الخلفية الثقافية للكارثة السورية


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 6877 - 2021 / 4 / 23 - 17:35
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

يعيش الشعب السوري كارثة حقيقية تجلياتها متشعبة: مئات آلاف القتلى والمعتقلين، ملايين النازحين داخلياً، ملايين اللاجئين إلى الخارج، ملايين البيوت المهدّمة، عشرات ألوف المعوّقين، تصدّع مجتمعي، طغيان العسكرة والتطرف والإرهاب، مهزلة الحديث عن إعادة انتخاب بشار الأسد، تعثّر مفاوضات اللجنة الدستورية...
وإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المثقف النقدي على إعادة صياغة وترتيب أفكـاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذا الواقع، ومن ثم الانخراط في تغييره نحو اتجاه تحقيق مطامح الشعب السوري في الحرية والكرامة والتكيّف الإيجابي مع معطيات وتحولات العالم المعاصر.
المسألة أننا لم نحسن الخروج من عجزنا وقصورنا لكي نتحول إلى مشاركين في العالم المعاصر بصورة غنية وخلاقة. ولعلَّ ما أعاقنا عن ذلك هو ديمومة الاستبداد والحمولات الأيديولوجية والمسبقات الدوغمائية وطغيان الخطاب الشعبوي الذي منعنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحـوّل، بقدر ما حملنا على أن لا نعترف بإنجازات الغرب والتعلّم منه، أو الذي جعلنا نتعامل مع هذه الإنجازات بعقلية تقليدية عقيمة وغير منتجة.
وقد أدى كلُّ ذلك إلى تصاعد نزعات التعصب والتطرف، وتزايد عمليات الإرهاب، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلى الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة المفضية إلى النار.
ولعلَّ التحدي الأكبر الذي يستوجب على السوريين مواجهته هو التحكم في نقاط ضعفهم نفسها، التي كشفتها ثورة الحرية والكرامة، خاصة عبثية العسكرة والأسلمة والتطرف، وفي مقدمتها عدم قدرة معارضاتها السياسية على تشكيل خيمة سورية جامعة، واكتشاف هذه النقاط وإدراك النقائص والسعي إلى معالجتها. هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الفاعل السوري القادر على تحديد أهداف وبلورة خريطة طريق للوصول إليها. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان السوري من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع السوري من التأخر إلى التقدم.
وهكذا، لابدَّ من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر:
(1) - مبدأ الحرية والاختيار، لأنّ الحرية ترتبط بالمسؤولية وتنفي الحتمية أو الجبرية، وتجعل من الضروري إلقاء الضوء على فعل الاختيارات الممكنة تاريخياً، وصنع الاختيار انطلاقاً من الوعي بمعطيات الواقع والذات.
(2) - النسبية والتنوّع والاعتراف بالآخر، فكل حقيقة نسبية، ولكل فكرة تجلياتها الجزئية، ومن حق المجتمع أن يطّلع على كل الاختيارات المتاحة، التي تبلورت بحرية، وأن يختار من بينها.
(3) - ثقافة حسن الاختيار، إذ يترتب على القول بنسبية كل حقيقة أنّ أي اختيار يكون صائباً بقدر ما يتفق مع معطيات الواقع، ويحلُّ بعض أهم معضلاته.
(4) - المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة السورية احتياجاً أساسياً وعميقاً لاستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة، بما تنطوي عليه من: تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام فيما يتعلق بالدور والملكية والسلطة، والاتصال والديمومة في أداء الوظائف، والدقة البالغة في تعيين الاختصاص والتمييز بين الأدوار، وتقسيم العمل، وإحداث التكامل بين الوظائف والاختصاصات عبر آليات مستقلة – نسبياً - عن الأشخاص، بهدف الجدوى من العمل.
(5) - التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة السورية، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في أنموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور. ومن ثم، فإنّ الركود الممتد لأكثر من خمسة عقود له أساس قوي في ثقافتنا، والتحرر من الركود مرهون بتغيير وتجديد نظرتنا للمستقبل. إنّ المستقبل يحمل جديداً وليس مجرد إعادة إنتاج متواصل للماضي، ولذلك يجب أن نصحح - باستمرار - ما نعرفه وما نملكه وما نصنعه، وهو ما يعيدنا للقول بنسبية كل حقيقة بشرية وإخضاعها للنقد والتمحيص.
(6) - استعادة ثقافة المساواة والحق، فمثلاً لم ينجح السوريون في الاتفاق على حق المرأة في المساواة، وما زالت تلك الضرورة والحتمية متعثرة في الوعي وفي الممارسة على السواء، ونعتقد أنّ تحرير المرأة والإقرار بحقها في المساواة هو شرط مهم لتحرير عقولنا جميعاً، بل ولتحرير تاريخنا من الركود.
(7) - جدلية التعاون والتنافس، إذ يجب أن نغرس في الثقافة السورية فكرة أنّ التطور رهن بالتنافس والتعاون معاً، ومن ثم أولوية النضال السلمي من أجل حل التناقضات حلاً عادلاً، ودون إخلال بالحق.
وهكذا، يبدو واضحاً أننا أحوج ما نكون إلى عملية إحياء ثقافي. فالثقافة السورية الراهنة تمرُّ في مرحلة انحطاط وردّة واضحين، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع سورية إلى العصور المظلمة، ويحفّزها على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.