من الصعب إرجاعه إلى مهامه الأساسية.
عقب استلام الجنرال السيسي الحكم، كرّس جهوده من أجل التمكين السياسي والاقتصادي والإعلامي والديني والقضائي والعلمي والثقافي للجيش والعمل على«توليد أقصي قدر من الأرباح للعسكريين وشبكاتهم المختلفة، والمساعدة على خلق طبقة عريضة من العسكر المتقاعدين والعاملين في المنشآت العسكرية والأمنية والاقتصادية والمدنية ومؤسسات الدولة والهيئات الحكومية والأهلية بكاملها»، بحسب مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية في أواخر شهر فبراير 2019، كتبته ”إيمي هوثورن“، نائبة مدير البحوث في مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، بالاشتراك مع ”أندرو ميلر“، نائب مدير قسم السياسة في مشروع ديمقراطية الشرق الأوسط،، بعنوان: « أسوأ من مبارك.. عبد الفتاح السيسي يجلب شكلا جديدا من الحكم الشمولي إلى مصر».
ورأى الباحثات في مقالهما التحليلي أن رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي يدفع مصر نحو حكم شمولي أكثر من سابقه حسني مبارك، وهو بذلك يكرس لمزيد من عدم الاستقرار في منطقة عانت بالفعل من الكثير منه. وقالا إن« السيسي ومؤيديه المتحمسين ادعوا أنه يستعيد الديمقراطية، بينما أمضى السنوات القليلة الماضية متجاهلا الدستور، يحشد السلطة ويقمع بوحشية خصومه الإسلاميين، وأي شخص آخر يشكك في حكمه».
وذهبا إلى حد تشبيه انتزاع السيسي للسلطة بأيام جمال عبدالناصر، معتبرين أنه « يقود مصر إلى مناطق أكثر خطورة من خلال التعديلات الدستورية التي تقوم بترسيخ ديكتاتوريته المشخصنة بشكل رسمي، والتي لا تتوقف خطورتها عند حدود مصر، بل تمتد على المنطقة والعالم». ويوضح الباحثان أنه «على الرغم من أن أنظمة السلطة الاستبدادية المركزية قد تبدو مستقرة - خاصة عندما تكون الشخصية الحاكمة مدعومة من قبل الجيش مثل السيسي - فإنها أكثر عرضة للإنهيار الفوضوي مقارنة بأنواع الأنظمة الأخرى».
كما رأى الباحثان أن «السيسي يريد أن يتغلب على التحديات القانونية أو السياسية لحكمه، من خلال تكريس هيمنته الساحقة في الوثيقة الحاكمة العليا في مصر، حتى وإن كانت بذلك ديكتاتورية ذات غطاء من الشرعية الدستورية أمام الجماهير الغربية المستعدة لتصديق أي شيء». وأكدا الباحثان أن «هذه التدابير ستعمق الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها الطبقة الكادحة، وستضاعف شعورهم بالاستياء من هذا النظام». وتابعا القول:«لا يمكن تجاهل القمع الذي كان قائما في عهد مبارك، لكن الرئيس السابق قام على الأقل بتفويض قرارات معينة، والسماح بمساحة صغيرة للمؤسسات المدنية وجماعات المجتمع المدني المستقلة، وبناء قاعدة متنوعة إلى حد ما لنظامه، ممّا ساعده على البقاء في السلطة لمدة ثلاثين عاما قبل أن يلاحقه القمع والفساد، بينما السيسي ينشئ نظامًا أكثر ديكتاتورية وأكثر خنقًا، وأضيق في قاعدته للدعم، وفي نهاية المطاف أكثر هشاشة. وباعتباره لمبارك أنه كان متساهلا للغاية، فقد وضع السيسي هيئات مدنية مثل البرلمان والجامعات تحت السيطرة الكاملة للأجهزة الأمنية التي ملأها بالمواليين له».
وقالا: «لقد سحق كل الأنشطة السياسية المستقلة وعطل سيادة القانون، وعاقب بشدة أي شخص يجرؤ على الخروج عن الخط. وبعد الاستغناء عن شبكة المحسوبية من رجال مبارك، من الحزب والأعيان، ونخبة رجال الأعمال، يحكم السيسي من خلال زمرة صغيرة من رجال الجيش والمخابرات (بما في ذلك أبناؤه)».
يمكن الاطلاع على المقال كاملًا (بالإنجليزية) على الرابط التالي:
https://foreignpolicy.com/2019/02/27/worse-than-mubarak/
ولكي تظل مؤسسة النخبة العسكرية على قمة السلطة في البلاد وتحافظ على مكاسبها المادية والمعنوية أطول وقت ممكن، عمدت إلى تجديد الوضع الانتقالي لطبيعة السلطة مع كل ”انقلاب“ جديد تقوم به. بدءًا بانقلابها الأول على الملك فاروق، وانتقال السلطة منه إلى ولي عهده، ثم الانقلاب من الملكية إلى الجمهورية، ومن البرلمانية الحزبية إلى حكم الفرد بزعامة البكباشي عبد الناصر، ثم الانقلاب عليه من قبل البكباشي أنور السادات (ثورة التصحيح)، وبعد إزاحة مبارك توالت الانقلابات وتسارعت وتيرتها بهدف مّدِّ شرعية حكم العسكر والانتقال به من مرحلة إلى أخرى.
وفي غضون 69 تميَّز حكم الأقلية العسكرية، بخصائص عدة، أفضت إلى الانحلال السياسي للدولة، أهمها الكراهية الشديدة للعلم والعلماء الحقيقيين، وترك منظومة الخرافات والشعوذة والكذب تتفشى في المجتمع، واتباع سياسة التمييز والازدواجية. إن العسكر كأقلية حاكمة ذات ثقافة تعليمية خاصة، وجهل تام بالتاريخ والعلوم السياسية، ليس باستطاعتهم سوى اللجوء إلى أبسط أساليب الحكم وهو احتكار بيروقراطية الدولة لأنفسهم، والمسك بجميع خيوطها بأيديهم، الأمر الذي أدَّى إلى تقويض سيادة القانون، فاصبحت السياسة ببنودها المختلفة نهبًا لأهوائهم وأمزجتهم، مما جعلها تتسم بالتناقضات وسوء التنسيق بين مكونات الدولة، والنتيجة الحتمية هي أن موظفي الدولة الذين يقدمون خدماتهم للجمهور، اصبحوا يكرهون الناس كرهًا جمَّا ولكنهم يحبون أموالهم حبًّا لمَّا، ويأكلون ما في جيوبهم أكلًا تاما، وأصبحت متلازمة التناقض بين كراهية الناس والشبق للمال تحكم علاقة المواطن بالدولة، والمواطن بالمواطن، والدولة بالمواطن. وهنا لا بد أن يخطر بذهننا أغبى مقولة للرئيس السادات عن سياسته الانفتاحية السداح مداح، هي: « من لا يغتني في عصري لن يغتني أبدًا»!
عجز العسكر عن تحقيق أدنى عدالة اجتماعية من خلال الإنجازات التي قدموها منذ بداية سيطرتهم على السلطة في البلاد، لأنها لم تتوزع بشكل عادل ومتساوٍ على الشعب، فنشأت فروق رهيبة بين إدارة المدن وإدارة الأرياف وتعامل مميَّز مع الأغنياء والفقراء من الشعب، بالإضافة للنهج الفوقي المتعالي الذي تسبب بضرر مباشر للمواطنين في حياتهم اليومية، فأصبح على المواطن العادي أن يدفع الرشاوى أو يبحث له عن وسائط نافذة في الدولة، وهي في الغالب رتب عسكرية كبيرة، لقضاء حاجته لدي البيروقراطيين الجدد!
كذلك من ضمن تلك الخصائص إتباع سياسة الإهمال والاستفزاز، و السيطرة المفرطة في الحكم، مما يتسبب في إصابة المسؤولين بالغباء وانعدام البصيرة، مما يضعف قدرتهم على معرفة الديناميكيات الداخلية للمجتمع. فالسياسة عملية ديناميكية تنطوي على التعبير والتفاوض والنزاع. إن منظومة السيطرة القوية والمحكمة والشديدة التعقيد التي فرضها عبد الناصر منذ ما يقرب من سبعة عقود مكنَّت أصابع العسكر من التغلغل في جميع جوانب المجتمع وإحكام القبضة الأمنية على هياكل السلطات القضائية والتنفيذية وقمع التيارات السياسية وتتضيق المجالات العامة، فلم يتبقى للمواطن البسيط سوى الاستغاثة بالرئيس الأوحد كي يتدخل لنجدته وحل مشاكله، أو يرتكب جريمة ما!