جورج حاوي: شغور الدور والموقع


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 6933 - 2021 / 6 / 19 - 09:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     



إلى روح جورج حاوي في ذكرى استشهاده
...كنت أعتقد أن نشاطي في إطار الحركة الشعبية الديمقراطية بمثابة التزام بقرارات المؤتمر السادس للحزب. فقد دعت الوثيقة الصادرة إلى البحث عن صيغة لتجميع القوى الشعبية، فاستخدمت الإسم حرفياً لتكون رافعة استنهاضية بعد أن باتت الأطر اللينينية عاجزة عن القيام بأعباء الخروج من الحرب وإعادة بناء الوطن والدولة. عندما قرر حبيب صادق حلها، رحت أحاول من داخل الحزب، مع سناء أبو شقرا ومع كمال حمدان، كل على حدة، ليتولى أحدهما الأمانة العامة للحزب، ولم يكن ذلك انتقاصاً من قيمة أو قدرات وكفاءات سواهما من أعضاء القيادة، فمعياري في هذا المسعى هو البحث عن إسم يحوز الإجماع ليكون أداة لتجميع الشيوعيين ولم شمل الحزب.
البحث عن رمز حزبي يحظى بالإجماع بدا طوباوياً، لأن ظاهرة التشرذم كانت ناجمة عن تباينات وانقسام في الرأي على قضايا سياسية غير واضحة المعالم آنذاك، لكنها تجلت في صراع بين قيادة قاصرة عن إدارة أزمة الحزب وفريق من المعارضة منتظم في حركة اليسار الديمقراطي، وكلاهما يبحث عن حلول تنظيمية للأزمة لا عن حلول سياسية. أما المنظمات الحزبية فقد خيم عليها جو من الشكوى والتذمر مما آلت إليه أوضاع الحزب، حاول كل من طرفي الصراع في القيادة توظيفه لصالحه، وكانت القيادة فيه هي الأقوى.
استمر رهاني على التجميع قائماً فتوجهت نحو جورج حاوي الذي كان قد استقال من الأمانة العامة. لأول مرة أطلب منه موعداً ولأول مرة ألتقي به بمفردي لأطالبه بالعودة إلى ممارسة دور قيادي، لعله بذلك يساعد على وقف المسار الانحداري الخطير الذي يمر فيه الحزب، بسبب صراعات مغلوطة أغرقته القيادة في خضمها وتاهت عن الأسباب الحقيقية لأزمات اليسار والحزب والوطن، ولا سيما أن السعي لتشكيل حركة شعبية هي من بنات أفكاره ولا بد أن يكون الأقدر على تفعيل نشاط الحزب لتحقيقها.
قد يقول قائل، لو كان يرغب بالعودة لما استقال. أعتذر من رفاق تولوا إدارة الحزب من بعده وأحفظ لهم كل الود والاحترام على الصعيد الشخصي، لأقول إن موقع جورج حاوي بقي شاغراً ولم يستطع أحد من بعده الحلول محله أو القيام بدوره. كان كتلة من نشاط ومنبع مبادرات، رؤيوياً بعيد النظر، وواقعياً ذا قدرة على التكيف وعلى استخلاص العبر ونقد الأخطاء، وكان كمن يقود سيارة وينظر في مرآتها إلى الخلف، أي إلى الماضي لكي يحسن السير إلى الأمام، على ما قال لجيزال خوري في إحدى مقابلاته. لم يكن حامل شهادات لكنه كان مثقفاً كبيراً، ولا أبالغ في القول أنه لم يكن يقدم أمام اللجنة المركزية أفضل تحليل سياسي فحسب، بل أفضل تقرير نقابي وأفضل تقرير عن قطاع المثقفين. قلت لأحدهم مرة إنكم تنتظرون اجتماع المكتب السياسي لأن جورج آت من جولته الخارجية وفي جعبته أخبار كثيرة، فعلق قائلاً هذا صحيح، لكنه سيقدم أيضاً فور وصوله تقريراً مفصلاً عن الوضع الداخلي في لبنان.
أذكر أنني عينت عضواً في لجنة الصياغة المنبثقة عن المؤتمر الرابع، وكنت حديث العهد في الحزب إذ لم يكن قد مر على انتسابي غير بضع سنوات، في أول اجتماع للجنة رأى كريم مروه ومهدي عامل أن تقتصر مهمتي على قراءة النصوص بعد أن يكونا قد ركزا على تدقيق مصطلحاتها وأنجزاها في صيغتها النهائية. كنت كلما أحيل إلي منهما مقطع أو فصل، أقارن بينه وبين مرجعه في مشروع الوثيقة، وكنت أعيد الصياغة لتكون أقرب إلى النص الأصلي، باعتباره أيسر منالاً من تلك الصياغات المدققة والمختارة بعناية. اكتشفت أن عضويتي في اللجنة كانت على سبيل التشجيع أو نوعاً من التكريم على نشاطي الحزبي، فانسحبت من دون شكوى ومن دون أن أسأل عن السبب. بعد اطلاعه على ما حصل علق جورج قائلاً كلما بعثت اللجنة إلى محمد علي نصاً يعيده إليها بصيغته الأصلية. كنت أعيد النصوص إلى شكلها الأول من غير أن أعرف أن كاتبها هو جورج حاوي. كان كلامه مفهوماً من غير شروحات، فيما كان كريم ومهدي حريصين على تحصين النصوص ضد نقد المصطادين في الماء العكر وضد المتربصين لما يصدر عن الحزب الشيوعي من مواقف.
لم تكن تعنيني منهجية البحث ومنهجية الكتابة في حينه، أي في أول الثمانينات. بعد أن عاد جورج حاوي من الاستقالة إلى رئاسة المجلس الوطني (اللجنة المركزية)، في التسعينات، سألني ذات مرة، على انفراد، بعد أن كان قد استمع إلى العديد من مداخلاتي، عن المواد التي أحاضر فيها في الجامعة، ذكرت من بينها منهجية البحث، فعلق قائلاً الآن فهمت لماذا تركز في مداخلاتك الحزبية على منهجية التفكير أكثر من تركيزك على الأفكار في حد ذاتها. نعم هي ملاحظة شخص حاد الذكاء. أما القيادة التي كنت أنتقد تقاريرها الحزبية، فلم تلاحظ أنني كنت آخذ على تلك التقارير اكتفاءها بتجميع الأفكار والمعلومات وعدم قدرتها على توظيفها، كما كان يفعل جورج، في تركيب معادلات صحيحة واستخلاص مهمات. نعم، كنت أقرأها كما أقرأ رسالة جامعية، وأطبق عليها معاييري الأكاديمية، ومن بينها أن غزارة الأفكار لا تغني النصوص إن لم تكن ممسوكة بمنهج تفكير واضح يعرف كيف يتدرج بالمعلومات إلى خلاصاتها المنطقية ولا يكتفي برصفها من غير منهج.
كنت أرى أن التقارير الصادرة عن القيادة ذات هوية شيوعية واضحة لا يرقى إليها الشك، لكثرة ما يرد فيها من أفكار عن الصراع الطبقي والطغمة المالية والطغمة الحاكمة والنظام الطائفي وغيرها من المصطلحات اللينينية ومن المعلومات السياسية المرصوفة رصفاً بمنهج كتابة صحافية تكتفي بعرض المعلومة دون تحليلها. أما تقارير جورج حاوي حين كان أميناً عاماً فكانت تشكل مادة تثقيفية للشيوعيين، لا على صعيد الممارسة (البراكسيس) بل حتى على الصعيد النظري والفكري. كان مثقفاً كبيراً قادراً، من غير شهادات ولا ألقاب، على عرض التناقضات والتعارضات والتقاطعات والمتوازيات في المواقف السياسية كأنها لعبة أو puzzleيفككها ويعيد تركيبها كل مرة في شكل جديد. لهذا كان شخصاً مقنعاً. كنا حين يستعصي علينا إقناع رفاقنا بأمر معين، كتعزيز العلاقات مع الثورة الفلسطينية في ذروة تجاوزاتها مثلاً، نستعين به في الجمعيات العامة لإقناعهم بأن قدر حماية القضية الفلسطينية يستوجب أيضاً حماية الثورة بعجرها وبجرها.
وافق جورج حاوي على العودة إلى صفوف القيادة آملاً في أن توفر هذه الخطوة ظروفاً أفضل لتحقيق رغبته في انفتاح الحزب على حركة شعبية لبنانية على الصعيد الوطني بدأت تتشكل بعد الطائف. القيادة التي انتخبته رئيساً للمجلس الوطني وانتخبت فاروق دحروج أميناً عاماً خيبت ظنه، لأنها اختارت أن تغرق وتغرق الحزب معها بصراعات ذات طابع تنظيمي داخلي بين المطالبة بإدخال تعديلات ديمقراطية على النظام الداخلي والخشية من أن تؤدي تلك التعديلات إلى تفتيت الحزب، فيما كان هم جورج حاوي يتركز على إخراج الحزب من قوقعته الداخلية ليقتحم به حالة جماهيرية واسعة أخذت تتنامى على أساس الوطنية اللبنانية المعادية لكل وجود غير لبناني، صديقاً كان أم عدواً. دفعته خيبة الأمل إلى الاستقالة هذه المرة من موقعه في رئاسة المجلس الوطني واستمر يناضل كواحد من أعضائه.
مع استقالته الثانية بدأنا حلقة جديدة من حلقات التجميع ولم الشمل. قضت الخطة أن نبدأ بتجميع المعترضين في قيادة الحزب وفي قواعده ولا سيما في الجنوب. عقدنا عشرات الاجتماعات التحضيرية الضيقة بحضور جورج حاوي والياس عطالله ونديم عبد الصمد وطانيوس دعيبس وشفيق شعيب وأديب نعمة وسناء أبو شقرا وسواهم من القيادة، وجمعيات عامة بحضور بعض هؤلاء، منها واحدة عقدت في الباحة الخارجية لمنزلي في جرجوع أعلن المجتمعون فيها قيام تجمع للشيوعيين المعترضين تحت إسم قوى التجديد والوحدة، مهمته تأمين إطار يشجع الشيوعيين المحتجين على البقاء داخل الحزب ويحول دون انسحابهم أفراداً أو منظمات بكاملها من التنظيم الحزبي، ويعمل على تحصين وحدة الحزب من جهة وتكريس إطار ديمقراطي يتسع للتنوع داخل الوحدة من جهة أخرى.
كانت قيادة الحزب تنظر بعين الريبة إلى اجتماعاتنا وذلك بسبب مشاركة الياس عطالله فيها، ولاسيما أنه أعلن عن تشكيل حركة اليسار الديمقراطي داخل القيادة ببيانات متتالية وراح ينشط في قواعد الحزب لتجميع مناصريه في إطار مستقل عن قوى التجديد والوحدة التي شارك في اجتماعها الموسع الأول ولم يشارك في الاجتماع الثاني الذي تولى ماجد مقلد خلاله، وهو من كادرات حركة اليسار الديمقراطي، شن هجوم عنيف على جورج حاوي متهماً إياه بتخريب الحزب.
كشف لي ذاك العنف غير المبرر في الاجتماع عن أسباب قديمة وجذورعميقة للصراع داخل الحزب وهي تعود إلى منتصف الثمانينات، وبالتحديد إلى ما بعد ذاك الاجتماع الشهير للجنة المركزية الذي تقرر فيه العمل على بناء "حزب من طراز جديد". بدا لي أن مجيء ماجد من بيروت لحضور اجتماع جنوبي لم يكن له من غاية سوى نبش تلك الأسباب لتخريب أي محاولة لتجميع قوى المعارضة، حتى يتسنى لحركة اليسار الديمقراطي أن تبقى ناطقاً وحيداً باسمها. فما الذي حصل قبل حوالي عشرين عاماً واستمر يجرجر منذ ما قبل المؤتمر الخامس؟
عدت بالذاكرة إلى الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر السادس التي بدأت تشن فيها حملة على جورج حاوي مبررها الظاهري تحميله المسؤولية عما آلت إليه علاقات التحالف مع النظام السوري. أما الأسباب الحقيقية فتعود إلى طريقة تنفيذ القرار المتعلق ببناء "حزب من طراز جديد"، التي قضت بتعيين مسؤولين في الهيئات الوسطى تم اختيارهم من قادة الفصائل العسكرية العاملين في المقاومة الوطنية بإمرة الياس عطالله واستبعاد القيادات السابقة، ما عدّه جورج حاوي بمثابة انقلاب أبيض على سلطته في الحزب، فاستدرك الأمر بعد المؤتمر الخامس ورد على "الانقلابيين" باستبعاد الياس عطالله من قيادة المقاومة و"تهجيره"، بحسب تعبير ماجد مقلد، إلى موسكو ثم وضعه في ما يشبه الإقامة الجبرية في أحد مراكز الحزب في منطقة الجبل، عقاباً له على عودته من موسكو خلافاً لقرار الحزب.
انتقل هذا التوتر من مؤتمر إلى آخر. في المؤتمر السادس تجلى في صراع بين تيارين أحدهما بقيادة الياس عطالله ومعه عدد من أعضاء المكتب السياسي والآخر بقيادة جورج حاوي ومعه أغلبية أعضاء اللجنة المركزية. دامت الأعمال التحضيرية طويلاً وصدر عن المؤتمر وثيقة في غاية الأهمية وانتهى بتسوية تنظيمية قضت بمضاعفة عدد أعضاء اللجنة المركزية لتتسع للأعضاء القدامى ولأعضاء جدد ممن ترغب المعارضة الحزبية بضمهم إليها. وانتخب جورج حاوي أميناً عاماً وفاروق دحروج نائباً للأمين العام. غير أن الصراع تجدد داخل المكتب السياسي وحال دون الالتزام بالمضمون السياسي لوثيقة المؤتمر، ما دفع جورج حاوي إلى الاستقالة من الأمانة العامة.
في المؤتمر السابع، لم يترشح جورج حاوي للهيئات القيادية وتم انتخاب فاروق دحروج أميناً عاماً بالإجماع، فقلصت حركة اليسار الديمقراطي اعتراضاتها وحصرتها في الشأن التنظيمي وأعلنت عن نفسها في بيان وزعته على المؤتمرين طالبت فيه بإدخال تعديل على النظام الداخلي يشرّع وجود تيارات داخل الحزب. كان لذلك البيان آثار سلبية عديدة، لأنه جعل القيادة تركز جهدها على منع الرأي المختلف من الانتظام تفادياً لاحتمالات الانشقاق غير المحمودة في تاريخ الأحزاب، وفرض عليها أن تختزل أزمة الحزب في جانبها التنظيمي، بحيث تضاءل النقاش السياسي داخل الهيئات وتضاءل معه النتاج الفكري المكتوب، ولا سيما بعد اغتيال مهدي عامل وحسين مروة، وانحصرت هموم الحزب كلها في تعداد المنتسبين وتنظيم الحصول على البطاقة الحزبية وإعداد لوائح الشطب لمنع حركة اليسار الديمقراطي من التمدد داخل المنظمات الحزبية.
اكتشف جورج حاوي أن استنهاض الحزب من خارجه أمر صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلاً. عاد في المؤتمر الثامن إلى صفوف القيادة رئيساً للمجلس الوطني ليكتشف أيضاً أن محاولات كثيرة مشابهة طمحت إلى بناء يسار جديد أو إلى تجديد اليسار ولم تصل إلى مبتغاها لأن نجاحها متوقف على مشاركة الحزب الشيوعي فيها. فضلاً عن التجربة التي قمنا بها بالتعاون مع حبيب صادق في الحركة الشعبية الديمقراطية، كانت قد عقدت لقاءات عديدة جمعت كادرات من الحزب ومنظمة العمل الشيوعي وتوصلت إلى الخلاصة الشهيرة التي أطلقها جوزف سماحة بقوله، لا يمكن تجديد اليسار ولا بناء يسار جديد من دون الحزب الشيوعي ولا يمكن تحقيق ذلك بهذا الحزب الشيوعي.
لم يتبدل مضمون الصراع داخل الحزب، إذ صار الهم التنظيمي طاغياً، ولم نتمكن بوجود جورج حاوي ولا بغيابه من إحداث أي تغيير أو تعديل على جدول النقاش في اجتماعات المجلس الوطني، وبدا المكتب السياسي عاجزاً عن معالجة الأسباب السياسية للأزمة بل حتى عن إدارة النقاش حولها، فخلا نشاط الحزب من أي مبادرة وطنية وتراجع دوره من طرف فاعل في الحياة السياسية إلى طرف هامشي. في المقابل ظل جورج حاوي حاضراً في الحياة العامة بصفته الشخصية لا بصفته ممثلاً للحزب، ما دفعه إلى الاستقالة من رئاسة المجلس الوطني ثم الانسحاب تدريجياً من الأطر التنظيمية للحزب.
في المؤتمر التاسع قدم جورج رسالة ودع فيها التنظيم الحزبي ووعد بالبقاء وفياً للحزب ونضالاته وتضحياته ومبادئه، متعهداً بتوظيف إمكاناته الشخصية ونشاطه وانخراطه في الحياة العامة في صالح الحزب. وفي المؤتمر التاسع تمكن فريق القيادة من استبعاد حركة اليسار الديمقراطي والفوز بأغلبية ساحقة، باستثناء بضعة عشر رفيقاً لم يكن يجمعهم إلا الاعتراض على نهج القيادة في إدارة شؤون الحزب. كنت واحداً منهم وصرت أذيّل مقالاتي الصحافية بعبارة عضو معارض في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني. في هذا المؤتمر انتخب خالد حدادة أميناً عاماً.
جورج حاوي هو الذي حفزني على القراءة النقدية لنهجنا ولفكرنا. إن أنس لا أنسى أنه، خلال الأعمال التحضيرية للمؤتمر السادس قدم مطالعة تتضمن قراءة نقدية لنظرية التراكم الكمي والتحول الكيفي وإشارة إلى التغييرات البنيوية في تكوين الطبقة العاملة، وإلى ضرورة شحن مصطلح الثورة بمعان جديدة، إذ لم يعد يفيد بقاؤه مرادفاً للعنف والدم، فهو ينطوي أيضاً على دلالات الابتكار والتجديد في العلم وفي الفن وفي كل مجالات الإبداع.
حين اقترحت على المجلس الوطني ضرورة إلغاء مصطلح "الفلاحين" من عبارة حزب العمال والفلاحين الواردة في خطابنا، وبررت ذلك بأن الفلاح الذي عناه ماركس أو لينين لم يعد موجوداً، وأنه تحول في بلادنا إلى مزارع أو عامل زراعي، سقط الاقتراح بالتصويت من غير نقاش. يومذاك تضامن معي جورج حاوي وسألني عن المواد التي أقوم بتدريسها في الجامعة. في المؤتمر التاسع خرج جورج حاوي من الحزب وشعرت أنني لن أجد من يتضامن مع أسئلتي النقدية في غيابه.
نعم، المؤتمر التاسع كان نقطة التحول الحاسمة في حياة الحزب. خروج جورج حاوي يعني بداية الخواء السياسي، خصوصاً أنه تزامن مع تراجع دور الشيوعيين في الحقل الثقافي وفي مجال الكتابة البحثية والصحافية. باعتراف رفاقه في ما كان يسمى "القيادة التاريخية"، كريم مروة وغسان الرفاعي وجورج بطل، كان كتلة من النشاط والمبادرات داخل الحزب وفي علاقاته التحالفية وفي نضاله الجماهيري، ومحفزاً على الابتكار والتجديد. مع استقالته الثانية شعرت أن الحزب فقد منبع الحيوية في الحركة السياسية والحافز على النتاج الفكري و القدوة في جرأة النقد والنقد الذاتي.
كان حضوره طاغياً في حياتنا الحزبية. كنا، على اختلاف مواقعنا التنظيمية ومستوياتنا الفكرية، نشعر بذلك ونحدس به من غير أن نعرف بدقة ماذا تعني لنا الكاريزما القيادية. لكنني صرت أدرك أكثر فأكثر دوره الاستثنائي في بناء نهضة الحزب، بالتزامن مع نمو المنحى النقدي في قراءاتي وأبحاثي الذي كان هو واحداً من محفزيه، ولذلك شعرت بوطأة غيابه بعد استقالته من الأمانة العامة، فسعيت لأول مرة إلى اللقاء به وطالبته بالعودة. بعد رسالته الوداعية توطدت علاقتي الشخصية به وتكثفت لقاءاتنا، وكم من مرة كان يفاجئني بزيارة في منزلي في جرجوع أو في صيدا من غير موعد، وهو في طريق عودته من مهمة أو لأرافقه في زيارة سياسية في إحدى قرى الجنوب.
قصدني ذات مرة ليستطلع رأيي بجدوى مسعى قد يقوم به لإقناع معمر القذافي بتقديم مساعدة كبرى لمنطقة الجنوب تكون بمثابة "دية" لإنهاء قضية اختفاء الإمام موسى الصدر. نصحته بألا يفعل لأن عقل الرعاع لن يتقبل ذلك، وإن كان مصراً فعليه أن يتسلح بموافقة نبيه بري، ولست أعلم إن كان قد استشاره في الأمر. وقصدني مرة ثانية ليسأل عن جدوى شعار الجدار البشري لحماية العراق من الهجوم الأميركي، قلت له، وماذا سيكون مصير الجدار فيما لو انتصر صدام حسين؟ هذان نموذجان مما أسماه المجدفون "نطنطة وبهلوانية" في المواقف. كان أحياناً يناور بمثلها ويرميها بوالين اختبار أمام سامعيه. من أسف، لم يكن أحد منا بقادر على مجاراته في الحيوية والنشاط وغزارة المبادرات.
غيابه الأخير بعد اغتياله أيقظ في داخلي كل هذا الذي كان غامضاً فرثيته بكلمة وجدانية نشرتها في جريدة السفير ثم بمقالتين بعنوان مقطع من وصية لم تكتب، تخيلته فيها واقفا يدافع عن أفكاره ومواقفه ولا سيما عن نطنطاته. سأورد مقاطع طويلة منها لأنني لم أعبر فيها عن مشاعري فحسب، بل وصفت الظروف التي مهدت لتنظيم اعتراضنا على نهج القيادة في أطار حركة الإنقاذ في الحزب الشيوعي اللبناني. قلت في رثائه، وعلى لسانه في الوصية الافتراضية، ورداً على منتقديه:
"قيل أنني كنت قادراً على قول الشيء ونقيضه وعلى فعلهما أيضاً، وسماه البعض تقلباً في المواقف ونطنطة وبهلوانيات، لا يستطيع أن يقلدني فيها أو أن يلاحق تبعاتها، لأن هذا البعض يجهل أن الشيء لا يوجد إلا بنقيضه. هذا ما كنت أفهمه من الماركسية، وهذا ما قاله مهدي عامل عن وحدة الأضداد أو عن التناقض من داخل الوحدة. ولأن هذا البعض من رفاقي المناضلين، المناضلين حقاً، كان ذا نظرة أحادية، لم أتردد بنعتهم بالأقزام. هذا مثال على "النطنطة "، أقزام ومناضلون، اعتذرت منهم لأنهم مناضلون، وأصر على وصفهم بالأقزام لأن على القيادات أن ترى بعين التاريخ وأن تتعلم العبرة من الحشد الذي شيعني في مأتمي.
ربما يكمن خطئي في كوني رسمت صورة للقيادة لم يستطيعوا أن يقتدوا بها، أو أنني قدمت نموذجاً للأمين العام لم يتمكنوا من استنساخه أو تقليده، أو أنهم تضاءل همهم وصغرت عزائمهم ولم يقرأوا قول المتنبي، على قدر أهل العزم تأتي العزائم ، فضاقت ساحات نضالهم، وضاقت، بفعل ذلك، فسحة الأمل الشيوعي فتفرق الرفاق وتشتتوا وتبعثروا، وظلوا على ضفاف الحزب ينتظرون، فهل كان عليهم أن ينتظروا موتي لكي يجتمعوا؟ لكن ما هو ذنبي في ذلك؟ ما ذنبي إذا كانوا هم قاصرين عن النطنطة، أي عن قراءة التاريخ على ضوء الجدل الماركسي، وعن رؤية الشيء بوجوهه المتعددة، وأذا كانوا مصرين على خوض المعارك فعلياً في ساحاتهم الضيقة، في الخندق الواحد ضد رفاقهم الشيوعيين وضد حلفائهم الطبيعيين وحلفائهم المحتملين، والاكتفاء، في معاركهم الكبرى ضد الاستعمار والصهيونية والامبريالة، بشعارات يتسترون بها ويستقوون بها على "خصومهم" في الحزب والقوى اليسارية والديمقراطية؟
مع ذلك، أجدد اعتذاري منهم وأجدد أملي في أن يتعافوا، ليتعافى الحزب من تلك القراءة المبسطة لعلم التناقض، وأملي في أن يستنهض الشيوعيون حزبهم ويسارهم وقواهم الوطنية والتقدمية من أجل إخراج الوطن من محنته وإعادة بنائه بما يليق بكل المناضلين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بلم شمل الشيوعيين الذين هم وحدهم المؤهلون لجمع شمل اليسار.
نعم أيها الرفاق صارت تكتيكاتي مثيرة للجدل التافه في ظل أزمة الحزب، أما في عزه فهي التي صنعت عزه. من موقع حرصي على الحزب، أنا الذي قلت لو اختلف حزبي مع كمال جنبلاط لوقفت غير متردد مع كمال جنبلاط ضد حزبي. وأنا الذي قلت لو خيروني بين الانتصار بدون جنبلاط والهزيمة معه لاخترت الهزيمة.
أنا الذي بذلت ما أملك وما لا أملك من أجل القضية الفلسطينية، كنت أفعل ذلك وأنا أقارع أي نهج خاطىء يتبناه أبو عمار، كنت أقارعه من موقع الصديق والحليف، وكم سقط لنا شهداء في هذه المقارعة. وأنا الذي خاطبته بقائدي ومعلمي وهو الذي اقترف مع الأصولية المحلية بحق حزبي مجزرة طرابلس. وأنا الذي كنت أنادي بالوحدة الفورية مع سوريا يوم كان النهج الأمني السوري يضيق الخناق على المقاومة الوطنية، وأنا الذي رفعت شعار عزل الكتائب ثم كنت أول من زار جعجع في بيته. وأنا الذي أوقفت، باللغة التي فهموها، حملات العنف التي مارستها الوصاية والأصولية ضد الحزب، ثم دعوت إلى وحدة المقاومين.
هذه ليست نطنطة، إنها فن قراءة التناقضات وفن إدارتها. يقال أنه لا يوجد في السياسة عدو دائم وصديق دائم، لكن أحد وجوه هذا الكلام يرقى إلى قلة الأخلاق، وأنا أجلّ حزبي عن ذلك ولم يكن هذا القول دليلي ومرشدي في ما كنت أمارسه، بل كنت أستند إلى نظرة أخرى في قراءة التناقضات.
في السياسة كل طرف يمكن أن يكون حليفاً لك في أمر وخصماً في أمر آخر. الثورة الفلسطينية كانت على الدوام، حليفاً في مواجهة الصهيونية، وهي كانت خصماً دائماً في موقفها من الوضع اللبناني وفي سلوكها التنافسي على قيادة حركة التحرر الوطني العربية. سوريا حليف دائم في مواجهة الإمبريالية، ولو بأسلوبها الذي قد لا نوافقها عليه، وخصم في ما يخص إدارة الشأن اللبناني. وما كنا نسميه اليمين اللبناني كان خصماً في موقفه من القضية الفلسطينية ومن استدراج الوصاية السورية ومن عملية الإصلاح السياسي الداخلي، لكنه حليف في دفاعه المستجد عن الديمقراطية في مواجهة الوصاية.
كنت سريعا جداً في الصفح عمن يسيء إلي، وسريعاً جداً في معاودة الخصومة معه، ولم يكن ذلك بسبب التقلب في المواقف، بل بفعل الاحتكام إلى قوانين الصراع إياها، أي في تحديد التناقض الأساسي الذي لا يمكن أن يكون هو ذاته في كل الظروف والأحوال. هذا ما فعلته قبل موتي بساعات يوم انتصرت لحركة اليسار الديمقراطي في الانتخابات النيابية، وأنا أعرف أكثر من سواي كم أساء لي شخصياً وللحزب أعضاء في هذه الحركة قبل تأسيسها وبعد تأسيسها، لكن الصفح عنهم لم يكن من قبيل "الهبل" الأخلاقي، بل من قبيل وضع المعركة الانتخابية في سياقها الصحيح وفي إطار الظروف السياسية التي جرت في ظلها.
*****
أنا لم أمت. أنا ما زلت أسرج خيلي وأثير الزوابع في الساحات. أنا مازلت أصهل في الغابات، وهم إن حوّلوا الغابات إلى صحارى فهل يكون الذنب ذنبي؟
أنا ما زلت فيكم أيها الشيوعيون، أيها اليساريون، أيها التقدميون، ما زلت أنبض في قلوبكم، أنتم الذين لويتم عنق الأعداء وعلى أيديكم انشق فجر الأمة والتحرير.
أنا الذي هزمت أعدائي الكبار وعصيت على الموت عشرات المرات، وما مت إلا حين صار أعدائي صغاراً. أنا محوت الطائفية من القواميس وجعلت الكون مسرحاً لأحلامي وفرشت على تاريخ الأمة هالة من مجد.
أنا الذي جبت العواصم لأجمعها كالأصابع في قبضة الخطيب على المنابر، وهم حولوا العواصم إلى مرتع للصوص.
أنا الذي قارعت الامبريالية بشجاعتكم، وهم تفننوا في استدراجها إلى غرف نومهم. وليس الذنب ذنبي.
أنا الذي آليت أن أجمع الأضداد داخل الوحدة، على خطى ماركس، والأضداد هي التي أبت أن تجتمع. من مشرق العرب إلى مغربه، من محيطه إلى خليجه، من دمشق و بغداد إلى الجزائر ومن بيروت إلى عدن حملت حبل الوحدة ليعتصموا به، وهم الذين قطعوه. فما ذنبي؟ من الصين وفيتنام إلى كوبا ومن قلب أوروبا إلى مجاهل أفريقيا رفعت راية التقدم وحملت كتب ماركس وفراسة لينين وفروسية غيفارا، وهم خانوا رسالتي. فما ذنبي؟
أنا الذي محوت المتاريس بين الطوائف في لبنان، أنا الذي قرعت أجراس الكنائس وأشعلت المنابر في الحسينيات ورفعت عن الأديان أدران التحجر وجعلت حزبي جامع الشمل وموحد الوطن، وهم الذين يشقونه كقالب الحلوى. فما ذنبي إذن ؟
لم يقتلوني، قتلتني نخوتي. في كل عرس كان لي قرص وما خلت ساحة من ملامحي ولا نجت قضية من لمساتي. في ملمات الوطن والأمة كنت أحضر. كنت أسقط على الأزمة من السماء، مسلحاً برفاقي وبأوهامي عن أن لكل أزمة حلها. كنت كالطبيب الجوال، معي سماعتي وعلاجاتي، ولكن لا رأي لمن لا يطاع . أنا من قال فيه الشاعر:إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
فما ذنبي ؟
****
إن كان الشعر ديوان العرب فأنت ديواننا، يا جورج. وأن كان الشعر تاريخ العرب فأنت تاريخنا. لم تكن شاعراً، لكنك كنت تنسج السياسة باحلام شاعر وتستشرف الآلام بحدس شاعر. كنت تبكي على الشهداء وتجهش برقة شاعر، وكنت تفرح إذا فرح الرفاق وتزرع فينا غبطة كأنها غبطة الشعر.
لم تكن مذنبا في كل ما سألتنا. ذنبك أنك مت. ذنبك أنك لم تصدق نفسك بل صدقت من خذلوك. كنت تسبح ضد التيار وكنت وحدك. أمة بكاملها تآمرت على القضية، وأنت رفعت الكوفية الفلسطينية علماً للعروبة، وحملت صليب المحبة بين الإخوة الأعداء. كانوا يهابونك ويحترمونك لكنهم لم يحبوك. كنت تقابل رصاصهم بوردة الإخلاص ومكائدهم بشرف الخصومة وشرف الصداقة.
قتلوك قبل أن تموت، قتلتك الثورة الفلسطينية حين أصرت على جعلك أداة ضد سوريا ورفضت. قتلتك سوريا حين أصرت على جعلك مطية لمشروعها ضد الفلسطينيين ولم تمتثل.
قتلوك قبل أن يقتلوك. قتلتك الحركة القومية التي أمضيت عمرك في الترحال في ساحاتها دفاعاً عن مجدها وعزة العرب، لكن أصحابها خذلوك بقصر النظر وقلة الحيلة وقوة المكائد، وكنت لا تنتبه أبداً إلى أنك في أمة تداركها الله، لا صالح عاش فيها بكرامة ولا ثمود تأبدت.
قتلوك قبل أن يقتلوك. قتلتك الحركة الوطنية اللبنانية حين تخلوا عنك عند أول منعطف، وراحوا يبحثون عند سيد الغابة عن فتات في نعيم السلطة. قتلتك المقاومة التي أنت صانعها حين منعوك باسمها من أن تقاوم. فتحت أمامهم باباً لتنجيهم من مذلة الهزيمة فأوصدوه في وجهك وحدك، وشرعوه أبواباً أمام دلالي الخطابات القومية. كانت المقاومة على يديك تشير إلى المستقبل فصارت ورقة على طاولة التسويات وسمسرات النفوذ. ونسجت مع الزعيم كمال جنبلاط وبقيادته برنامجاً فسرقوه منكم ومسخوه، ورسمت على الأفق علامة النصر فسدوا الأفق كله ليمحوا علامة النصر. هكذا أحرقوا غابة أحلامك ليشعلوا سيكارة الاستبداد.
قتلتك إمارات الطوائف ودولة المحاصصات لأنك كنت بأحلامك الأممية تفضح صغائر همومهم وضيق زواريبهم، ولأنك كنت توسع المدى أمام الوطن المحتمل، وكانوا يضيقونه على مقاس الدويلات والمزارع وولايات السلطنة.
قتلوك قبل أن يقتلوك. قتلتك الحركة الشيوعية منذ أن تفتق قتل الرأي الأخر لديها عن اتهامك بالعمالة للإمبريالية، والحركة الشيوعية العربية التي ينعيك بعضها اليوم بصفتك رفيقا سابقا! فتبا لشيوعية يتحدد الانتماء إليها بقرار وختم وسلطة.
قتلوك قبل أن يقتلوك. قتلك حزبك حين انحنيت أمام المجدّفين من معارضيك. انحنيت لأنك أم الصبي. أنت الذي لم تنسحب من تحد ولا هالتك أهوال ولا أرعبتك مواقف، انسحبت من مواجهة أولادك ومضيت على خطى جبران وقلت، أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة. تركتهم وشأنهم. تركتنا وشأننا فقتلتنا وقتلت نفسك قبل أن يقتلوك. هذا ذنبك الأكبر.
حين استشهد مهدي عامل، ختمت رثائيتي الوجدانية فيه بهذا الكلام "وإذا كنا يا حسن قد فقدنا بغيابك بعضا من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد. وتبقى أنت الأغنية وتبقى أنت النشيد. فجاءني ثناء على الرثائية ولوم على صرختي ضد العزف المنفرد.
كنا يومذاك في بدايات الأزمة وكان لا يزال جورج حاوي درعنا للدفاع عن الرأي الحر، عن الرأي المختلف داخل الحزب. أما اليوم، وقبل موتك بلحظات، وضعنا أيدينا على قلوبنا أكثر من مرة خشية أن "يفصلك" بعض أولادك من الحزب، قبل أن يقتلك القتلة.
هل اقتنعتم الآن؟ تشبثوا بموته أيها الشيوعيون وانهضوا من موتكم لنجدة الحزب. لا شيء يعوضنا غيابه إلا أن تستحضروا شيئاً من نخوته حتى لا يتقاسمه صغار الورثة، ولا يبدد تاريخه صغار الأوصياء. لا شيء يعوض غيابه إلا وحدة الحزب ووحدة اليسار، ولن يستكمل مسيرة الشيوعيين غير الشيوعيين. عودوا أنى كنتم. استعيدوا الأغاني والأناشيد الشيوعية التي استلهمناها منه وتعلمناها.
حياً كنت أو ميتاً، ستبقى أنت أغنيتنا وستبقى أنت النشيد.

مقطع من سيرة ذاتية