الماركسية كعلم 2


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6826 - 2021 / 2 / 27 - 23:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

انتقلت فلسفة العلم المعاصرة من المفاهيم المعيارية التي تبحث عن منهجية العلم، إلى البحث عن سمات متجذرة تاريخيًا, التي تسعى إلى تأسيس شروط لنمو المعرفة. اصرت في وقت مبكر النماذج الاستقرائية للعلوم المرتبطة يهيوم وميل ومدرسة الوضعية المنطقية (حلقة فينا, فيتكنشتاين الاول, ناجل, وهيمبل) على أن القوانين العلمية ينبغي أن تكون مشتقة من الامتحانات التجريبية للحقائق. من وجهة النظر هذه، بدلا من الاستجابة الى الحقائق، يزعم ان الماركسية تفرض نفسها على الحقائق. إنها أيديولوجيا، ميتافيزيقيا، دين أو شغف أخلاقي، ولكنها ليست علما (كولاكاوسكي 1978 ، ص 525-6). قال دوركهايم بشكل مباشر, " أن الحقائق التي يجمعها المنظرون [الماركسيون] الحريصون على توثيق تأكيداتهم بالكاد ان تكون موجودة, ووجودها هو فقط لإعطاء شكل للحجج. انهم يجرون البحوث والدراسات لإنشاء عقيدة سبق وأن تصوروها مسبقا, بدلا من كون العقيدة نتيجة بحث" ([1896] 1958 ، ص 8).

كانت استنتاجات بوبر حول الماركسية مشابهة، ولكنها كانت تستند إلى افكار مختلفة تمامًا حول مفهوم العلم. في رأيه، العلم ليس آلية الاستقراء التي تستمد القوانين من الحقائق. النظريات بالضرورة تسبق الحقائق لأنها تحدد الحقائق ذات الصلة. الحقائق موجودة لا لتوليد ولا حتى لتأكيد النظريات ولكن لتكذيبها . العلم لا يتقدم من خلال عملية تأمين ملاءمة أفضل أو تفسير "التباين الأكبر ", ولكن من خلال دحض التخمينات الجريئة. من وجهة نظر بوبر أفضل النظريات هي تلك التي من غير المرجح أن تكون صحيحًة ولكنها "تصمد" في ظل محاولات متواصلة في تفنيدها. وفقا لبوبر، نظرية ماركس الأصلية بخصوص انهيار الرأسمالية كانت تخمينا جريئا وبالتالي كانت علمية، ولكن تم إثبات خطأها ولذلك ينبغي رفضها. "بدلا من قبول التفنيدات, أعاد اتباع ماركس تفسير كل من النظرية و الأدلة لجعلها متفقة مع بعضها البعض. بهذه الطريقة أنقذوا النظرية من التفنيد؛ لكن فعلوا ذلك مقابل جعلها غير قابلة للتكذيب. وبالتالي فقد اجهزوا على مزاعمهم المعلنة بعلمية النظرية" (بوبر 1963، ص 37 ؛ انظر أيضًا بوبر 1945 ، الفصول 15-21). بالنسبة الى بوبر، الماركسيون تابعوا اثبات تظرياتهم بدلاً من وضع معايير لتكذيبها. الماركسية، مثل التحليل النفسي, لا يمكن إثبات خطأها, وبالتالي لا يمكن أن تكون علما حقيقيا.

كتقرير لتاريخ العلم، كان مذهب بوبر في "التكذيب" معيبًا مثل "الاثبات". غالبًا ما تأتي الاختراقات العلمية عندما رفض العلماء قبول الدحض, عندما احالوا تكذيبا واضحا إلى جزء مهم من توكيد النظرية الأصلية. بولاني (1958 ، الفصل1) , في فحصه للعلم خلص إلى أن "البيانات" لم تكن أبدًا بالغة الأهمية في التقدم العلمي العظيم مثل ما تزعم منهجية "الاثبات" أو "التكذيب ". في رأيه، البيانات غالبًا ما تكون خاطئًة أو يتم تجاهلها أو انها خادعًة، وهكذا لا يمكن اختزال العلم الى عملية "موضوعية" تربط النظرية بالبيانات، بـ "منطق" أو خوارزمية " مثل " الاستقراء " أو " التكذيب". بالرغم من كل كل ضوابطه التجريبية، لا يزال للعلم -جوهر "شخصي" غير قابل للاختزال, مبني على أساس فردي بدلا من المعرفة غير الشخصية. تتضمن العلوم مهارات ضمنية لا يمكن التعبير عنها ولكن يجب تعلمها من خلال التدريب المهني (الفصل 4-تعلم الطب او التخصص فيه, مثلا, لا يمكن ان يتحقق فقط بدراسة كتب الطب دون تدريب وخبرة شخصية). إنه يستدعي المشاعر لاختيار ما هو حيوي، لتحقيق قفزات في الخيال ولإقناع الآخرين برؤية العالم بطريقة جديدة (ص 132- 74). جادل بولاني بأن الحفاظ على هذه المهارات والالتزامات عملية دقيقة وتتطلب مجتمعًا علميًا منظمًا ذاتيًا مستقلا عن السياسة (الفصل 7. كليات الطب او معاهد التخصص باستخدام موضوعة الطب كمثال, هذا اذا افترضنا استقلالها السياسي او الآيديولوجي). فمثلا, منهج تدريب للاختصاص, البورد, في الطب النفسي في العراق لا يحتوي على مفردات التعريف بالتحليل النفسي, فالتقرير التالي يتحدث ققط عن التدريب في الغلاج النفسي السلوكي الذهني غافلا اية اشارة الى التحليل النفسي
The CBT training and supervision is on-going
Iraq Sub Committee Annual Report -
file:///home/chronos/u-d6e9fe5ec9c713f96ef177b00f585f2977de0026/MyFiles/Downloads/Iraq_Medical_Education_Kufa_and_Baghdad%20(1).pdf
وقد تكون اسباب ذلك متعددة منها
1. عدم اعتبار الفلسفة الوضعية المنطقية التحليل النفسي علما. وهذه الفلسفة هي السائدة عموما في المؤسسات الاكاديمية الرسمية, خصوصا في بلدان متخلفة كالعراق.
2- افتراض خاطئ في ان التحليل النفسي هو فرويدوي فقط وهو باعتبار واضعي منهج التدريب ادب الدعارة والفاحشة لتأكيده على اهمية موضوعة الجنس, وهو لهذا لا ينسجم مع تقاليد المحتمع المحافظة وديانته! ولكن هذا سبب يبدو ضعيفا لأن التحليل النفسي متطور كثيرا في ايران وهناك العديد من المحللين النفسيين فيها. اي ان اسلام ايران الفقهي اكثر انفتاحا على العلوم الانسانية من اسلام العراق. وهذه موضوعة ينبغي مناقشتها بتفصيل واسع مع اصحاب الشأن وكذلك مع مع الرأي العام العراقي, شعبيا وأكاديميا. واحد الامور الاخرى ان الحركة النسوية في ايران اكثر تقدما منها في العراق. كما ان الجهات السياسية العليا في ايران اكثر انفتاحا في النظر الى موضوعة الجنس والجندر, بحيث ان المتحولين جنسيا يرسلون الى الخارج على حساب الدولة لاجراء عملية التحول الجندري. ايران اكثر تقبلا نسبيا للجنس الثالث, لا ذكر ولا انثى. ففي حين يقتل افراد الايمو في العراق رغم عدم مثليتهم, فاننا لم نسمع بمثل هذا الاضطهاد للمثليين او الايمو في ايران, رغم ان العراق, شكليا على الاقل, دولة لا اسلامية, وبعكس الجمهورية الاسلامية الايرانية.
3. ان موضوعة الجنس مرتبطة ارتباطا وثيقا بسياسات وتقنيات الجسد. تستطيع المرأة القول ان -جسدها هو ملكها- عندما يكون المجتمع قد مر في مرحلة الحداثة التي تكفل خلق النفس. النفس, بعرف مؤرخ الفكر ميشيل فوكو, هي اختراع لعصر الحداثة, او انها اختراع رأسمالي. الرأسمالية الوطنية في ايران اكثر تطورا منها بكثير من الرأسمالية العراقية التي هي عموما رأسمالية متخلفة فكريا واقتصاديا لكونها رأسمالية تابعة للرأسمال العالمي وتشعر بدونيتها وانحطاطها (وصلت للسلطة عن طريق الاحتلال وليس بجهودها ونضالها. انها طبقة مصطنعة ولا افق تاريخي لها ), وهي تسقط مشاعر دونيتها على اضعف حلقات المجتمع, النساء, اللواتي هن في الاعم الاغلب يتماهين مع هذه الاسقاطات ويسلكون بموجبها. ايران تشكل ارضا خصبة اكثر منها في العراق لنشوء علم النفس كعلم حداثوي وانبثاق سياسات جنسية ترفض الميكانبكية الاختزالية في رؤية الجندر كحتمية بيولوجية من ذكر او انثى, فهنالك مساحة رمادية بين الاثنين. وحسب رائدة النسوية, الفيلسوفة سيمون ديبفوار في كتابها - الجنس الآخر-, المرأة لا تولد كأمرأة وانما تتكون كأمرأة!
ولربما يكون تفاقم القلق الوجودي في العراق اكثر بروزا في العراق بحبث يلجأ العقل العراقي الى تصنع القوة والسيطرة على مقاليد الامور من خلال تبسيط الحياة النفسية وهندسية الجسد. العقل العراقي ينظر للجسد من خلال مسلمات هندسة اقليدس المستوية وبرفض اعتباره توبولوجيا رياضياتيا بعرف المحلل النفسي جاك لاكان مثلا-لذا تكون جرائم قتل غسل العار اكثر منها في العراق مقارنة بايران. وزواج المتعة, الذي يعتبره البعض دعارة, يتناسى المقولة الماركسية ان كل او اغلب الزيجات البرجوازية تدخل ضمن هذا التصنيف. قد يكون زواج المتعة, بدون مفابل مادي, احد اهم خصائص المجتمع الشيوعي المنشود. الشيوعيون يهدفون الى تحقق المتعة على الارض وليس مع حوريات وغلمان جنان السماء. الجنة السماوية هي الاطروحة النقيض للمتعة الدنيوية وتشكل وصفة جاهزة لقمع الجنس وارهاب الجسد كما يمثله اسلام السلطة السياسية في العراق او اسلام داعش والقاعدة والوهابية.
4. ان التزمت الجنسي هو سمة مشتركة لدى الاسلاميين وعموم الشيوعيين, وخصوصا من هم في العملية السياسية في العراق. فنظرة الشيوعيين الى الحريات الجنسية وتقنيات الجسد مضطربة وغير متماسكة وتنهج ما يسمى في الاحصاء -التراجع نحو الطبيعية-, والطبيعية هنا هي بمعنى الاكثربة. شيوعيو السلطة في العراق شعبويون ويسيرون مع الاكثربة عبر تاريخهم-فترة حكم -الزعيم الاوحد- قاسم, صدام -كاسترو- العراق, او في تحالفهم مع سيدهم مقتدى الصدر. انهم يقمعون الفرد وتحرره الجسدي والجنسي, ولذا ان مشروعهم الماركسي, يبوء بالفشل وسيفعل دوما. انهم ستالينيون وبوبريون في آن واحد. الستالينيون اعلنوا ان التحليل النفسي علم برجوازي في حين اعتبره بوبر علما زائفا. لذا ان ماركسية شيوعيي السلطة في العراق هي ليست نقيض العلم
بمغهومه غير الضيق ( الالماني وغير الانكلوساكسوني), بل انه يشكل معولا هداما لتكون الفرد كهوية مستقلة عابرة للانتماء الطائفي والاثني. وبالتالي فان دعوتهم الى دولة مدنية هي سراب لكونها ستُستعمر من فبل افراد غير مستقلين ولا وجود لهم خارج نطاق التكوينات الطائفية والعرقية. احزاب تدعي التقدمية, مثل الحزب الشيوعي العراقي, مثلها مثل قوى العملية السياسية الاخرى, هي العدوة اللدود لتحرر الجسد. وبدون تحرر الجسد ليس هنالك تحرر للعقل لأن الدماغ جزء من الجسد. الحزب يحتاج الى حقنة سبينوزية كعلاج لخطابه الرجعي اللاعلمي. سبينوزا اعترف باهمية العقل او الدماغ, ولكن فقط كاحد اعضاء الجسم الآخرين. شيوعو السلطة في العراق يلغون الانسان ويحيلونه الى قطعة شطرنج تتقاذفه الامواج مما يزيد من قلقه الوجودي ويجعله اكثر عرضة للاستغلال والتلاعب من قبل الدولة الريعية والمؤسسة الدينية الرسمية والميليشيات المسلحة .
5. ان عدم تدريس التحليل النفسي وعدم وجود اختصاص في الطب الجنسي Sexual medicine
International Society for Sexual Medicine
https://www.issm.info/
في العراق هو احد العلامات الاكيدة على معاداة الجسد والجنس, فلا وجود لاحدهما دون الآخر, وهي سمة مشتركة لشيوعيي السلطة والاسلاميين على حد سواء. وتحالفهم الفاشل كتحالف كتلة تاريخية هو تجسيد صارخ لازمة نفسية-جنسية بسبب التعامل مع موضوعة الجنس كاحدى المحرمات, وليس كمصدر للمعرفة واللذة في آن واحد, ورفضها بالتالي استقلال الجسد. انه تحالف ما قبل حداثوي ولذا فهو نقيض لمفهوم الكتلة التاربخية الحداثوي بعرف (علم) غرامشي. الشيوعية عموما هي مشروع حداثوي وتحالفات ما قبل الحداثة تفني الجسد, تقتل المتعة, وتشكل الاطروحة النقيض للشيوعية والماركسية كعلم او ممارسة!
يتبع