بنو صهيون … والمسجد الأقصى


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6896 - 2021 / 5 / 12 - 12:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أكتبُ لكم من أرضِ القُدس الشريف؛ في باحة المسجد الأقصى، وأمامَنا صخرةُ المِعراج المُشيّدُ فوقها ثمانيةُ حوائطَ تحملُ قبّةَ الصخرة. ها نحن نرفعُ علم فلسطين على أرض القدس؛ حتى تظلّلُ رايتُه مساحةً منبسطة من النهر إلى البحر؛ فيراه كلُّ من يقفُ على وجه الأرض. ننظرُ يمنةً ويسرةً ولا نشاهدُ إلا وجوهًا تشبهنا. لم يعد من أثرٍ لأنفٍ معقوفٍ، وعيونٍ داهية، وقبعّاتٍ سوداءَ عاليةٍ فوق رؤوس حاخامات، ولا كيبا يعتمرُها مستوطنون يحملون نجمة مسدّسة. أخيرًا صَفَا ترابُها لنا، بعد سبعة عقود كدنا نفقد خلالها الأملَ لولا صوت فيروز الذي لم يكفّ يوما عن الترداد في أعماقنا: "القدسُ لنا".
أنا أكذبُ؟ ربما. لكنَّ شيئا من الكذب الحالم النبيل لن يُفسدَ العالم. فكلُّ المستحيلات بدأت حُلُما! حتى المخترعاتُ هكذا بدأت. وفلسطينُ ليست اختراعًا، بل واقعٌ وحقٌّ ووطنٌ وشعبٌ، وحُلم لا نطرحه. ربما كذبتُ في رسم الصورة الحالمة، لكنني لم أكذب فيما يخصُّ مشاعري.
انتهاكٌ جديد مارسته السلطاتُ الإسرائيلية المحتلة ضدَّ أبناء فلسطين قبل أيام. انتهاكٌ جديد لقدسية المسجد الأقصى وترويع للمصلين العزّل في أيام رمضان المبارك، وقبل أيام من احتفال العالم باليوم العالمي "للعيش معًا في سلام"، يوم 12 مايو، كما أقرته منظمة اليونسكو، من أجل تعزيز قيم السلام والتسامح بين الناس والاتحاد رغم الاختلاف العرقي والعقدي.
عام 2012، دُعيتُ إلى فلسطين للمشاركة في معرض الكتاب الدولي في "رام الله". دخلنا عن طريق الأردن لكيلا تُوصَم جوازاتُنا بختم صهيون المحتّل. ذهبتُ إلى الحرم الإبراهيمي بالخليل، حيث ضريح أبينا إبراهيم، أبي الأنبياء. كنتُ أضع حول كتفي "الحَطّة" الفلسطينية (الكوفية) المكتوب عليها: "القدسُ لنا". هممتُ بدخول المسجد، فاستوقفتني المجنّدة الإسرائيلية؛ وطلبت منّي انتزاع الحطة وهي تحدّقُ في عيني بغضب وبرود. ابتسمتُ في سخرية وقلتُ لها بالإنجليزية: "ياه! ترتعبون من قطعة قماش، لا حول لها ولا قوة! تخافون من ’رمزٍ‘ للمقاومة، لأنكم تعرفون أنكم لستم أصحاب حق! إنه شعور اللصّ الذي يختلسُ ما ليس له!" وقبل أن يحتدمَ النقاشُ بيننا، وتتطور الأمور لغير صالحي، جذبني الأصدقاءُ إلى داخل المسجد، بعدما نزعوا عني الحطّة وأنا أتميّزُ غيظًا من نزعها، لكن شعورًا بالفرح يخفقُ بقلبي لضعف بني صهيون وهشاشتهم.
قبل سنوات، اعتادت جريدة الأهالي وحزب التجمع دعوة شعراء وأدباء من فلسطين للاحتفال ب "يوم الأرض الفلسطيني" في 30 مارس من كل عام. مادمنا لا نستطيع زيارتهم في وطنهم المحتلّ، فإن اللقاء بهم في أوطاننا هو البديل، لأن أوطاننا وطنهم. فالوطن شِقّان. شقٌّ ماديّ هو الأرض، وشقٌّ معنويٌّ نحمله في قلوبنا. ولئن كان الشقُّ الأول مُغتصبا، فلا أحدَ بوسعه اغتصاب القلب. فثمة فلسطينُ في قلبِ كلِّ عربيّ، بعدسها وفومها وبصلِها وقثائها، لا تموت. تحية لهؤلاء الذين يقولون لبعضهم البعض قبل أن يذهبوا إلى فِراشهم: "تصبحون على وطن!"
حين تصدحُ فيروز "القدس لنا"، فهي تقرُّ بما هو حقٌّ. لنا في القدس المسجدُ الأقصى، قِبلتُنا الأولى، وثالث الحرمين الشريفين، الذي دأب جنودُ صهيون على اقتحامه والنيل منه. ولأقباطنا المسيحيين في القدس طريقُ الآلام وقبرُ السيد المسيح عليه السلام. لهم كنيسةُ "القيامة"، التي تحمل مفتاحها عائلةٌ مسلمة، ولنا مسجد "عمر بن الخطاب" الذي يجاور الكنيسة. لنا في القدس إذن أكثرُ مما لبني صهيون. نزور القدس في خيالنا، نحلم به متحرّرًا حرًّا عائدًا لنا.
"لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن، يا قدسُ يا مدينة الصلاة. عيوننا إليكِ ترحلُ كلَّ يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد. يا ليلة الإسراء، يا دربَ من مروا إلى السماء، عيوننا إليك ترحلُ كل يوم، وإنني أصلي. الطفلُ في المغارة وأمُّه مريم وجهان يبكيان. لأجل مَن تشرّدوا، لأجل أطفال بلا منازل، لأجل مَن دافعوا واستشهدوا في المداخل، واستشهد السلام في وطن السلام، وسقط العدلُ على المداخل. حين هوت مدينةُ القدس تراجع الحبُّ، وفي قلوب الدنيا استوطنت الحربُ.” وتظلُّ القدسُ جُرحَنا الغائر. وسؤالَنا الأبديّ. “الدينُ لله، والوطن لمن يحترم ترابَ الوطن.”
***