لحظة عدم السماح بسقوط الراية


التيتي الحبيب
الحوار المتمدن - العدد: 6898 - 2021 / 5 / 14 - 22:21
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


انها اللحظة التي لا زالت تلقي بظلالها على الحركة الشيوعية الى اليوم. وهذه اللحظة هي تلك الواقعة بعيد وفاة ماركس 1883 وبداية الحرب العالمية الاولى او الحرب العظمى.
في هذه اللحظة هناك اربعة شخوص لعبوا ادوارا محورية وهم انجلس بيبل كاوتسكي وروزا لوكسمبورغ فبليخانوف واخيرا لينين. في هذه الورقة سنعطي الكلمة الى بليخانوف وروزا لوكسمبورغ. اللحظة التي سنتابع وقائعها هي لحظة انهيار الاممية الثانية ( 1889- 1916 ) هذه الاممية التي اشرف على تأسيسها ورعاها انجلس وبداية تشكل عناصر البديل المتجسد في الاممية الثالثة ( 1919- 1945 ).
في سردية بليخانوف ( 1856- 1918 )
سنعتمد في هذه السردية على ما تضمنته "الوصية السياسية أفكار بليخانوف الأخيرة". نشرتها الصحيفة اليومية الروسية ( Nezavisimaya Gazeta ) بتاريخ 30-11-1999 اعدها عبد الحسين سلمان ونشرها على حلقتين في الحوار المتمدن. اثارت هذه الوثيقة نقاشا واسعا بين من يشكك في وجودها وبين من يراها وثيقة حقيقية لكاتبها بليخانوف.
وهذه بعض القضايا التي نقتبسها من وصية بليخانوف:
"" أنا الآن، كماركسي – ديالكتيكي، سأسمح لنفسي لبعض الوقت أن أكون "ناقداً" لماركس. ودون أن أتخلى عن أو أتبرأ من أي شيء كتبته في الماضي، سأفصح عن "حماقة" لا تغتفر من وجهة نظر البلاشفة. وأعتقد أن وجودي بين الماركسيين لسنوات طويلة يمنحني الحق في ذلك. أما لماذا قمت بوضع كلمة "ناقد" بين الأقواس، فهذا ما سيصبح واضحاً فيما بعد. خلال الأشهر الأخيرة التي أظهرت بصراحتها أن أيامي قد أصبحت معدودة(10)، أمعنت التفكير كثيراً، وفي النهاية قررت صياغة ما كان يقلقني منذ زمن بعيد بحداثته، ويحيرني لعدم وجود إثباتات. أنا أعتقد أن ديكتاتورية الطبقة العاملة بمفهوم ماركس لن تتحقق أبداً – لا الآن ولا في المستقبل، وها هو السبب. فبقدر تغلغل وترسيخ آلات الإنتاج الجديدة المعقدة المصممة على العمل بالكهرباء، وعلى ضوء إنجازات العلم التالية، سوف تتغير التركيبة الطبقية للمجتمع ليس في صالح البروليتاريا، بل وستصبح البروليتاريا نفسها طبقة أخرى. وسيبدأ تعداد البروليتاريا، تلك التي ليس لديها ما تفقده، في التقلص، ومن ثم ستحتل الإنتلجنسيا المركز الأول من حيث التعداد ومن حيث الدور في عملية الإنتاج. لم يقم أي أحد بعد بالإشارة إلى هذه الإمكانية على الرغم من أن الإحصائيات الموضوعية تتحدث عن أن صفوف الإنتلجنسيا منذ بداية القرن العشرين تتزايد في علاقة تناسبية أسرع من صفوف العمال. وعلى الرغم من أن الإنتلجنسيا تبقى، إلى وقتنا هذا، مجرد "خادمة" للبرجوازية، إلا أنها في الوقت ذاته تبقى أيضاً تلك الطبقة المميزة والتي تمتلك مهمة تاريخية لها خصوصيتها. فالإنتلجنسيا باعتبارها أكثر طبقات المجتمع تعليماً وثقافة مكلفة بحمل مشعل التنوير والأفكار الإنسانية والتقدمية إلى الجماهير. إنها – شرف وضمير وعقل الأمة. وأنا لا أشك إطلاقاً بأنه في أقرب وقت ممكن سوف تتحول الإنتلجنسيا من "خادمة" للبرجوازية إلى طبقة لها خصوصيتها وتأثيرها بشكل خطير من حيث تعدادها الذي ينمو باطراد. ومن حيث دورها الذي سيتركز في أثناء عملية الإنتاج في توصيل قوى الإنتاج إلى حد الكمال: ابتكار آلات جديدة، وأدوات جديدة، وتكنولوجيات جديدة، وخلق عامل رفيع التعليم والثقافة.
إن تنامي دور الإنتلجنسيا في عملية الإنتاج لا بد وأن يؤدي إلى تخفيف التناقضات الطبقية، خاصة وأن تلك الحدود التاريخية الاجتماعية الفلسفية، مثل الأخلاق والعدالة والمبادئ الإنسانية والثقافة والحق، التي تنطوي على جانبين: عام وطبقي، هي حدود قريبة إلى الإنتلجنسيا بالذات. وإذا كان الجانب الثاني كوظيفة للتناقضات الطبقية يمكنه أن يتعرض إلى طفرة ثورية وتشكيل مبادئ مسيطرة، فالأول – يتحدد كلياً وبالضبط بدرجة الإنتاج المادي. وبالتالي يتطور بصورة متزايدة وارتقائية. ونظراً لأن هذا الجانب يعتبر إنسانياً عاماً من حيث الطابع – حيث الإنتلجنسيا بالذات هي المنوطة به بدرجة كبيرة – فسوف ينعكس بصورة مفيدة على جميع طبقات المجتمع، ويخفف من التناقضات الطبقية، ويلعب دوراً متنامياً باستمرار. وعلى هذا النحو ستكون إحدى النتائج الرئيسية للتقدم المادي هي تقليل دور الجانب الطبقي للحدود المذكورة وزيادة دور جانب المبادئ الإنسانية العامة. وعلى سبيل المثال، ففي المستقبل لا بد وأن تتسع أطر المبادئ الإنسانية (كحد من الحدود السابقة)، التي تفهم في أيامنا هذه كمنظومة التصورات حول قيم الإنسان ومصلحته وحقه، إلى مفهوم ضرورة الاهتمام بكل ما هو حي، وبالطبيعة المحيطة، وهذا هو تطوير وتقوية دور الجانب الإنساني العام لهذا الحد."
تعليقنا:
بعد مائة سنة على هذا الكلام نرى انه جانب الصواب في خطوطه العريضة وحتى في تفاصيله. يا بليخانوف ارتاح ارتاح لازالت البروليتاريا تتوسع والعديد من القطاعات تنضاف الى مجال العمل الماجور النتح لفائض القيمة وعالم السلع تنوع بين السلع مادة وخدمة.
لنرجع الى السيد بليخانوف في وصيته وافكاره السياسية الاخيرة:
" ولعل التطور الشديد لقوى الإنتاج، وتزايد عدد الإنتلجنسيا سوف يعملان بشكل مبدئي على تغيير الظرف الاجتماعي. والعامل المطلوب منه معرفة أكثر من أجل توجيه الآلة المعقدة سوف ينتهي دوره كزائدة إضافية أو كذيل لها. وسوف يتزايد من كل بد ثمن قوة العمل، وبالتالي أجر العامل، لأنه من أجل إعادة إنتاج ذلك العامل يتطلب الأمر مصروفات أكبر. وسوف يتم الاستغناء عن استغلال جهد الأطفال نتيجة لتعقيد الآلات. وعلى ضوء التعليم ومستوى الثقافة والأفكار سوف يرتفع العامل إلى مستوى الإنتلجنسيا. وستكون ديكتاتورية البروليتاريا في هذه الحالة نوعاً من أنواع العبث. ما هذا؟ هل هو ابتعاد أو انحراف عن الماركسية؟ لا، وألف لا! أنا واثق: أن ماركس مع هذا الانعطاف للأحداث، وحدوث ذلك في أثناء حياته، كان سيرفض على الفور شعار ديكتاتورية البروليتاريا.
وبقدر التغير النوعي لقوى الإنتاج سوف تتشكل طبقات جديدة، وعلاقات إنتاج جديدة، وسيجري الصراع الطبقي بشكل جديد، وستتغلغل الأفكار الإنسانية بعمق في جميع طبقات المجتمع. وسوف يتعلم المجتمع، حتى الذي بقي منه رأسمالياً من حيث الجوهر، تجاوز أزماته. وستعمل الأفكار الإنسانية والإنتاج الضخم على تحييد عملية الإفقار. إنني أحياناً أفكر في الفترة الأخيرة أنه حتى نظرية ماركس التي ولدت في ظروف الحضارة الأوروبية، من المشكوك فيه أن تصبح نظاماً عاماً لوجهات النظر، لأن التطور الاجتماعي – الاقتصادي للعالم يمكن أن يسير على نمط المراكز المتعددة. في سياق ما ورد أعلاه ليس من المستبعد أن تكون بعض أفكار السيد توجان بارانوفسكي غير خاطئة كما كنت أعتقد. ولكني أطمئن الماركسيين الحاليين – لن يحدث ذلك في القريب العاجل. وسوف يظل اسم ماركس، الذي صنع الصراع الطبقي، منقوشاً لفترة طويلة على رايات الثوريين.
إن التقليل من قيمة إسهامات ماركس أمر غير ممكن. فإن يعيش العمال الإنجليز في الوقت الحاضر، رغم الحرب، بشكل أفضل، ويملكون حريات سياسية أكبر مما كانت عليه في منتصف القرن الماضي – فهذا إسهام ماركس! وأن عمال الزمن القادم، دون أي شك، سوف يعيشون أفضل بكثير وفي مجتمع أكثر ديمقراطية من مجتمع اليوم – فهذا إسهام ماركس! وحتى الرأسمالية، والرأسماليون أنفسهم سوف يتغيرون إلى الأفضل (البلاشفة وحدهم هم الذين لا يرون ذلك ) – هذا أيضاً إسهام ماركس!
لقد أدرك الرأسمالي المعاصر منذ زمن أن الأكثر منفعة له هو التعامل مع العامل المكتفي الراضي أكثر من الجائع الساخط(11) . ولذلك فلا أعتقد كثيراً، وكثيراً لأسباب أخرى، أن الرأسمالية ستدفن قريباً. فمتابعاتي لتطور الرأسمالية في أوروبا، والتي قمت بها منذ بداية رحيل ماركس وخاصة من بداية هذا القرن، تدل على أن الرأسمالية شكل اجتماعي مرن يبدي ردود أفعال على النضال الاجتماعي، يتغير ويتحول ويتكيف، يتأنسن ويتحرك في اتجاه فهم وإدراك وتكييف أفكار متفرقة من الاشتراكية. وإذا كان الأمر كذلك، فهي إذن ليست في حاجة إلى حفار قبور. وفي كل الأحوال فالرأسمالية لديها مستقبل يبعث على الحسد. وها هي المراحل الممكنة أو المتوقعة لتطور الرأسمالية – الرأسمالية القومية المتوحشة، الرأسمالية الدولية المتوحشة، الرأسمالية الليبرالية بعناصر ديمقراطية، الرأسمالية الليبرالية – الديمقراطية، الرأسمالية الإنسانية – الديمقراطية بمنظومة متطورة للتأمينات الاجتماعية. وأنا لا أرى ضرورة لمحاولات التنبؤ أو التكهن بملامح محددة بالضبط للمرحلة الأخيرة التي يمكن أن تسير فيها عناصر الرأسمالية والاشتراكية جنباً إلى جنب ولمدة طويلة: ستتنافس في أمور ما، وستكمل بعضها بعضاً في أمور أخرى ومن الممكن في المستقبل أن تموت الرأسمالية من تلقاء نفسها، في بطء ومن دون مرض، ولكن ذلك يحتاج إلى قرن على الأقل، وربما ليس إلى قرن واحد. فهل هذا يعني أنني تراجعت عن الطفرات الثورية؟ لا، إطلاقاً! فسوف تكون موجودة بالطبع. فأي تغير نوعي لعلاقات الإنتاج، حتى غير الملحوظ – يعتبر ثورة. وإذا سارت الأمور بالشكل الذي أفترضه، فما هو الشعار الذي يمكن أن يرفعه الثوريون الجدد؟ ديكتاتورية الإنتلجنسيا؟ بيد أن سلطة الشغيلة – هو الشعار الذي لن يفقد معناه وسيظل صحيحاً! فمن يعيش على عمله وجهده، هو الذي يجب أن يقرر ما ينبغي أن يكون عليه البناء السياسي والتشريعي. هذا الشعار كررته أكثر من مرة في العام الماضي قاصداً به تحالف جميع القوى الحية التي تهمها مصالح القوى العاملة عمالاً كانوا أم فلاحين أم إنتلجنسيا."
في التعليق:
على النقيض من زعم بليخانوف بانسنة الراسمالية فاننا نعيش الراسمالية المتوحشة. يعلن ان قضية حفار قبور الراسمالية لم تعد به اية حاجة وهذا معناه سقطت رسالة البروليتاريا التاريخية ولم تعد هي الطبقة النقيض. هذا الكلام استعاره منظروا ما بعد الحداثة وجميع المرتدين عن الماركسية.
لنواصل عرض كلام وافكار بليجانوف في وصيته:
" (.....) إن اتحاد الطبقة العاملة مع الفلاحين، والذي يتحدث عنه دائماً لينين، أمر غير ممكن. فالفلاح في حاجة إلى الأرض، وليست له مصلحة في الاشتراكية، إذ إن العملية الزراعية بطبيعتها تجعل الفلاح أقرب إلى الرأسمالية منه إلى الاشتراكية. ومن حيث المبدأ، فهذا الاتحاد كان من المقدر له أن يكون ممكناً في ظروف الديمقراطية والمساواة السياسية والتبادل العادي للسلع، ولكن ليس أبداً في ظل زعامة البروليتاريا. فزعامة البروليتاريا تهين الفلاحين عن عمد، وترى أن دورهم مجرد دور تابع. تلك النظرة إلى الفلاحين من جانب البلاشفة تعطي الأزمة الاقتصادية المشار إليها ظلالاً سياسية."
في التعليق
بمثل هذه المواقف يكون بليخانوف قد قطع الصلات مع الماركسية. ان يحاول دق اسفين بين البروليتاريا والفلاحين وان يدعي بعدم امكانية قبول الفلاحين لزعامة البروليتاريا فانه يتجاهل هذه الحقيقة وهي ان الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة التي لن تتحرر الا بتحرر المجتمع برمته. وتطورات الاحداث في الاتحاد السوفياتي كذبت تخمينات بليخانوف لان الفلاحين الفقراء والمعدمين كانوا الحصن والمدافع على الاشتراكية وبلد الاشتراكية.
فلنتابع عرض الافكار السياسية الاخيرة لبليخانوف والواردة في وصيته.
"7- حول الدولة والاشتراكية ومستقبل روسيا
إنني أتفق مع فانديرفيلد[h] في أن كلمة "الدولة" يمكن تفسيرها بمفهوم ضيق وواسع. وأتفق أيضاً في أن ماركس وإنجلز قد أسهما في تفسير هذه الكلمة في إطار المفهوم الضيق عندما تحدثا عن تلاشي الدولة. ولكن من غير الممكن أن ندينهما في هذا الأمر: فالحديث عن الدولة بالمعنى الواسع للكلمة كان من الأمور السابقة لأوانها في زمنهما. ولكن الدولة مازالت إلى وقتنا الحاضر هي أداة سيطرة طبقة على أخرى. ووظيفة الدولة كمعبر عن المصالح المدنية العامة، وكمنظم عام، لم ترتسم ملامحها بشكل واضح إلا في السنوات العشر الأخيرة فقط. أما الدولة كنتيجة لعداء التناقضات الطبقية، وكجهاز للهيبة السياسية، وكأداة لقهر طبقة لأخرى، سوف يبطل مفعولها. وسيأتي زمن تتلاشى فيه الطبقات وتنمحي الحدود. ولكن الدولة كشكل من أشكال تنظيم الشعب – مواطنو الكرة الأرضية في المستقبل – سوف تبقى. زد على ذلك أن دورها سوف يتنامى باستمرار كنتيجة لتنامي القضايا والمشاكل العالمية أو الكونية: التضخم السكاني على الأرض، استنزاف الموارد الأرضية، ندرة الطاقة، الحفاظ على الغابات والأراضي المزروعة، تلوث الكرة الأرضية والمياه والجو، الصراع مع الكوارث الطبيعية... إلخ."
في التعليق.
كانت موضوعة الدولة بمثابة الصخرة التي اصطدمت بها جماجم التحريفية وفيها تعرت حقيقتها التي حاولت دائما اخفاءها وعدم التصريح بها المباشر. لكن بليخانوف هنا يقدم تاصيل الموقف التحريفي هذا. انه يحاول ادخال الغموض والضبابية على الموضوعة. انه حاول التمييز بين الفهم الضيق للدولة وتلك هي نظرة ماركس وانجلس والفهم الواسع. فبدون الاكثار من الانشاء والطواف حول الموضوع فان الدولة في نظر بليخانوف ستضمحل في مفهومها الضيق بانتفاء الطبقات لكنها ستستمر في مفهومها الواسع لأنها ستكون مسؤولة على تدبير التناقضات الجديدة.يرفض انتهاء الدولة وهو في الحقيقة هنا لا يقوم الا بمواصلة التفكير الهيجلي للدولة باعتبارها تجسيد الفكرة المطلقة والفكرة المطلقة في اعتقاد بليخانوف لا يمكنها ان تلتحق بالعدم حسب قانون نفي النفي... في موضوعة الدولة نجد بليخانوف هيجلي حتى النخاع وقد قطع صلاته نهائيا بالمادية التاريخية.
نختم هذه الاقتباسات من وصية بليخانوف بفكرته عن الاشتراكية كما يتصورها كماركسي دياليكتيكي كما يزعم.
" بالقدر الذي ستتلاشى به الدولة بالمفهوم الضيق، سوف يلعب العلماء الدور الأكبر في توجيه هذه الدولة وإدارتها. أي أن البناء السياسي الفوقي سوف يتحول تدريجياً إلى بناء فوقي "للنفوذ العلمي". ولكن كل ذلك سيكون في المستقبل. أما الآن فمن الضروري السعي في اتجاه أن يعكس البناء السياسي الفوقي مصالح الشغيلة وهو ما لا يمكن تحقيقه بالكامل إلا في ظل الاشتراكية. وبالتالي فالثورة الاشتراكية بهذا المفهوم هي الهدف الذي تسعى إليه البروليتاريا. وينبغي أن نتذكر في أثناء ذلك عدم وجود ولو ثورة واحدة قادت في نهاية المطاف إلى تغيرات راسخة ومتطورة على شكل طفرات في العلاقات الاجتماعية والإنتاجية، وكل ما في الأمر أنها سرّعت من تطورها. في هذا الإطار تعتبر مقدمة إنجلز لطبعة "المانيفستو" باللغة الإنجليزية العام 1888م في غاية الأهمية، حيث شدد على الدور المميز لعمليات التدرج الطبيعي للتطور الاجتماعي. المهم أيضاً هو أن هذه الطبعة التي تمت ترجمتها من اللغة الألمانية إلى الإنجليزية تحت إشراف إنجلز المباشر، انتهت بشعار "يا شغيلة العالم، اتحدوا!" وهو الشعار الذي يتساوى أبداً مع شعار "يا عمال العالم، اتحدوا"(39) .
إن الثورة الاشتراكية المنوط بها القضاء على الاستغلال والطبقية، لن تفعل لا هذا ولا ذاك في المرحلة الأولى. زد على ذلك أن الثورة الاشتراكية السابقة لأوانها تنطوي على آثار سلبية خطيرة. إن أي شخص يعرف قوانين نفي النفي يمكنه بسهولة استنتاج أن دور البناء السياسي الفوقي يتغير بصورة دورية ومن شكل إلى شكل، فأحياناً يقوى، وأحياناً أخرى يضعف. والجميع يعترف أن دور البناء السياسي الفوقي في ظل الاشتراكية يجب أن يتزايد نظراً لأن الدولة ستأخذ على عاتقها وظائف تنظيمية إضافية: التخطيط والرقابة والتوزيع... إلخ، وبهذا المفهوم يكون اليناء السياسي الفوقي في ظل الاشتراكية، والذي ينفي البناء السياسي الفوقي الرأسمالي، أكثر قرباً إلى البناء الفوقي للإقطاع الاستبدادي منه إلى البناء الفوقي للرأسمالية. هذا الأمر يهدد بالخطر في ظل عدم وجود الديمقراطية – وهي لن تكون موجودة كما أشرنا في ظل الاشتراكية اللينينية – ويمكن أن تتحول الدولة إلى إقطاعي أكثر شراسة وفظاعة من الحاكم الأوحد المستبد، نظراً لأن الأخير – سواء كان إنساناً أم دولة – هو آلة قاسية وبلا شخصية. إنني على يقين من أن الدولة الاشتراكية اللينينية سوف تكون بالضبط ذلك الإقطاعي، وخاصة في السنوات العشر الأولى، هذا طبعاً إذا استطاع البلاشفة التغلب على الأزمات الثلاث الأولى التي تحدثت عنها أعلاه.
بعد قمع مقاومة البرجوازية، وهو الأمر الذي يمكن أن يتحقق بسهولة ومن دون عنف إذا كانت البروليتاريا تشكل أغلبية السكان، يجب على ديكتاتورية البروليتاريا مساواة جميع الطبقات في الحقوق، والوصول إلى سيادة القانون والعدالة وتحقيقها. أما تلاشي الطبقات – فهذا أمر يتعلق بالمستقبل البعيد. ولذلك يجب على الدولة الاشتراكية قبل كل شيء تأمين السلام الطبقي والدفاع عن مصالح الشغيلة. ولكن في روسيا المتخلفة التي لم تعرف أبداً الديمقراطية، والتي يسود فيها الفقر والجهل والأمية، لن يتمكن البلاشفة من تأمين لا هذا ولا ذاك.
إن التغييرات الثورية للتكوين الاجتماعي في روسيا أمر غير ممكن إلا في ظل التغيير الثوري لثقافة جميع طبقات المجتمع ووعيها. في ظل هذا الظرف فقط يمكن تطوير قوى الإنتاج بصورة سريعة. بيد أن ذلك قد أصبح من المستحيلات: لأن ثقافة الشعب ووعيه هما وظيفة قوى الإنتاج وليس العكس. وفي حالة إذا ما قام البلاشفة بتعبئة الإنتلجنسيا، يمكنهم بالطبع التخلص من الأمية سريعاً. ولكن، وهذا أولاً، أن يتعلم الناس القراءة – فهذا يعني أنهم سوف يصبحون مثقفين. ثانياً، أن يتعلم الناس القراءة، فأول ما سيفهمونه هو ماهية ديكتاتور البروليتاريا على الطريقة اللينينية(40) ."
في التعليق.
في هذا المستوى من تحليله يصل بليخانوف الى القطيعة مع الماركسية التي توجه البروليتاريا الى الثورة وتحرضها على انتزاع السلطة من يد البرجوازية. انه ينظر للانتقال التدريجي ويحاول الاختباء وراء انجلس ويسوق التحوير الذي حصل في طبعة 1888 للبيان الشيوعي بالانجليزية حيت تمت ترجمة الشعار الخالد " ياعمال العالم اتحدوا " بشعار " يا شغيلة العالم اتحدوا " وان انجلس قبل بهذه الترجمة وزكاها. في الحقيقة لم ينحصر الموضوع في مثل هذه القضية بل تعداه الى العديد من المواقف التي اتخذها انجلس او نسبت له واعتمدتها قيادة الاشتراكي الديمقراطي الالماني لدعم وترسيخ توجهها البرلماني وخط الانتقال السلمي للاشتراكية. كانت لحظة حرجة للغاية في المسيرة التاريخية للحركة الشيوعية العالمية. كادت ان تسقط راية الماركسية الثورية وان تتحول الحركة الشيوعية العالمية الى تابع او مجرورة من طرف القيادة التحريفية المتنفذة في الاممية الثانية بزعامة كاوتسكي.
جاءت المواجهة النظرية والسياسية من مصدرين صاعدين المصدر الاول هو المعارضة اليسارية او التوجه الثوري داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني بزعامة روزا لوكسمبورغ وكارل لايبنيخت وفي روسيا الملتحقة بالحركة الشيوعية العالمية وتشكل التجربة الروسية نموذج الدماء الجديدة في الماركسية الثورية بزعامة لينين.
نسوق هنا السردية الثانية التي مكنت من التصدي للتحريفية او ما سمي بتجديد الماركسية وتطويرها بمحاربة الجمود العقائدي او عبادة النصوص. هذه السردية تعتمد فقرات مهمة من خطاب روزا لوكسمبورغ في مؤتمر تأسيس الحزب الشيوعي الثوري الالماني سبارتاكوس.
في سردية روزا لوكسومبورغ ( 1871- 1919 )
نقتبس هنا مقتطفات من "في برنامج سبارتاكوس"
نص الخطاب الذي ألقته روزا لوكسمبورغ في 30 ديسمبر 1918 في المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي لألمانيا
" أيها الرفاق:
مهمتنا اليوم أن نبحث ونتبنى برنامجا. ولا يدفعنا إلى ذلك فحسب أننا البارحة أسسنا حزبا جديدا وأن على الحزب الجديد أن يصيغ برنامجا. إن الحركات التاريخية العظيمة هي الأسباب الحاسمة لمداولاتنا اليوم، فقد حان الوقت لأن يوضح برنامج البروليتاريا الإشتراكية بكامله على أساس جديد. فنحن مواجهون بموقف كذلك الذي واجهه ماركس وإنجلز عندما كتبا «البيان الشيوعي»«قبل سبعين سنة. وكما تعرفون جميعا، عالج البيان الشيوعي الاشتراكية وتحقيق أهداف الاشتراكية بوصفها المهام الملحة للثورة البروليتارية. كانت هذه هي الفكرة التي مثلها ماركس وإنجلز في ثورة 1848، وبهذه الطريقة أيضا رأيا أساس العمل البروليتاري في الحقل العملي. وقد كان ماركس وإنجلز حينئذ يعتقدان، كما كان يعتقد كل قادة حركة الطبقة العاملة، أن الولوج إلى الاشتراكية وشيك الوقوع، فكل ما يتطلبه الأمر هو القيام بثورة سياسية للاستيلاء على السلطة السياسية للدولة فتنتقل الاشتراكية بذلك فورا من مجال الفكر إلى مجال اللحم والدم. وفيما بعد، كما لا بد تعلمون، قام ماركس وإنجاز بمراجعة كاملة لهذه النظرة. فنجد في المقدمة المشتركة التي كتباها للطبعة الثانية من البيان الشيوعي في العام 1872 المقطع الثالي: «فلا تعلق أهمية قائمة بذاتها على التدابير الثورية المذكورة في نهاية الفصل الثاني. ونحن لو عمدنا إلى إنشاء هذا المقطع اليوم، لأختلف في أكثر من نقطة عن الإصل. لقد شاخ هذا البرنامج اليوم في بعض نقاطه، نظرا للرقي العظيم في الصناعة الكبرى خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة وما رافق هذا الرقي من تقدم الطبقة العاملة في تنظيمها الحزبي، ونظرا للتجارب الواقعية التي تركتها ثورة شباط/فبراير [5] أولا، ثم على الخصوص كومونة باريس حين كانت السلطة السياسية لأول مرة بين يدي البروليتاريا لمدة شهرين. فقد برهنت الكومونة بصورة خاصة أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تكتفي بالاستيلاء على جهاز الدولة القائم واستخدامه في غاياتها الخاصة».
فماذا تقول الفقرة التي أعلن ماركس وإنجلز أنها شاخت؟ إنها تقول:
«وستستخدم البروليتاريا سيادتها السياسية لأجل انتزاع الرأسمال من البورجوازية شيئا فشيئا، ومركزة جميع أدوات الانتاج في أيدي الدولة، أي في أيدي البروليتاريا المنظمة في طبقة حاكمة، وزيادة كمية القوى المنتجة وإنمائها بأسرع ما يمكن.
«ولا يتم ذلك طبعا في بادئ الأمر إلاّ بخرق حق التملك وعلاقات الانتاج البورجوازية بالشدة والعنف، أي باتخاذ تدابير تتراءى من وجهة النظر الاقتصادية غير كافية ولا مأمونة البقاء، ولكنها تتعاظم وتتجاوز نفسها بنفسها خلال الحركة وتكون ضرورية لا غنى عنها كوسيلة لقلب أسلوب الانتاج بأسره.
«وستختلف هذه التدابير طبعا في مختلف الأقطار. غير أنه يمكن تطبيق التدابير التالية، بصورة عامة تقريبا في أكثر البلاد تقدما ورقيا:
1- نزع الملكية العقارية وتخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة.
2- فرض ضرائب متصاعدة جدا.
3- إلغاء الوراثة.
4- مصادرة أملاك جميع المهاجرين والعصاة المتمردين.
5- مركزة التسليف كله في أيدي الدولة بواسطة مصرف وطني رأسماله للدولة ويتمتع باحتكار تام مطلق.
6- مركزة جميع وسائل النقل في أيدي الدولة.
7- تكثير المصانع التابعة للدولة وأدوات الإنتاج وإصلاح الأراضي البور وتحسين الأراضي المزروعة حسب منهاج عام .
8- جعل العمل إجباريا للجميع على السواء وتنظيم جيوش صناعية، وذلك لأجل الزراعة على الخصوص.
9- الجمع بين العمل الزراعي والصناعي واتخاذ التدابير المؤدية تدريجيا إلى محو الفرق بين الريف والمدينة.
10- جعل التربية عامة ومجانية لجميع الأولاد ومنع تشغيل الأحداث في المصانع كما يجري اليوم، والتوفيق بين التربية وبين الانتاج المادي، الخ…»
في التعليق.
عودة روزا لوكسمبورغ الى " البيان الشيوعي " وفي نفس الفقرات التي عاد اليها بليخانوف بدوره. لكن بمنهجية متناقضة تماما بين روزا وبليخانوف. هذا الاخير اعتمد هذه القضايا ليعمقها في الاتجاه الذي عرضنا له أي في اتجاه التخلي على الروح الثورية للماركسية بنما سنرى روزا لوكسمبورغ تدفع الامور في اتجاه جديد وثوري وبجرأة نادرة وشجاعة.
فلنتابع سردية هذه القائدة الثورية الفذة.
" هذه «هي كما تعلمون المهام التي تجابهنا اليوم مع بعض التعديلات الطفيفة، فبإجراءات كهذه يتعين علينا أن نحقق الإشتراكية. تخللت الفترة ما بين اليوم الذي صيغ فيه هذا البرنامج وساعتنا هذه سبعون سنة من التطور الرأسمالي، فأعادتنا العملية التطورية التاريخية إلى وجهة النظر التي تخلى عنها ماركس وانجلز في العام 1872 على أنها خاطئة. وفي ذلك الوقت كان هناك من الأسباب ما يدعوهما إلى الاعتقاد بأن وجهات نظرهما السابقة كانت خطأ. بيد أن التطور اللاحق لرأس المال قد جعل ما كان خطأ 1872 يصبح اليوم صحيحا، فيكون هدفنا الفوري الآن تحقيق ما ظن ماركس وإنجلز أن عليهما تحقيقه في العام 1848 . ولكن بين تلك النقطة من التطور في بداية العام 1848 وبين وجهات نظرنا ومهامنا الملحة يمتد تطور كامل لا للرأسمالية فحسب ولكن أيضا للحركة الاشتراكية العالمية. وفوق كل شيء تخلل هذه الفترة التطورات التي سبق وأشرنا إليها في ألمانيا بوصفها الأرض الرائدة للبروليتاريا الحديثة. لقد اتخذ تطور الطبقة العاملة مميزا. فعندما قام ماركس وإنجلز بعد خيبات الأمل في 1848 بالتخلي عن فكرة أن البروليتاريا تستطيع تحقيق الاشتراكية مباشرة، ظهرت إلى الوجود في كل البلدان أحزاب إشتراكية تلهمها أهداف مختلفة جدا. وأعلنت هذه الأحزاب أن غرضها المباشر العمل التفصيلي والنضال اليومي في الحقلين السياسي والصناعي. فتتكون بهذه الطريقة الجيوش البروليتارية بالتدريج، وبالتدريج تتهيأ هذه الجيوش لتحقيق الاشتراكية عندما ينضج التطور الرأسمالي. وبذلك أقيم البرنامج الاشتراكي على أساس مختلف تماما، واتخذ التحول في ألمانيا شكلا نموذجيا بصفة مميزة. فقد حددت الاشتراكية الديموقراطية، حتى الانهيار في 4 آب /غشت 1914، موقفها على أساس «برنامج إيرفورت»، فوضعت المهام المسماة صغيرة ومباشرة في المقدمة بينما أصبحت الاشتراكية مجرد نجمة هادية بعيدة المنال. بيد أن الأهم مما كان مكتوبا في البرنامج هو الطريقة التي فسر فيها هذا البرنامج في العمل. ويجب من وجهة النظر هذه أن تعلق أهمية كبرى على واحدة من الوثائق التاريخية للحركة العمالية الألمانية، وهي المقدمة التي كتبها فريدريك إنجلز للطبعة التي صدرت عام 1895 لكتاب ماركس «الصراعات الطبقية في فرنسا». ولست الان أطرح المسألة مجددا على أسس تاريخية، فالمسألة ذات صبغة واقعية جدا. ذلك أن واجبنا الملح اليوم هو إعادة وضع برنامجنا على الأساس الذي وضعه ماركس وإنجلز في العام 1848. وأننا لنجد لزاما علينا بالنظر إلى التحولات التي طرأت بفعل عملية التطور التاريخية منذ ذلك الحين أن نقوم بمراجعة عامة لوجهات النظر التي قادت الاشتراكية الديموقراطية الألمانية إلى انهيار الرابع من آب / غشت. ونحن اليوم بصدد هذه المراجعة رسميا.
كيف تصور انجلز المسألة في مقدمته الشهيرة لكتاب «الصراعات الطبقية في فرنسا» التي وضعها في العام 1895، أي بعد وفاة ماركس باثني عشر عاما؟ بين إنجلز، بادئ ذي بدء وهو يستعيد عام 1848، أن الاعتقاد بأن الثورة الاشتراكية وشيكة قد أصبح اعتقادا لا يرجى. وتابع يقول:
«لقد بين التاريخ أننا جميعا كنا مخطئين في اعتقادنا هذا. وبين أن حالة التطور الاقتصادي في القارة في ذلك الحين لم تكن ناضجة البتة للقضاء على الانتاج الرأسمالي. وقد أثبت ذلك الثورة الاقتصادية التي حدثت في القارة بأسرها. إذ قامت الصناعة الكبيرة في فرنسا والنمسا وهنغاريا وبولونيا، ومؤخرا في روسيا. وأصبحت ألمانيا بلدا صناعيا من الدرجة الأولى، وذلك كله على قاعدة رأسمالية، قاعدة كان لا يزال عليها في العام 1848 أن تتسع وتمتد إلى حد كبير».
وبعد أن يلخص انجلز التغيرات التي طرأت في الفترة ما بين التاريخين، ينتقل إلى بحث المهام الملحة للحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. فيكتب قائلا:
«وكما تنبأ ماركس، نقلت حرب 1870-1871 وهزيمة الكومونة مركز ثقل الحركة العمالية الأوروبية من فرنسا إلى ألمانيا. وكان من الطبيعي أن تنقضي سنوات عدة قبل أن تستطيع فرنسا استعادة قواها بعد النزيف الدموي في أيار /ماي 1871. ومن جهة أخرى، كانت الصناعة تتطور بسرعة متعاظمة أبدا بفعل الجو القسري الذي احدثه تدفق البلايين الفرنسية [6] . وأسرع من ذلك وأثبت كانت تنمو الاشتراكية الديموقراطية الألمانية، وذلك بفضل الاتفاقية التي أتطاع العمال الألمان بموجبها استعمال حق الاقتراع العام (للذكور) الذي أقر في العام 1866. ولقد بان النمو المذهل للحزب أمام العالم الأجمع بشهادة الأرقام التي لا يستطيع أن ينكر أهميتها أحد».
وهنا أورد إنجلز الأرقام الشهيرة التي تبين نمو الأصوات التي حصل عليها الحزب في انتخابات اثر أخرى حتى تضخمت هذه الأرقام ووصلت إلى الملايين. واستخلص انجلز من هذا التقدم الذي أحرزه الحزب النتيجة التالية:
«كان استخدام التصويت البرلماني استخداما ناجحا يستتبع قبول البروليتاريا لتاكتيك جديد تماما، وقد شهدت هذه الطريقة الجديدة تطورا سريعا. فقد تأكد أن المؤسسات السياسية التي تتمثل بها سلطة البورجوازية يمكن أن تستخدم كنقطة انطلاق تعمل منها البروليتاريا للاطاحة بهذه المؤسسات السياسية ذاتها. وقد اشترك الاشتراكيون الديموقراطيون في انتخابات المجالس التشريعية المحلية والمجالس البلدية والمحاكم الصناعية. وكانت البروليتاريا تتحدى احتلال البورجوازية لهذه القلاع الانتخابية حيثما كان بإمكان البروليتاريا أن تؤمن صوتا فعالا. ومن هنا أصبحت البورجوازية وكذلك الحكومة مذعورة للنشاطات الدستورية التي يقوم بها العمال أكثر من ذعرها للنشاطات غير الدستورية، وأصبحت تخشى نتائج الانتخابات أكثر مما تخشى نتائج الثورة».
ويضيف إنجلز نقدا مفصلا للوهم القائل أنه يمكن للبروليتاريا في ظل الظروف الرأسمالية الحديثة أن تحقق للثورة أي شيء كان بقتال الشوارع.بيد انه يبدو لي أننا اليوم في خضم ثورة ، ثورة متسمة بطابع قتال الشوارع وكل ما يستتبعه، ويبدو لي كذلك أنه حان لنا أن نحرر أنفسنا من وجهات النظر التي قادت السياسة الرسمية للاشتراكية الديموقراطية الألمانية حتى يومنا هذا ،من وجهات النظر التي تشترك في حمل مسؤولية ما حدث في الرابع من آب /غشت 1914 (أنصتوا! أنصتوا!)."
في التعليق.
لقد لخصت ما حدث من تطورات عطت 70 سنة من تجربة الحركة الشيوعية واستطاعت ان تضع القضايا الجوهرية بطريقة موضوعية يصعب معها التشكيك في الاتنتاجات. انه المنهج المادي التارخي وهو ما مكنها من الوصول الى الاستنتاجات النوعية التالية:
" لست أقصد أن أقول ضمنا أن إنجلز يتحمل شخصيا بناء على هذه الأقوال جزءا من مسؤولية خط سير التطور الاشتراكي في ألمانيا كله. إنني أريد فقط أن ألفت انتباهكم إلى أحد الأدلة الكلاسيكية على الآراء السائدة في الاشتراكية الديموقراطية الألمانية، تلك الآراء التي أثبتت أنها ذات أثر قاتل على الحركة. يبين انجلز في هذه المقدمة، بوصفه خبيرا في العلم العسكري، إنه من الوهم المحض الاعتقاد بأن العمال يستطيعون، في الحالة الراهنة للوسائل العسكرية والصناعية وبالنظر إلى خصائص المدن الكبرى اليوم، أن يقوموا بالثورة بنجاح بقتال الشوارع. وقد استنتجت من هذا المنطق نتيجتان: أولهما وضع النضال البرلماني مقابل عمل البروليتاريا الثوري المباشر وقيل أن النضال البرلماني هو السبيل العملي الوحيد للقيام بالنضال الطبقي. فكانت البرلمانية ولا شيء غير البرلمانية العاقبة المنطقية لهذا النقد. والنتيجة الثانية هي أن الآلة الحربية بكاملها، وهي المنظمة الأقوى في الدولة الطبقية، وكل البروليتاريين في البزات العسكرية، أعلنت على أسس مسبقة أنه لا يمكن للتأثير الاشتراكي أن ينفذ إليها. وعندما يعلن انجلز في المقدمة أن من الجنون الافتراض أن البروليتاريين يمكن أن يقفوا في وجه الجنود المسلحين بالبنادق الآلية والمجهزين بأحدث الأدوات التقنية وذلك بسبب تقدم الجيوش الكبيرة، فإن من الواضح أنه يؤكد ذلك مفترضا أن من يصبح جنديا فإنما يصير إلى الأبد دعامة الطبقة الحاكمة. ولو لم نكن نعرف الظروف التي وضعت فيها هذه التوثيقة التاريخية، لكان أمرا يستعصي على الفهم إطلاقا، بالنظر إلى التجربة المعاصرة، ان يقترف قائد شهير كإنجلز هذا الخطأ الفاحش. إنني وفاء لمعلمينا الكبيرين وعلى الأخص لإنجلز الذي توفي بعد ماركس والذي ظل دائما مدافعا وفيا عن نظريات وسمعة شريكه، أنني لذلك أجد لزاما عليّ أن أذكركم بالحقيقة المعروفة جيدا، حقيقة أن إنجلز كتب المقدمة التي نبحث تحت ضغط شديد من جانب المجموعة البرلمانية. فقد كان في ألمانيا في ذلك الحين، خلال أوائل التسعينات، بعد إلغاء القوانين المضادة للاشتراكية اتجاه قوى اليسار، اتجاه أولئك الذين كانوا يرغبون في إنقاذ الحزب من أن يصبح منهمكا تماما في النضال البرلماني. وكان بيبل وشركاه يرغبون في إيجاد حجج مقنعة تدعمها سلطة إنجلز العظيمة، كانوا يرغبون في كلام يساعدهم على ضبط العناصر ¬الثورية بحزم. وفي ذلك الحين كان من سمات الحزب المميزة أن يحظى الاشتراكيون البرلمانيون بالقول الفصل في النظرية والممارسة. وقد أكد هؤلاء لانجلز الذي كان في الخارج والذي كان من الطبيعي أن يصدقهم أن من الضروري صيانة الحركة العمالية الألمانية من الوقوع في الفوضوية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يجعلوه يكتب باللهجة التي أرادوها. ومنذ ذلك الحين والتاكتيكات التي بسطها إنجلز في العام 1895 تهدي الاشتراكية الديموقراطية الألمانية في كل ما فعلته وكل ما لم تفعله حتى أتت النهاية المناسبة في الرابع من آب /غشت عام 1914. لقد كانت المقدمة الاعلان الرسمي عن تكتيك لا شيء سوى البرلمانية. وقد مات إنجلز في السنة ذاتها، ولذا لم تسنح له الفرصة لدراسة النتائج العملية لنظريته. إن من يعرفون أعمال ماركس وإنجلز، من لهم اطلاع على الروح الثورية الحقة التي الهمت كل تعاليمهم وكل كتاباتهم، سيشعرون بالتأكيد أن إنجلز لو عاش لكان أول من يحتج على فسوق البرلمانية وعلى تبديد طاقات الحركة العمالية، ذلك التبديد الذي كان مميزا لألمانيا في العقود التي سبقت الحرب. لم يسقط الرابع من آب /غشت كالرعد من سماء صافية، ولم يكن ما حدث فيه انعطافا صدفة، بل كان النتيجة المنطقية لكل ما كان الاشتراكيون الألمان يفعلونه يوما فيوما لسنوات عدة. (أنصتوا! أنصتوا!). إنني إنني على قناعة من أن ماركس وإنجلز لو قدّر لهما أن يعيشا في زمننا لاحتجا بطاقتهما القصوى ولاستخداما كل ما في وسعهما من قوة ليمنعا الحزب من أن يلقي بنفسه إلى الهاوية. ولكن قيادة حزبنا في المجال النظري انتقلت بعد وفاة إنجلس في العام 1895 إلى كاوتسكي. فكانت نتيجة هذا التحول أن احتجاجات الجناح اليساري ضد السياسة البرلمانية المحضة وتحذيراته الملحة من عقم وخطر سياسة كهذه كانت تدمغ بالفوضوية أو الاشتراكية الفوضوية أو على الأقل تدمغ بالعداء للماركسية. وأصبح ما صار يدعى ماركسية رسميا قناعا يخفي وراءه كل ضروب الانتهازية الممكنة والتهرب المستمر من النضال الطبقي الثوري، وكل أنصاف الاجراءات التي تخطر ببال. وهكذا حكم على الاشتراكية الديموقراطية الألمانية والحركة العمالية وكذلك حركة اتحادات العمال أن تهزل وتذبل ضمن إطار المجتمع الرأسمالي. ولم يعد الاشتراكيون ورجال اتحادات العمال الألمان يقفون بأي محاولة جادة لقلب المؤسسات الرأسمالية أو تعطيل الآلة الرأسمالية.
ولكننا الآن، أيها الرفاق، وصلنا النقطة التي نستطيع عندها أن نقول أننا انضممنا إلى ماركس ثانية وأننا نتقدم مرة أخرى تحت لوائه. وإذا كنا اليوم نعلن أن مهمة البروليتاريا الملحة هي جعل الاشتراكية حقيقة حية وتدمير الرأسمالية جذرا وفرعا، فنحن بذلك إنما نقف على الأرض التي وقف عليها ماركس وإنجلز في العام 1848، وإنما نتبنى موقفا لم يحيدا في المبدأ عنه أبدا. لقد أصبح واضحا منذ أمد طويل ما هي الماركسية الحقة وما هي الماركسية البديل (تصفيق). وأعني الماركسية البديل التي كانت لزمن طويل الماركسية الرسمية للاشتراكية الديموقراطية. إنكم ترون إلى ماذا تؤدي الماركسية من هذا النوع، ماركسية خدم إيبرت ودافيد ومن تبقى. هؤلاء هم ممثلوا النظرية التي طبل لها وزمر على مدى عقود على أنها الماركسية نقية. ولكن الماركسية في الواقع لا يمكن أن تؤدي إلى هذا الاتجاه، لا يمكن أن تؤدي بالماركسيين إلى القيام بنشاطات مضادة للثورة جنبا إلى جنب مع رجال كشيدمان. إن الماركسية الحقة تشهر سلاحها ضد من يسعون إلى تزييفها، وقد نجحت في النقب كالخلد من تحت أساسات المجتمع الرأسمالي حتى بات النصف الأكبر من البروليتاريا الألمانية يسير اليوم تحت رايتنا، راية الثورة التي تتحدى العواصف. وحتى في المعسكر المضاد، حتى حيث يبدو أن الثورة المضادة ما زالت تسود، لنا اليوم أتباع وسيكون لنا في المستقبل رفاق سلاح.
دعوني، إذن، أكرر أن سير التطور التاريخي أدى بنا إلى النقطة التي وقف عليها ماركس وإنجلز عام 1848 عندما رفعا علم الاشتراكية الأممية أول مرة. إننا نقف حيث كانوا يقفون، ولكن لنا ميزة أن سبعين عاما من التقدم الرأسمالي تقف خلفنا. قبل سبعين سنة، بدا لمن راجعوا أخطاء وأوهام 1848 أنه لا يزال أمام البروليتاريا مسافة غير محددة يجب أن تقطعها لتحقق الاشتراكية. ولا أجدني بحاجة إلى القول أنه ما من مفكر جدي مال إلى تعيين تاريخ محدد لانهيار الرأسمالية، ولكن هذا التاريخ بدا بعد تجارب 1848 الفاشلة في رحم المستقبل البعيد. ويمكن أن نقرأ هذا الاعتقاد في كل سطر من سطور المقدمة التي كتبها إنجلز في العام 1895. إننا الآن في موقف نستطيع معه أن نسوي الحساب وأن نرى أن الوقت كان قصيرا حقا بالمقارنة مع دورات الصراعات الطبقية على امتداد التاريخ. إن تقدم التطور الرأسمالي على نطاق واسع خلال سنوات سبعين قد أوصلنا حيث نستطيع اليوم أن نشرع في تدمير الرأسمالية مرة واحدة وإلى الأبد. لا، بل هناك ما هو أكثر من ذلك، لسنا اليوم في موقع نستطيع القيام منه بأداء هذه المهمة فحسب، وليس أداء هذه المهمة واجب علينا تجاه البروليتاريا فحسب، بل أن الحل الذي نقدمه هو السبيل الوحيد إلى خلاص المجتمع الانساني من الدمار (تصفيق حاد). فما الذي خلفته الحرب من المجتمع الرأسمالي سوى كومة عملاقية من الحطام؟ بالطبع لا تزال كل قوى الانتاج ومعظم أدوات السلطة الحاسمة، شكليا في يد الطبقات المسيطرة. ليست لدينا أية أوهام حيال ذلك. ولكن ما يستطيع حكامنا أن يحرزوه بالسلطات التي يملكونها فوق محاولاتهم المسعورة بالدم والقتل لإعادة بناء نظامهم، نظام السلب والنهب لن يكون أكثر من فوضى. لقد وصلت الأمور حدا أصبحت الانسانية معه أمام واحد من خيارين: فأما أن تهلك وسط الفوضى، أو أن تجد خلاصها في الاشتراكية. فمن المستحيل على الطبقات الرأسمالية نتيجة للحرب الكبرى أن تجد مخرجا من الصعاب التي تجابهها في الوقت الذي تحفظ فيه بحكمها الطبقي. إننا الآن على يقين من الصحة المطلقة للكلام الذي صاغه ماركس وإنجلز أول مرة كأساس علمي للاشتراكية في الميثاق العظيم لحركتنا، البيان الشيوعي. ستصبح الاشتراكية ضرورة تاريخية. الاشتراكية محتومة، لا لأن العمال ما عادوا يرغبون في العيش بالشروط التي تفرضها الطبقة الرأسمالية فحسب، بل أيضا لأنه إذا فشلت البروليتاريا في أداء واجبها كطبقة، إذا فشلت في تحقيق الاشتراكية، فإننا سننتهي جميعا إلى مصير أسود مشترك. (تصفيق طويل)."
في التعليق
اعتقد بهذه الفقرات استحقت روزا لوكسمبورغ ذلك اللقب الذي اسبغه عليها لينين لما وصفها بنسر الشيوعية. نعم استطاعت ان تحلق عاليا وان تنزع راية البروليتاريا من يد القيادة التحريفية للحزب الاشتراكي الالماني والاممية الثانية وفي نفس الوقت ان تحمي انجلس من عقبان وضباع الاممية الثانية التي حاولت توظيفه لخطها التحريفي كما فعل المرتد بليخانوف في وصيته التي تناولناها في سرديته اعلاه.
يمكننا لاحقا اضافة سردية لينين التي كانت تهتم بالجانب الفلسفي النظري وفي قلبها اعادة الاهتمام بالمادية الجدلية وقد تحمل مسؤولية الوفاء بوعد كان ماركس قد قطعه على نفسه بتناول المادية الديالكتيكية تعميقا وتصحيحا للعمل الرائع الذي قام به الدباغ ديتزيغن. لكن الوقت لم يتوفر لانجاز هذا العمل من طرف ماركس فأنجزه تلميذه النابغة لينين. كما طور لينين الماركسية في تعميق التحليل للتطور والمرحلة التي وصلها نمط انتاج الرأسمالية فوقف على اعلى مراحلها أي مرحلة الامبريالية وهذا التطوير جعلها يقف مع روزا لوكسمبورغ على نفس الخلاصة وهي راهنية الثورة الاشتراكية لكن في الحلقة الاضعف من السلسلة الامبريالية مما مكنه من بناء ادوات الثورة ونظريتها وبرنامجها الاستراتيجي والتكتيكي.
فإذا كانت روزا لوكسمبورغ قد تلقفت الراية فان لينين حملها بعناد ورفعها عاليا الى حد انه ضمن لها الخلود خفاقة لا تنثني.
التيتي الحبيب
14/05/2021