الرئاسات وفخامة الرئيس والدولة


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 6926 - 2021 / 6 / 12 - 14:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



موقف التيار الوطني الحر من الدولة يكاد يكون مطابقاً لموقف حركة أمل من الدولة. متشابهان في هذه النقطة بالذات وقد يتمايزان في نواح أخرى عديدة. وجه الشبه يتمثل في أن كلاً منهما امتطى حصان الدولة للوصول إلى السلطة، وعند بلوغها ترجل الفارس عن مطي صار بنظره أقرب إلى الأوتوبيس، جحش الدولة، منه إلى الحصان.
ملاحظتان لا بد منهما الأولى، إن المقارنة بين التنظيمين ليست من قبيل 6 و6 مكرراً،على الطريقة اللبنانية، فقد سبق أن تناولت موقف كل من اليسار والمقاومة والكتائب والقوات والاشتراكي من الدولة، ومن الدولة فحسب، كما أن سلسلة المقالات التي تحمل عنوان اغتيال الدولة لا تتنطح إلى كتابة تاريخ للأحزاب أو إلى قراءة نقدية لتجاربها، بل إن همها محصور بالبحث عما يعزز فكرة الدولة ويساعد على إعادة بنائها وإعادة بناء الوطن. والثانية، لا يجوز لأحد أن يدرجها في سياق الحملة على رئاسة الجمهورية والدعوة إلى أحالته على المحاكمة.
كل مجد التيار انبنى على تمجيد الدولة في مواجهة خطرين، الميليشيات المحلية والمطامع الخارجية بلبنان. معركة الجنرال ضدهم جميعاً تذكر بفتح عمورية لأبي تمام، "تجمع فيها كل لسن وأمة" متضررون من الحرب الأهلية، ومعترضون على نهج القوات اللبنانية الميليشيوي، والمستاؤون من المساومات الكتائبية مع النظام السوري وكل الراغبين باستعادة الشرعية وسيادة الدولة من المتربصين بها خارج الحدود والمعتدين عليها في الداخل، فخاض باسمهم حربي التحرير والإلغاء.
أحدثت هزيمته نوعاً من الإرباك لدى مريديه ومؤيديه، فقد بدا متشدداً ضد اتفاق الطائف، أي ضد حل علق اللبنانيون آمالهم عليه لإيقاف الحرب الأهلية، ومتساهلاً مع التدخل الخارجي خصوصاً بعد تلقيه مساعدات عينية ومالية من النظام العراقي.
نهج نظام الوصاية عزز التضامن مع الجنرال وهو في منفاه الباريسي، وبلغ التضامن ذروته بعد اغتيال رفيق الحريري وتعزز الالتفاف حوله كرمز من رموز المواجهة مع النظام السوري، من أجل ذلك أقيمت احتفالات جماهيرية في كل المناطق اللبنانية تحضيراً لعودته، شارك فيها كلها عبر تسجيلات صوتية. لست نادماً على مشاركتي في استقباله يوم ألقيت، باسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، خطاباً في بلدة إبل السقي في الجنوب، رحبت فيه بعودته المنتظرة. في حينه كنا نخوض معركة السيادة الوطنية والوحدة الوطنية.
الحركة الجماهيرية التي آزرت الجنرال ورثها التيار الوطني الحر وحرف مسارها. بعد أن كانت بحثاً عن عودة الشرعية وتعزيزاً لسيادة الدولة، صار هاجسها الأساس الوصول إلى السلطة. صحيح أن الخلط بين الدولة والسلطة ظاهرة معممة في عقل الحركة القومية العربية وعقل السياسيين اللبنانيين، لكن الأمر فاضح ومبالغ فيه لدى التيار الذي استبدل مفرداته بنقيضها، فصار الناطقون باسمه من عتاة الطائفيين بعد أن كان منصة علمانية، وبات كل شي يحسب بحسابات مذهبية، بما في ذلك المطر والحرائق والوظائف وإدارات الدولة والماء والكهرباء.
لم يكتف التيار بتعميم ظاهرة الحكم الوراثي العربية داخل التنظيم بل سعى جاهداً لتعميمه على النظام اللبناني، فعطل تشكيل الحكومات وانتخابات الرئاسة من أجل التحضير لتوريث سياسي في سلطة الحزب كما في سلطة الدولة، ولم يعتمد في اختيار أجهزة الدولة وإداراتها وأجهزتها الإدارية مبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص بل درجة الولاء لزعامة لم تتوفر لها مقومات الزعامة لكثرة ما رميت بالفضائح وتهم الفساد والإفساد والمحسوبيات والاعتداء على المال العام، فكان من الطبيعي أن تندلع ثورة الربيع العربي في لبنان للمطالبة بتطبيق الدستور ومنع التوريث السياسي.
الأخطر من كل هذا ما يرمى به التيار ورئيسه ورئاسة الجمهورية بتهم انتهاك الدستور وتأمين الحماية لمنتهكي القوانين. ولعل الأمر الفاضح في هذا المجال الموقف من السلطة القضائية والاعتداء على استقلاليتها بالامتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات التي أقرها مجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن تحويل رئاسة الجمهورية إلى طرف في الصراع الداخلي والصراعات الخارجية.
ليس هذا مدعاة لعرقلة قيام الدولة فحسب بل سبب كاف للقضاء عليها.

رئيسان لم يفرطا بالسيادة الوطنية. بشارة الخوري وفؤاد شهاب. لكن الأول ارتكب خطيئة انتهاك الدستور يوم جعله طوع التجديد لرئاسته، فيما الثاني، الذي وقف شامخاً في خيمة السيادة الوطنية مع عبد الناصر، وضع مقاليد الديمقراطية بإدارة العسكر.
كميل شمعون صاحب لائحة طويلة من الإنجازات، افتتح انتهاك السيادة باستدعائه الأسطول السادس. خطيئته أنه أنزل الرئاسة من القصر إلى الشارع ليرد على الجمهور الناصري وعلى المطالبين بالوحدة العربية. كان يمكن أن يبقى فوق الانقسام، وألا يكون فريقاً في صراع القاعدة ليحفظ للقيادة مرجعيتها الوطنية. الجمهور رعاع حين يكون ولاؤه للطائفة والمذهب والزعيم والمرجعية الخارجية قبل الولاء للوطن. الأحزاب رعاع إن هي سعت إلى التحرر الوطني بقوة الاستبداد. الأمة التي يقودها رعاعها مصيرها الحرب الأهلية.
بعد فؤاد شهاب انتهكت الأمة العربية سيادة لبنان من باب القضية الفلسطينية، ثم صارت أسماء رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان تعلن من خارج الحدود. حتى الياس سركيس آخر حصون الشهابية كان، مع نائبه حارس السيادة والدستور، فؤاد بطرس، مكبلاً بقوات ردع بدل أن تتولى ردع المعتدين على سيادة الدولة راحت ترعاهم، وأسست لهم مدرسة تخرج منها جيل الفاسدين من الحكام.
حتى رشيد كرامي الذي ترأس أهم حكومة بتاريخ الجمهورية اللبنانية، عطل عمل الدولة بالاعتكاف. ونبيه بري، المنقذ عند اشتداد الأزمات، كسر احتكار من أتوا إلى الرئاسة على ظهر دبابة، حين صار هو الآخر رئيساً لحركة أمل ورئيساً للبرلمان بقرار سوري، وأقفل أبواب المجلس النيابي أشهراً طويلة.
سيادة الدولة تعني سيادة القانون والدستور، وتبدأ بحماية الحدود وتنتهي بوقوف الجميع، بمن فيهم أهل السلطة، تحت سقف القانون، والتزام الرؤساء أحكام الدستور.
حين رحت أبحث عما فعلته الحرب الأهلية بالدولة والدستور، طلبت من القاضي سهيل بوجي، وكان أميناً عاماً لمجلس الوزراء، تزويدي بمعلومات وإحصاءات عن حجم التخريب في إدارات الدولة نتيجة الصراع على الصلاحيات الدستورية، فكان جوابه البليغ، الأزمة ليست في الدستور، رئيس الحكومة بصلاحيات قليلة قبل الطائف عطل الدولة أشهراً، ورئيس الجمهورية بعد الطائف، (في عهد إميل لحود) بصلاحيات قليلة انتهك الدستور مرات ومرات. المسألة لا تتعلق بالدستور بل بالقيمين عليه.
تطوع عدد من المحامين ورجال القانون بوضع مطالعة ورفع دعوى يتهمون فيها رئيس الجمهورية بانتهاك الدستور، قد يرد الرئيس عليها وقد يهملها وقد يحيل واضعيها على المحاكمة، من يدري؟ أما وأن الأزمة تهدد الشعب بالجوع والمواطنين بجهنم والبلاد بالانهيار والوطن بالزوال فالانتهاك الأكبر للسيادة يتمثل بغض الأنظار عما يهدد، ثم بإشغال الرئاسة ومؤسسات الدولة بنزاع على الصلاحيات وبتأجيج الصراعات الطائفية التي تفاقم بدل أن تعالج.
توقيع رئيس الجمهورية على مراسيم تشكيل الحكومة ملزم حتى لو لم يكن موافقاً عليها. وهذه ليست حالة استثنائية في مواد الدستور. فعلى الرئيس توقيع مرسوم التكليف حتى لو كان خياره مخالفاً لخيارات النواب، وكذلك مرسوم التشكيلات القضائية، والمراسيم والقوانين المحالة إليه من المجلس النيابي، وقد منحه الدستور حق الاعتراض أو التحفظ عليها أو ردها لمراجعتها، لكنه ملزم، إن أعيدت إليه، بالتوقيع عليها، وإلا فهي تصدر حكماً في الجريدة الرسمية بعد أربعين يوماً.
الصراع على الصلاحيات الدستورية في ظل الأزمة هوالانتهاك بعينه للدستور، وهوالتهديد الأكبر بالانهيار وهو الأخطر على المصير الوطني.
مسار التطور ليس واحداً في التاريخ. ولبنان ليس الوحيد الذي تعثرت خطاه. حتى فرنسا لم تحسن الاختيار بعد الجنرال ديغول. ساركوزي اليوم مدان لا بانتهاكه الدستور بل بالفساد وقلة الأخلاق وبأفعال خسيسة، بحسب تعبير أديب الصحافة سمير عطالله.

فخامة الرئيس
أخاطبك باسم شرائح واسعة من الثورة ممن يحترمون مقام الرئاسة رغم اختلافهم معك في الآراء والمواقف، ويناضلون لا لتغيير النظام بل على العكس، للحفاظ على النافذة الديمقراطية الوحيدة في هذا الشرق المظلم المحكوم بالاستبداد، أي للحفاظ على الدولة ومؤسساتها.
بقدر احترامنا لمقام الرئاسة نحتقر مستشاريك لأنهم يسيئون إليها وإليك بما يُعدّون لك من القرارات والبيانات والإطلالات الإعلامية، ويذكروننا بكليلة ودمنة وبمن كان يحيك "المقالب" على ملك الغابة.
أنت الرئيس. ولأنك الأكثر تمثيلاً بين المسيحيين صرت مؤتمناً لا على حزبك وطائفتك فحسب بل على البلاد والعباد والدستور والقوانين، وعلى مصير الوطن. إذن أنت فوق الانقسامات والاقتسامات والمماحكات ومناورات المتحاصصين.
يصر مستشاروك وأنصارك على نعتك بالرئيس المسيحي القوي، ربما لا يعرفون أن القوة نابعة من إيمان البطركية التاريخي بأن لبنان الكبير الذي تأسس عام 1920 ليس لبنان الفينيقي ولا لبنان القائمقاميتين ولا لبنان المتصرفية، ولا لبنان الولاية التابعة للباب العالي. ومن فضائل الكنيسة على لبنان أنها ساهمت بتحريره من استبداد السلطنة، وهي لم تحرره ليصير خاضعاً لسلطنات أخرى.
ويصر مستشاروك وأنصارك على الخصومة مع أهل السنة مع أن الوطن قام بالضبط على الشراكة معهم منذ رياض الصلح. لو قرأ مستشاروك مذكرات يوسف سالم لرأوا كيف وقف أعضاء الوفد المسيحيون وراء رئيسهم السني ليبينوا للفرنسيين أن المفردات الطائفية ليست من لغتهم، وأن الوحدة الوطنية هي ضمانة حرية الوطن وسيادته واستقلاله.
لو أنك تنصحهم بقراءة مذكرات فؤاد بطرس. فقد يتعلمون منها كيف يتفاوض الضعيف، إذا كان وطنياً، مع القوي من موقع الند للند، من غيرما حساب لعديد الجيوش وعدتها وللقوى العسكرية الفلسطينية والسورية والإسرائيلية. فؤاد بطرس هذا، تدرج حتى بلغ القمة في سلك المسؤولية من قاض شريف ومستقيم إلى واحد من كبار حراس السيادة والدستور الأقوياء.
أنت سيد القصر وسيد البلاد وسيد القرار. إن كان قد فات أوان تعليمهم فبإمكانك وحدك أن تقرر لتنقذ الوطن من التفكك والعملة الوطنية من الانهيار والشعب من الجوع. بإمكانك أن تأتي بالرئيس المكلف وتطلب إليه، بقوة الدستور، أن يشكل الحكومة التي يشاء على أن يتحمل المسؤولية أمامك أنت أولاً، لأنك أنت العين الساهرة، وبعدها أمام المجلس النيابي، ولأنك أنت المؤتمن على حماية الدستور وليس المجلس النيابي.
بإمكانك أن تجيز له تشكيل حكومة إنقاذ على غرار ما فعل مؤسس الجيش اللبناني فؤاد شهاب يوم أنقذ الوطن بحكومة من أربعة وزراء لم يتمثل فيها الشيعة والدروز والكاثوليك والأرثوذكس والأرمن وسائر الطوائف الأخرى، بل تشكلت من اثنين من الموارنة واثنين من السنة، ولم يشكك أحد بميثاقيتها وشرعيتها.
أن تجيز له أن يفعل ذلك شرط أن يأتيك ببرنامج حكومي يتعهد فيه بمحاسبة الفاسدين واسترجاع المال المنهوب وملاحقة المختلسين وضبط الحدود بقوة القانون والمناعة الأخلاقية قبل آلات السكانر، وذلك لمنع تهريب البشر والعملة الصعبة والمواد المدعومة بأموال المصرف المركزي، ومنع استخدام الساحة اللبنانية منصة لإطلاق الرسائل والصواريخ أو لتصدير المخدرات؛ ويتعهد فيه بإعادة إعمار ما تهدم بعد انفجار آب المنصرم ومحاسبة المسؤولين عنه وإعادة بناء مرفأ بيروت ليكون الأول على الشاطئ الشرقي للمتوسط.
سيادة الرئيس
إن فعلت ذلك سندعو، باسم مجموعات الثورة الحريصة على التغيير بالآليات الدستورية، إلى التظاهر أمام القصر الجمهوري، دعماً لموقفك هذا وانتصاراً لقرار شجاع ينتظره اللبنانيون منك.