شهوة الكلام ونشوة التباهي


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6918 - 2021 / 6 / 4 - 03:01
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية     

تصوَّر لو كنت تعيش مع شخص ما تحت سقف واحد أو أنه زميلك في العمل أو جارك في السكن أو غير ذلك مِمَّن يتحتَّم عليك أن تلتقي بهم عدة مرات في اليوم، وتتعامل معهم بشكل أو بآخر، وأن هذا الشخص لديه خصال وتصرفات غريبة، وأحيانًا شاذة، فتراه يتكلم كثيرًا، (يرغى ويلت ويعجن) فى الكلام، ويهتم دائمًا بتوافه الأمور ويدسَّ أنفه ولسانه في ما لا يعنيه، ويخوض في خصوصيات الناس!.
وقد لا يقتصر الأمر على إصابته بشهوة الكلام وحدها، بل يصاب أيضًا بنشوة التباهي وسحر الكلمات، بما يزعم باستمرار أنه فعله أو لم يفعله، ويدخِل فيه تعقيدات كلامية كثيرة من بنات أفكاره، فلا تستطيع كما لا يستطيع أحد انتزاع معلومة مفيدة أو كاملة أو اسْتِيحاء عبرة ما أو إلهامًا معينًا من كلامه، ويقتضي ذلك منك ومن السامعين إلى جانب عناء الاستماع، مزيدًا من عناء التساؤلات والبحث عن التفاصيل وتضييع الوقت. يتطرَّق بالكلام فيما يعرف وفيما لا يعرف وكأنه مفروض عليه. ولأنه لا يعرف الصمت، فإنه ينتقل من موضوع إلى آخر ومن رواية إلى أخرى دون توقف ودون أن تكون هناك رابطة بينها. وفي أثناء كلامه، لا يلتفت لما تقوله له، قد يتوقف قليلا عن الكلام ليواصل الكلام، ويأخذ من كلامك أو كلام غيرك ما يفسره تبعًا لتصوراته الشخصية وطبيعته النفسية، ويضيف إليه تكهنات وتصورات إضافية من بنات أفكاره. يحكي روايات تافهة كثيرة عن نفسه وعن أسرته وعن الآخرين، ويروِي أحداثًا وقعت ولم تقع لنفسه ولغيره في الماضي والحاضر، ويعيد تكرار نفس الحكايات والروايات مرارًا، مع الإضافة والنقصان، وكأنه يحكيها لأول مرة، ويحاول تجميلها بابتسامات وضحكات شديدة السذاجة، وخيلاء منقطع النظير.. وتبلغ به البلادة أنه لا يهتم برأي الآخرين وما يقولونه عنه أو ما يفعلونه معه، بل يهتم فقط بنظرته الخاصة للحياة وللآخرين، والإفراغ الوقتي لمحتوى نظرته الذي يتكدَّس بصورة فوضوية في عقله ويؤرقه طول الوقت!، وعندما ينتهي من الإفراغ الكلامي يغادر المجلس بأريحية شديدة، وكأنه حقق نصرًا مظفَّرًا!
الذين تضطرهم الظروف للعيش مع شخص كهذا، يهربون منه بعد حين، والذين لا يعيشون معه قد يشعرون معه بارتياح مؤقت، على أساس أنه مادة للتسلية والتغلب على الملل، وهو من ناحيتة يبتهج كثيرا عندما يتواجد مع مجموعة من الناس، ومن المفضل أن يكون فيهم سيدات أو من السيدات وحدهن، حتى لا يضيع سدًا اعتناؤه بوجه وهيئة شعره حيث تتركز الأنظار، أما لسان فهو فقط لهدير الكلام، لذلك تراه مغرمًا بالبحث الدائم عن أشخاص جدُد ليتباهى بمعرفتهم ويكلمهم ولا يتكلم معهم، ويحكي لهم ويفتن وينِمُّ عليهم وبهم، ويغتاب الغير أمامهم ويغتابهم أمام الغير… وهكذا!!، يزعم أن له أصدقاء كثر ومعارف لا يحصي عددهم، ولكنك تراه وحيدًا في حياته، وحيدًا في أفكاره!
هذا الشخص يخاف من استبعاد الناس له وعزلتهم عنه، لذلك يحاول ترويض الآخرين ولفت أنظارهم إليه باتباع أساليب إزعاج بدائية، بل وغبيَّة أحيانًا. يصرُّ على إزعاجك كلما سنحت له الفرصة لأن في الإزعاج سعادته الشخصية، ويجد نفسه مدفوعًا للإتيان بأفعال شاذة تجاهك، كأن يعمد مثلًا إلى تشغيل جهاز ”الاستريو“ بصوت مرتفع وموسيقي صاخبة. إلى هنا والأمر معتاد من الحمقى والمغفلين، ويمكنك اتخاذ موقف حياله، كأن تطلب منه خفض الصوت أو تخفضه بنفسك أو تطلب له الشرطة لتفعل ذلة، ولكن الشيء الغريب حقا ويدل على التخلف العقلي، هو أن يأتي إليك ليسألك عن مصدر هذا الصوت المزعج، لأن سمْعَه قليل ونظَرَه ضعيف، ولا يقدر على تحديد اتجاه المصدر الذي يأتي منه!
ما هي مشكلة هذا الشخص؟ ولماذا يفعل ذلك وغيره؟
***
يُعَرَّف الإنسان بأنّه حيوان ناطق، فهو ينطق ليتكلم، وقد يتكلم طول الوقت، ويتكلم عن كل شيء ولا شيء، يتكلم في الفارغ وفي الملآن، وهو الكائن الحي الوحيد على سطح الأرض الذي يصاب بشهوة الكلام، وسحر الكلمات، والأدهى من ذلك هو إصابته بمرض نشوة التباهي!
هذا الشخص يجسِّم ظاهرة مرضية متفشية في مجتمعات العربان، هي ”شهوة الكلام“، إذ لا يوجد شعب واحد في العالم يكثر من الكلام في كل شيء بما في ذلك الكلام عن ”شهوة الكلام“ نفسها، مثلما تكثر مجتمعات العربان والمستعربين بالتبعية، لأنها وباء مستوطن ومتجذر بينهم منذ زمن بعيد، فهم يكثرون من الكلام ويقللون من الفعل، يغرمون بالألقاب ويتلاعبون بالشعارات التي لا يعملون بها، فنراهم يقولون: « راحة الجسم في قلة الطعام وراحة النفس في قلة الآثام وراحة القلب في قلة الاهتمام وراحة اللسان في قلة الكلام»، وهم لا يريحون أجسامهم ولا نفوسهم ولا قلوبهم ولا ألسنتهم، ويقولون: «خير الكلام ما قل ودل»، فلا كلامهم قل ولا حمل أية دلالة، كلام فارغ ولا قيمة له، ولا يمتلك حقيقة أو أهمية من نوع ما، ولديهم من دون شعوب الأرض جميعًا ما يسمَّى ”علم الكلام“، و”إسلام المتكلمين“، ولديهم فئات تتكاثر كالسرطانات، مهنتها الكلام في الدين والسياسة والإعلام ليلا ونهارا، ولا أحد يسمع وإن سمع لا يفهم وإن فهم لا يعمل، فالجميع يجدون راحتهم في قلة العمل، وكثرة الكلام!
هذا ما ألْهَم المفكر (المتسعود رغم أنفه) عبدالله القصيمي أن يكتب كتاب ”العرب ظاهرة صوتيه“، وقال فيه: «إن العربي لينتصر بالقول أقوى مما ينتصر المنتصرون بالفعل ...
إن أفواه العرب هي البديل الجيد الدائم المرضي عن كل المواهب والالتزامات الاخرى المطلوبه من الانسان والمفترضه فيه ...
إنها لموهبة عربية أصيلة : أن يظلوا يفعلون بالقول ما يجب أن يفعلوه بالفعل، وما يعجزون أو يهابون أو لا يعرفون أن يفعلوه بالفعل ..
إنهم بقدر ما يعجزون عن الفعل بالفعل يذهبون يبالغون جدّا في الفعل بالقول، إن أصواتهم لتعلو بقدر ما تصمت قدراتهم، إن أسلحة كل العالم لا تستطيع أن تصنع شيئاً من الانتصارات التي تصنعها ألسنة العرب ...
إن أخطر وأقبح أمراض العرب حديثهم الدائم عن أمجادهم التي لم يروها أو يعرفوها أو يريدوها أو يستطيعوها ...
أليست كل أمجادنا قبورية لا تراها العين أو تمسك بها اليد أو تحيا بها الحياة، انما يستمرغها الفم على الآذان والأقلام والصفحات والتاريخ ؟
أليست كل الأمجاد المرئية أمجاد غير عربية ؟!».
***
كذلك الشاعر والكاتب الراحل غرم الله حمدان الصقاعي وهو أيضًا متسعود، يرى في كتابه ”شهوة الكلام.. الذهنية البدوية والتصحر الثقافي“ الصادر عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر عام 2014، أن الاستبداد السياسي والاجتماعي التي تعاني منه مجتمعات العربان منذ زمن بعيد، قد يكون له أثر كبير في تنامي شهوة الكلام، فأصبحت حقًّا مشاعًا للجميع، يقولون ما يشتهون دون رقيب، ودون تأنيب للضمير، بعد أن أصبحت شهوة الكلام ثقافة عربية خالصة، تقوم على الكلام وليس غيره .
ويقول الصقاعي: «إن شهوة الكلام كانت في ما مضى نتيجة للأمية والجهل، باعتبار الكلام الوسيلة الأُم لإيصال الرسائل، للحفظ وتواتر النقل، ورغم أننا دخلنا إلى عصر التعليم والكتابة، لكن ليس هناك تغيير كبير يُذكر، إذ بقى الكلام هو المُنتَج الشاهد لكل فعل ثقافي، وذلك من خلال المنابر، وهذا ما صنع شهوة الكلام عند الجميع، لقد بتنا نجد الكل ينتقد ويتحدث في كل علم، وكل فن، بغير علم، يتحدثون لإثبات الحضور والمشاركة فقط، وفي هذا تظهر رغبة الجميع في الكلام». 
ويؤكد على أن مجتمعات العربان عبر تاريخها الطويل هي مجتمعات مهووسة باللغة والاشتغال عليها من حيث التركيب والمعنى، والشعر كوعاء يحفظها ويساعد على توارثها من جيل إلى جيل. 
***
العجيب والغريب أن المرء المصاب بداء شهوة الكلام يخاف من استبعاد الآخرين له وعزله عنهم، ولكن من الحماقة ألَّا يدرك أنها هي التي تؤدي بالفعل إلى استبعاده وعزلته!. وعندما يبتلى بها ويسيطر عليه سحر الكلمات، يصبح للكلام نشوة لا تضاهى، فلا يتوقف لسانه عن الهذيان والهلوسة، ولا يترك مجلساً، يجلس فيه، إلّا وقد استأثر بالكلام، كل الكلام، دون أن يبالي بنوعيات الجالسين، أو حاجاتهم إلى استماع ما يتحدث فيه!، لا يدع لأحد مجالاً لأن يفتح فمه بالمقاطعة أو الاعتراض، ويظل مسترسلًا في نفس الكلام الذي يروق له الحديث فيه، دون مراعاة لمشاعر الآخرين أو أوقاتهم أو نظرات الضجر والتذمّر والاشمئزاز في عيونهم!، فنظرته إلى نفسه أهم لديه بكثير من نظرات الآخرين إليه!
يقول شوبنهاور: «لا يسعى الأذكياء للعزلة بوجه خاص، ولكن يتجنبون فقط الضَّجَر الذي يسببه الحمقي»، وفي كتاب ( كيف تكسب الأصدقاء، وتؤثّر في الناس )، الصادر، عن مؤسّسة (ديل كارنيجي)، نقرأ: «إنّ مِن حسن العلاقة مع الناس، إسماعهم كلاماً، يهمّهم جميعاً، أو أكثرهم!، أمّا الكلام الذي لايهمّ سوى صاحبه، في مجلس عامّ، فهو ينافي الخُلق والذوق، ويستثير المشاعر السلبية المختلفة، لدى الحاضرين تجاه المتكلّم».
***
الكلام عادة ليس له رونق ولا يغري كثيرًا إنْ كان بين شخصين اثنين، حيث أنه لا يدوم طويلًا، ولكن له رونقه تحديدًا حين يكون أمام جمع من الناس. ويكون أكثر اغراءً ومدعاة للتفاخر والتباهي، حين يصبح مبارزة كلامية في الوسائل الإعلامية، خاصة المرئية منها، ويزيد من رونقه وإغرائه أن يكون انقضاضًا عاطفيًا على نفوس المستمعين، مثل خطابات عبد الناصر الجماهيرية أو أقوال الشيخ الشعراوي الدينية، والكثيرين غيرهما ممن ينتشون بشهوة الكلام والنهم إلى اللغو والثرثرة.
النصر الوحيد التي يتقنه العربان تحديدًا ويتباهون به في كتبهم ومجالسهم، هو نصر المبارزات الكلامية، لأنها من أسهل الانتصارات والبطولات الوهمية المنجزة والسريعة وغير المكلِّفة والتي تدغدغ "الإيغو igo" وتضخمه لدي شعوب محبطة وعاجزة وغارقة في فيض الكلام!. لقد ظلوا يحاربون دويلة إسرائيل بالكلام والأغاني والدعاء عليها من فوق المنابر يوميًا، طيلة 73 عام، وإسرائيل تكبر وتقوى حتى أرغمتهم على الخنوع والخضوع تحت أقدامها!.
وشهوة الكلام إنْ لم تكن مدمِّرة، فمن النادر أن تكون هناك فائدة ترجى من ورائها، لأنها مجرد لغو وثرثرة وتضييع للوقت. كان البكباشي عبد الناصر يحشد الجماهير من أنحاء البلاد ليخطب فيهم بالساعات، ومع ذلك لا تجد وسائل الإعلام الرصينة، في أقواله، أي شيء يذكر، لأنها حقيقة كلام فارغ، وإن وجدت فيه بعض الشيء، تذكره في أقل من دقيقة واحدة فقط، وغالبًا دون تعليق!، وكانت عادة تركز فقط على رصد أفعاله الحمقاء في داخل البلاد وخارجها!
الشخص المصاب بمرض شهوة الكلام واللغو والثرثرة وينتشي بالتباهي، يحاول دائمًا حمل الآخرين على الاهتمام به، وهو في ذلك يتظاهر دائمًا بالعلم والمعرفة والجاه والثراء، ويجد متعة زائدة وراحة نفسية كبيرة في ميوله القوية للغيبة والنميمة واللت والعجن فيما يعنيه أو لا يعنيه!، فهو أمام هذه الشهوة يتراجع العقل، وينزوى المنطق لديه، وتفقد عنده كل العلوم مضامينها، لأن المدمنين على شهوة الكلام يعتقدون أن الواقع كله كلام، وأن العالم عبارة عن كلام، وأن الحقائق في الكون يصنعها الكلام، ويغيرها الكلام.
***
شهوة الكلام على المستوى السياسي والديني والإعلامي من أكثر الشهوات الدنيئة في الإنسان، لأنها شهوة معدية، ينتقل عدْوَاها من الثرثار إلى المستمعين إليه أو المؤمنين به، فيتعدد مرضها المدمِّر بزيادة عددهم، ويُؤَكَّد بعملهم طبقاً لما يقوله، وما يحدث في بلدان العربان منذ عشرات السنين من قتل وتدمير لم ينتج سوى عن الكلام في صورة خطب عصماء لسياسيين جهلة وانتهازيين، ولرجال دين عديمي الضمير، وتجار الدين، فالكلمة يمكنها أن تبْنِي، كما يمكنها أن تهدم، ويمكنها أن ترفع صاحبها إلى مقام المصلحين، أو تهوي به مع القتلة والمخربين.
شهوة الكلام من الأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج، يحملها المصاب بها مدى الحياة وترافقه أينما ذهب ومهما كان مستواه العلمي أو العملي. وقد يعرِف أنه مصاب بها، ولكنه لا يمكنه الفكاك منها، ولا يريد التخلص منها، لما تحدثه في أعماق نفسه من نشوة وسحر. وهي التي تجعل من الصعب تحديد معالم واضحة لهذا الشخص وتحديد وضعه لين البشر، لأنه يترنح بين الشعارات ويتوه بين المبادئ، فلا هو اشتراكي ولا رأسمالي، ولا هو متعصب ولا متسامح، وهو أحيانًا متدين وأحيانا لا دين له، ويقف مرة إلى جانب الأقوياء ومرة مع الضعفاء، وهو كل شيء ولا شيء، لأن هذه الشهوة تجرفه هنا وهناك، وتأرجحه بين هذا وذاك، إنه مثل القشة التي تتقاذفها الأهواء من موضع إلى آخر، ولذلك من الصعوبة بمكان التعامل معه، ويكون الابتعاد عنه فضيلة، والاحتراس منه ضرورة حياتية!. هذا ما يفسر عزلة الأذكياء وعدم فاعليتهم، في مجتمعات من الحمقي، الذين يكثرون من الكلام ويقِلُّون من العمل!
ملحوظة أخيرة:
إذا اعتبر أحد القرَّاء الأعزاء أن هذا المقال درب من دروب شهوة الكلام، يجب عليه أن يعيد قراءته من جديد.