اشراقة إنسانية الانتفاضة في قصة -الزمن الجديد-: لنبيل عودة


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 6912 - 2021 / 5 / 29 - 11:40
المحور: الادب والفن     

بقلم: محمد توفيق الصواف

من المثير حقاً، ثقة الإنسان الفلسطيني بجدوى حجارة أرضه كسلاح فعال، وبقدرة هذا السلاح على هزيمة البنادق والقنابل وغيرها، أي على انتزاع النصر... ويمكننا استشفاف هذه الثقة عبر متابعة ما يعرضه شريط الأمنيات على مخيلة /وليد/ أحد أبطال قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة

ففي لحظة استشراف للمستقبل المرتجى، يرى هذا الطفل الفلسطيني نفسه، وقد صار طاعناً في السن، يجلس بين أحفاده، ليقص عليهم معجزة النصر الذي صنعه جيله بحجارة الأرض... "عندما يبلغ من العمر أعتاه ويجلس مع أحفاده، سيحدثهم عن أيام زمان. حاول أن يصغي لصوته. أن يكون فكرة عن هيئته عجوزاً طاعناً يحدث أحفاده عن زمانه الكبير السابق، يوم صار الحجر أسلوباً سياسياً"، ومن اللامعقول الذي صيرته إرادة التحرير الصلبة، في نفس الفلسطيني معقولاً. ينطلق خيال وليد في محاولة لإضاءة المعجزة، "ثورة حجارة في عصر الفضاء. ينظر إليه الأولاد مشدوهين بحديث العجائب، غير قادرين على التصديق، محاولين استخراج الحقائق من جدهم الذي تعتعه الكبر. ولكن الجد يبتسم، ويهز رأسه متأملاً أحفاده، قائلاً بصوته الخشن: "الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر."

هذا هو العنوان الإنساني لهذه الثورة الشعبية الجبارة... إنها ليست إرهاباً أو عصياناً، أو فوضى وعدوانية متطرفة، كما يصفها أعداؤها، وإنما هي حوار، ولكن بلهجة أخرى وأسلوب آخر... وحتى حين يثور القلق في نفس وليد الصغير سؤالاً حول جدية الحوار بالحجارة وجدواه، وحول واقعية المواجهة بين الحجر والبندقية أو القنبلة، ما يلبث أن تزيل ثقته بحجارته ما ثار في نفسه من قلق عابر. "والذي لا يفهم بالحجر؟ احتار بعض الشيء... وفكر في السؤال الذي طرحه على نفسه، ثم اشرقت ابتسامة خجلى على وجهه، وتمتم لنفسه مجيباً نفسه على سؤاله: سيفهم بالمزيد من الحجارة."

وهذا الاصرار على بلوغ النصر بالحجارة وحدها، يفتح المجال أمام إشراقة إنسانية الانتفاضة، ورؤيتها من زاوية ثالثة، هي زاوية موقف الثائر الفلسطيني /الإنسان/ من عدوه العنصري ومحتل أرضه... وهو الموقف الذي عرضنا الجانب الأكبر منه، في الفقرة السابقة من هذا الفص، أبطال هذه الثورة، لم يخرجوا مقاتلين بحجارة أرضهم انتقاماً، وإنما رغبة في التغيير... وبالتالي فليس هدفهم القتل وإنما الدفاع عن أنفسهم، وعن أجيالهم القادمة، من التعرض للقتل، بسبب وبدون سبب على الغالب. وإذا كان ثمة ما يؤكد هذا التوصيف، فهو موقفهم من عدوهم الساعي إلى قتلهم حين يتمكنون منه، وقد فقد حوله وقوته، بوقوعه جريحاً، أو أسيراً في أيديهم...

ففي مثل هذه الحال، لا نراهم يحاولون قتله، تشفياً وانتقاماً، بل على العكس، يعزفون عن استغلال فقدانه القدرة على حماية نفسه والدفاع عنها، ويتعالون عن الإضرار بمن غدا عاجزاً عن إلحاق الضرر بهم.
من الملاحظ أن طرح مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، لموضوع الدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والثورة، لم يكن طرحاً خطابياً مباشراً، كما أنه لم يشكل، في أيّ من القصص، محوراً موضوعياً مستقلاً، بل كان متضمناً في سياق التأكيد لنفي مفهوم البطولة الفردية، في صنع أحداث الانتفاضة ومنجزاتها، وبالتالي، نفي احتمال توقف استمرارية الانتفاضة بسقوط أيّ من أبطالها أو القضاء عليه...

قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة من أكثر قصص الانتفاضة احتفالاً واهتماماً بهذين الموضوعين، ومن أكثرها وضوحاً في طرحهما، ففي نهاية هذه القصة الغنية، يسقط قائدها الفذ (سليم) شهيداً، قبل أن يكمل ما بدأه من تغيير في قناعات أهل قريته ومفاهيمهم ومواقفهم، وقبل أن تكتحل عيناه برؤية نتائج التغييرات التي أحدّثها واقعاً ملموساً.. ولكن استشهاده لا يعني توقف أهل قريته عن مواصلة الثورة التي هيّأهم لتفجيرها والاستمرار فيها، سواء بقي هو الذي يقود خطواتهم فيها، أو صار القائد غيره. فالثورة ليست هذا الفرد أو ذاك، حتى وإن كان صانعها ومفجرها... وبالتالي، فإن استشهاد القائد لا يهم كثيراً، ما دام يوجد بين أتباعه والمؤمنين بنهجه وأفكاره، من يستطيع حمل المسؤولية بعده.

بل إن أي ثائر صادق، يرفض أن تنتهي ثورته وتنطفئ بانتهائه قائداً لها... ذلك أن مثل هذا الثائر لا يعنيه كثيراً أن يشهد بعينيه نتائج ما بدأه، بل يعنيه استمرارية السعي إلى تحقيق ما خطط له، في حركية من يليه/ النابعة من إصرارهم على إكمال الدرب التي بدأها.. لأنه، وبهذه الإستمرارية فقط، يتحول استشهاده إلى حياة، فيستطيع أن يرى ثمار نضاله وانتصار رسالته بعيون الذين تابعوا حملها بعده، ونجحوا في تحقيق أهدافها واقعاً.. أي يتحول موته إلى معبر لخلوده.

وإيماناً من سليم نفسه بهذه الحقيقة، نجد أن جوهر الوصية التي يتركها لأتباعه هو دعوتهم إلى ضرورة مواصلة الثورة بعده، فيما لو سقط شهيداً وبالفعل، ما يكاد خلفه (وليد) يتيقن من استشهاد ذلك القائد الفذ، حتى ينطلق في أزقة القرية وحواريها، ناشراً تلك الوصية، ليحضّ أهل القرية على متابعة الثورة التي فجرها سليم، صارخاً بأعلى صوته:

"سليم لم يمت... سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد. سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر سليم لا يموت... لا يموت... لا يموت.". من الواضح أن سليم في الصياغة السابقة، قد خرج من محدودية كينونته المادية الضيقة، ليصير رمزاً تتجسد فيه روح الثورة الشعبية التي فجرها في أهل قريته، وليصير رمزاً لكل الشهداء الذين ضحوا بحيواتهم الدنيا من أجل إيصال مبادئ الرسالة التحريرية لثورة شعبهم إلى أهدافها، ومن أجل تجسيد هذه الأهداف كحقائق، على أرض الواقع... ولهذا، فهو لا يموت، ولا يمكن للموت أن يجد سبيلاً إليه... لأن موته، على مستوى الرمز الذي يجسده، يعني انطفاء شعلة الثورة بعده، واستحالة وصولها إلى تحقيق أهداف رسالتها...

وعلى افتراض صحة القراءة لنهاية قصة (الزمن الجديد)، يمكن القول إن الدعوة إلى ضرورة مواصلة الثورة، متضمنة في كل جملة دخلت في تركيب تلك النهاية... وتكاد هذه الدعوة تتخذ صيغة الخطاب المباشر، في دلالات الجملة الأخيرة التي يوصي فيها سليم أهل قريته بأن يدفنوه في تراب وطنه المحرر... إذ كيف لهذه الوصية أن تنفذ، إن لم تستمر الثورة بعده، حتى تحقق كامل أهدافها، وخاصة هدفها /الغاية... أي تحرير تراب الوطن الذي أوصاهم أن يدفنوه فيه...؟

وبين المتوفر من قصص الانتفاضة، وردت إشارة قصيرة إلى موضوع رفض العمل مع العدو وخدمة مشاريعه، كما ورد ذلك في قصة (الزمن الجديد)، لنبيل عودة. وكان ورودها، في سياق صراع بطل القصة سليم، بعد أن زعمّه أهل قريته عليهم، مع المختار القديم الذي كان -كما توحي القصة- متعاوناً مع سلطات الاحتلال، ومستزلماً لهم...

فوسط حشد من كبار القرية، وأهلها، توجه سليم إلى المختار القديم، داعياً إياه إلى الاستتابة عن التعامل مع العدو، تحت أي ذريعة، وبأي صيغة وإلى إعلان التزامه بهذه التوبة، أمام الملأ جميعاً. ثم منذراً إياه، في ذات الوقت، بأن الأمور قد خرج زمامها من يده، وآل إلى الثوار؛ وعلى هذا، فليس أمامه، وأمام أمثاله، سوى خيارين لا ثالث لهما: إما إعلان التوبة، ويعفو الشعب عما مضى، وإما مغادرة القرية، دون إبطاء: "نحن نرحمك ونقبل توبتك. ونحن لا نفرق بين أحد. نظمنا كل شؤون البلد. الشباب أمسكوا بزمام الأمور. وليعلم الجميع أن الذي لا يتوب لن يكون له موطئ قدم بيننا."

وفي القصة، كما في الواقع، يدرك المختار، ومن ترمز إليهم شخصيته القصصية، أن التغيرات المستجدة، والأوضاع التي نجمت عنها، لا تساعدهم على تحدي هذه الدعوة التحذيرية الجادة الموجهة إليهم... ولهذا، فإن من الحكمة والخير لهم، كما قدّروا، أن يبادروا، إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم. أي، أن يبادروا، فيحنوا رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ريثما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث، وتستقر وهذا ما رمى إليه نبيل عودة، في صياغة جملته الإخبارية التي ضمنها إعلان المختار لتوبته: "وبعد أن أيقن المختار أن البلد لم تعد تلك البلد قبل تفجّر الأحداث، أعلن توبته، ولكنه بقي بنفس العقلية."

وواضح، في المقطع الأخير من الجملة السابقة، أن المؤلف قد قصد، من صياغتها، الطعن بصدق توبة المختار، والإيحاء، بالتالي، أن معظم الذين استجابوا لدعوة قيادة الانتفاضة، من أزلام الاحتلال وأعوانه وعملائه، وأعلنوا توبتهم، لم يتوبوا توبة نصوحاً وصادقة، وإنما تظاهروا بالتوبة فقط، مداراة وتقية، ولفترة، بانتظار ما ستسفر عنه فعاليات الانتفاضة، من نتائج في المستقبل القريب أو البعيد... وهذا يعني أنهم، في قرارة نفوسهم، ما تزال قناعاتهم المهترئة على حالها، لم تتغير، وأنها ستظل، مما يستوجب الحذر الدائم منهم
لدعوة إلى تطهير صفوف الشعب الثائر من العملاء:

إلى حد ما، يمكن القول: إن إطلاق هذه الدعوة قد تزامن مع إطلاق الدعوة السابقة... وإذا كانت الدعوة السابقة هي نداء موجه للفلسطينيين، في الوطن المحتل، من أجل المبادرة، ذاتياً، إلى التطهر من رجس العمل في مؤسسات العدو و أجهزته، لما يجلبه هذا العمل من العار لصاحبه، فإن الدعوة الثانية هي أشبه ما تكون بإنذار تهديدي موجه إلى المتورطين، من أبناء الوطن المحتل، في التعاون مع سلطات العدو، ضد أبناء شعبهم... وعلى هذا يمكن توصيف الهدف من اطلاق هذه الدعوة بأنه محاولة جادة لتطهير هذا الشعب من عملاء العدو المندسين، بين صفوف أبنائه الثائرين..

وبين أبرز تلك المسلمات التي قوضتها الانتفاضة، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي معاً، اشتراط المستوى الطبقي العالي، أي الثراء، إضافة إلى اعتبارات الحسب والنسب، وما شاكلهما، كمؤهلات لمن يسعى إلى الزعامة والجاه والسيادة، سياسياً واجتماعياً، على حد سواء... فقد قوض زلزال الانتفاضة دعائم هذا الاشتراط، بعد أن أثبتت أحداثها مدى خطئه وبطلانه... وذلك حين لاحظ الناس أن من فجرّ الثورة على العدو المحتل، وتصدى لغطرسته، وسعى للحيلولة دون استمرارية الوضع المذل الذي فرضه هذا العدو على أبناء الوطن المحتل، لم يكن من الأثرياء أو من أبنائهم، كما لم يكن سليل حسب ونسب، بل كان، غالباً، من طبقة الفقراء المغمورين... أما أبناء الجاه والغنى الذين كانوا يتسيّدون بالأمس ثوار اليوم، ويتشدقون بالشعارات الكبيرة التي يمارسون نقيضها، في حياتهم الخاصة، ويتاجرون بقضايا الشعب ومصيره، كل هؤلاء لم يبدُ أثرٌ لأحدهم، بعد انفجار الثورة وأثناءها... فقد تواروا عن الأنظار، وصمتوا مبتلعين ألسنتهم، تاركين من استغلوهم لمصيرهم، وكأن لا دخل لهم بما يجري، على ساحة الصراع، بعد انطلاق الانتفاضة، من أحداث دامية ومريعة...

لقد عرض نبيل عودة لهذا النموذج من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، في قصته غنية المضمون (الزمن الجديد)، وذلك في سياق المنولوج الداخلي الذي رصده في وعي (وليد) البطل الثاني للقصة بعد (سليم)... يحادث (وليد) نفسه متسائلاً، بسخرية مفعمة بالمرارة والغيظ، في آن معاً:

"أين أولاد المرسيدس؟.. أولاد النعيم... أين اختفى المتفلسفون الذين يفهمون في كل الأمور. أصغرها وأكبرها؟ أبسطها وأخطرها؟ حين يتكلمون عن فتيات المدن، تظن أن لهم في كل شارع معشوقة أو أكثر، فتقتلك الغيرة والحسد للنعيم الذي كان من نصيبهم. وحين يتحدثون في السياسة، يجيبون لك رأس (الرئيس الأمريكي) على طبق من ذهب، يفهمون في حرب بيروت، ويتحاورون ويتصايحون وكأنهم أبطالها وصانعو مجدها. لهم نظريات في الطائرات الشراعية، وتحاليل في الوطنية، وانتقادات بلا نهاية حين يجعصون في المرسيدس، بالكاد يشعرون بالخلق من حولهم.

أين اختفى أولئك العباقرة؟"

ما من جواب على هذا السؤال الاستنكاري النابض بالغيظ، سوى أن أمثال هؤلاء، ومن على شاكلتهم، قد تواروا عن مسرح الأحداث، إثر انطلاقها، وقبعوا في قصورهم ينتظرون مرور العاصفة، وقد أحنوا رؤوسهم لهبوبها الشديد، كي لا تكسر هيكلية تمظهرهم الثوري المزيف، أو تنتزع ورقة التين الدعائية عن عورة مواقفهم، فتكشف حقيقتها... وهم، في جحور انتظارهم، يترقبون تلك اللحظة التي تهدأ فيها حركة الأحداث ونشاطات صانعيها، وتتبلور نتائجها النهائية، ليقفزوا على ما حققه الفقراء بدمهم وتضحياتهم الكثيرة الأخرى، فيدعوه لأنفسهم، كالعادة، ويجيّروه لاسمهم، زوراً وبهتاناً..

وبالطبع، ليس هذا مستغرباً ولا مفاجئاً.. فالانتفاضة، شأنها شأن معظم ثورات شعوب العالم، يخطط لها المفكرون الرياديون، عادة، ويدعون لها، ثم يأتي دور الشرفاء من بسطاء الناس وفقرائهم ليفجروها، مضحين من أجل إيصالها لأهدافها، بالدم والروح، وبالقليل الذي يملكونه من عرض الدنيا... ولكن، ما إن تلوح بشائر النصر، ويحين موسم قطاف النتائج والمنجزات، حتى يقفز الجبناء والمدعون، خارجين من جحورهم التي لبدوا فيها، زمن المعارك ومواجهة الأخطار وبذل التضحيات، ليستولوا على ثمار الثورة، وليتصدروا مواكب انتصارها، وكأنهم هم الذين صنعوا ذلك الانتصار.

لقد أراد نبيل عودة أن يكشف نموذج مُدّعي الثورة هؤلاء، سلفاً، وأن ينبه إلى ما يخططون له، محذراً ومؤكداً في آن معاً، عبر سياق محاولته هذه، أن مخططاتهم ستبوء بالفشل، هذه المرة... وذلك لأن الفلسطيني الذي فتحت الأحداث، وما سبقها من تجارب ومعاناة، وعيه، وأنضجته، لن يسمح للأدعياء بأن يسرقوا منه ثمار ثورته ومنجزاتها.

من جهة أخرى، حاول نبيل عودة، وفي ذات السياق السابق أيضاً، أن يلقي حزمة ضوء على جملة الأسباب والعوامل المستجدة التي غيرت معظم السائد من المعايير القديمة، لتتيح المجال رحباً، أمام شاب فقير ومغمور اجتماعياً، كسليم النجار، مثلاً، أن يغدو زعيماً. كما حاول أن يبين أيضاً، كيف تجاوزت تلك العوامل بسليم إلى الزعامة، من كانوا الزعماء التقليديين لقريته، مع أنه لا يملك أيّاً من مؤهلاتهم التي تسيّدوا بها القرية، في السابق.

فسليم هذا، وحسب القصة، لا مال ولا حسب ولا نسب... أي في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي/ الطبقي... ومع ذلك، تجاسر على المختار الثري، والقائد التقليدي للقرية، سياسياً واجتماعياً، وتصدى له متحدياً، في ذات الوقت الذي كان فيه وجهاء أهل القرية وكبارها يتصاغرون له ويرجون عونه. "أصابت اللخمة معظم الحاضرين في ديوان المختار الرحب. عشرات العيون نظرت باستهجان لهذا الشاب المتناسي أصله بأنه شحاذ بن شحاذ، المتناسي مقامه، والمتطاول على عصمة المختار في بيته وبين أهل بلده".

وحسب إيحاءات سياق القصة، فإن مبعث (لخمة) الحاضرين واستهجانهم، كان تفاجؤهم برؤية ما ألفوه من معايير يتداعى وتختل منظوماته السائدة، على حين غرة، ودونما توقع... وقد كان من الممكن أن ينقلب الموقف، برمته، ضد سليم وما يمثله، لولا قدرته على الثبات، وعلى الاحتفاظ بهدوئه ورباطة جأشه، في مواجهة المختار، وما ولدته هذه المواجهة من إحساس بالمفاجأة في نفوس أهل القرية.

أما مصدر ثبات سليم، فقد كان، بالدرجة الأولى، ادراكه لأهمية الصراع الذي فتحه المختار وأعوانه، واستشفافه لأهمية النتائج التي سيتمخض عنها انتصاره في هذا الصراع... تلك النتائج التي كان، من أبرزها، تغيير مسار تفكير أهل القرية وموقفهم، إلى الجهة النقيض... فطيلة فترة اشتباكه مع المختار، لم يزايله الإحساس بالأمل في أن ينجح بتفتيح وعي أهل القرية، وبدفعهم إلى الخروج من دائرة العطالة التي تشل إرادة الثورة فيهم، وتجعل رد فعلهم على إهانة كرامتهم معوقاً.

وبعد انتصاره في أولى جولات صراعه مع المختار، وصوناً لهذا الانتصار، عمد سليم إلى انتهاج أسلوب عملي، أوصله في النهاية، إلى الصيرورة زعيماً... وكان قوام هذا الأسلوب وأساسه، هو تأكيد الأقوال بالأفعال، وتجسيد الطروحات النظرية وقائع ملموسة... وهكذا، فبعد أن اطمأن الجميع "لاتزانه وفطنته وصواب رأيه" وبعد أن "بات مرجعاً ومستشاراً في كل الأمور" سلّموا له بالزعامة... وما كادوا يفعلون حتى"فاجأهم ابن الخباز هذا أنه قدها، وأنه لم يضيع وقته في الماضي سدى. فرغم أنه خرج للعمل في سن مبكرة، لمساعدة والده الخباز في إطعام الأفواه الكثيرة، إلا أنه واصل تثقيف نفسه... ربما هو الوحيد الذي كان يسافر للمدينة للبحث عن كتب ومجلات فقط، يقال إنها تملأ خزانة ملابسه وتفيض، ولا يبخل بها على أحد، وماذا كانت النتيجة بعد أن صار "سليم الزعيم غير المتوج للقرية في عهدها الجديد."؟

في نظر شاهد عيان كوليد، تلميذ سليم وراوي قصة بطولته واستشهاده، قلب سليم عالم القرية... ذلك أنه "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ. حرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه".

وبعد، فهنا، وقبل المضي في إضاءة متغيرات أخرى هامة صنعها سليم وأمثاله، ثمة ضرورة للتوقف ملياً، والإشارة إلى ملاحظتين على جانب من الأهمية، الأولى، تتضمن الإيماء إلى ذلك التداخل العضوي بين أسباب حدوث معظم المتغيرات الحاصلة وبين نتائجها، في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد، مما يؤكد صحة توصيف الانتفاضة، بأنها ثورة شعبية متكاملة، شاملة.. أمتد تأثيرها إلى مختلف البنى المجتمعية الفلسطينية، في الوطن المحتل، وإلى الكثير من القناعات والمفاهيم السياسية القديمة... ومن الأمثلة الواضحة على ذلك التداخل، ما نلمسه، في قصة (الزمن الجديد)، من تداخل بين المتغيرات الاجتماعية والسياسية، بشكل خاص..

فسليم الثائر الملتزم بمبادئ ثورته، والمخلص لوطنه وشعبه، لم ينجح في تنحية الزعامة التقليدية عن موقعها القيادي، على المستوى الاجتماعي، فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً... وذلك حين استطاع إخراجها من دائرة التأثير والفعل، على مختلف المستويات الحياتية، وإصابة دورها، في سائر المجالات بالعطالة التامة... وبالمقابل، نلاحظ أن العوامل التي هيأت لصعود سليم إلى موقع الزعامة الاجتماعية، كانت نفسها التي رشحته لقيادة أبناء قريته سياسياً. على ضوء هذه الملاحظة، نتبين أنه من المتعذر فصل الحديث عن متغيرات اجتماعية وأخرى سياسية..

الملاحظة الثانية، تتضمن وجوب الانتباه إلى أن سليماً، بمن ترمز إليهم شخصيته القيادية، في القصة، لا يمكن توصيفه كقائد أو زعيم تاريخي، بل هو قائد مرحلة تاريخية متميزة، لا أكثر، تخبئ، في رحمها، زمناً جديداً مغايراً للذي ثار عليه سليم وأمثاله، كما تخبئ، أيضاً، القيادة التاريخية البديلة للقيادة الفلسطينية التقليدية التي نحاها سليم، في القصة، عن موقعها..

وواضح أن نبيل عودة كان واعياً لهذه الحقيقة، الأمر الذي جعله لا يتردد في ترك بطله سليم يسقط شهيداً، في نهاية القصة... فلو كان يرى فيه رمزاً للقيادة الفلسطينية التاريخية المفترض أن تظفر بعد الانتفاضة وتبقى، لكان من الخطأ موضوعياً، أن يتركه يستشهد... لأن استشهاده يعدّ، عندئد، إشارة مثبطة لمن هم بقيادته من ثوار المرحلة الراهنة...

بالطبع، لا توجد وسيلة لتخليد ثائراً استشهد، أعظم من التزام رسالته، ومن متابعة درب نضاله الساعي إلى تحقيق أهداف هذه الرسالة التي قضى قبل أن يراها وهي تتحقق فعلاً.. وهذا ما كثف نبيل عودة الإشارة إليه، في خاتمة قصته (الزمن الجديد)... وذلك في صيغة النداء الحار الذي وجهه وليد لأهل قريته، عقب تيقنه من استشهاد رفيق دربه وزعيمه سليم فقد راح وليد يجوب أزقة القرية مؤكداً: " سليم لم يمت.. سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد... سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان.. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر... سليم لا يموت. سليم لا يموت.. لا يموت.. لا يموت..".

ومع التطور الدلالي لهذه العلاقة الرمزية، صارت الأرض هي الحبيبة، وصار الشهيد هو عريسها الذي افتدى حريتها وخلاصها بدمه لنتأمل هذا المقطع الصغير من قصة (الزمن الجديد):
".. فجأة تنطلق زغردة من سماعة الجامع:
-عريسكم حسن استشهد يا شباب..
عشرات الزغاريد في كومبارس غريب الأطوار... تصفيق رتيب وغناء للعريس من قلب الجامع. هل هي القيامة؟ هل اختار الله هذه اللحظات لقيام الساعة؟
-مبروك يا أم الشهيد.
وزغاريد.. وغناء.. وزغاريد.."

إنها صورة مثيرة للدهشة والإعجاب، في آن معاً. صورة تثير القشعريرة في بدن القارئ انفعالاً وتأثراً.. ومصدر الإثارة فيها، لا يكمن، فقط، في كونها نقيض الصورة المألوفة لاستقبال خبر الموت العادي، في المجتمع العربي، بل في كونها، أيضاً مؤشراً قوي الدلالة على إمكانية استمرار عرب الوطن المحتل في ثورتهم، حتى تحقق القسط الأكبر من أهدافها، إن حالت الظروف التآمرية القاسية دون تحققها كلها.. ذلك أن شعباً له مثل هذه القدرة على العطاء اللامحدود، من البدهي أن تزداد امكانيات استمرار ثورته ونجاحها، كلما ازداد عدد ضحاياه وشهدائه.

*--النص منقول عن كتاب محمد توفيق الصواف " الإنتفاضة في أدب الوطن المحتل"!!