إبن خلدون الصائغ الأول لقانوني القيمة وفائض القيمة 3-5


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6825 - 2021 / 2 / 26 - 14:43
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

ثم يقرأ النص الخلدوني المدرج سابقاً :
"فالإنسان ، متي اقتدر على نفسه و تجاوز طور الضعف ، سعى في اقتناء المكسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته و ضروراته بدفع الأعواض عنها . قال الله تعالى : "فابتغوا عند الله الرزق" . وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة و أمثاله . إلا أنها إنما تكون معينة ، و لا بد من سعيه معها كما يأتي . فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة و الحاجة ، أو رياشاً و متمولا إن زادت على ذلك . قال الله تعالى : "فابتغوا عند الله الرزق". ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد ، و حصلت له ثمرته من إنفاقه في مصلحته و حاجاته ، سُمّي ذلك رزقاً . قال صلى الله عليه و سلم : "إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت" . و إن لم يُنتفع به في شيء من مصالحه و لا حاجاته ، فلا يُسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً ، و المتملَّك منه حينئذ بسعي العبد و قدرته يُسمى كسباً . و هذا مثل التراث ، فإنه يُسمى بالنسبة إلى المالك كسباً ، و لا يُسمي رزقاً إذ لم يحصل به منتفع . و بالنسبة إلى الوارثين ـ متي انتفعوا به يُسمى رزقاً. "
في النص أعلاه لدينا أولاً جملة : "سعي الانسان المقتدر في اقتناء المكسب" إشارة إلى الاشتغال الغائي (السعي) للإنسان القادر على العمل للحصول على الدخل (المكسب)". و في اللغة العربية فإن مفردة "السعي" تعني : " القصد و المشي ، و أيضا العمل و الكسب" . و هناك ثانيا الوصف بكون الغرض من تحصيل الانسان لدخل العمل هذا إنما هو لشراء (دفع الأعواض) مختلف مستلزمات الحياة (سأعود لهذه النقطة المهمة) . و لدينا ثالثاً التقسيم الخلدوني الرباعي للسلع : " فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة و الحاجة ، أو رياشاً و متمولا إن زادت على ذلك ". يميّز ابن خلدون هنا بين السلع وفق حيوية قيمتها الاستعمالية للإنسان : 1) السلع الضرورية (التي لا يمكن للإنسان العيش بدونها مثل الطعام و الشراب) ؛ 2) السلع الحاجيّة (التي تسد حاجة مهمة و لكنها دون حيوية ما قبلها) ؛ 3) السلع الرياشية (الكمالية) ؛ 4) السلع المتمولة (المدّخرة). الأنواع الثلاثة الأولى يسميها إبن خلدون بالرزق عند استهلاكها (الانتفاع بها)، أما النوع الرابع فهي (الكسب) أي القيمة المكتنزة ؛ و النوعين الأوليين هما "معاش" . هذا التقسيم تراتبي الهيكل حسب تسلسل أولويات قيمته الاستهلاكية لعيش الإنسان ؛ كما أنه يضمّنه عنصر استهلاك المنفعة (تطمين الحاجة) في تصنيفه .
و لا ينسى أبن خلدون التطرق لدور الأحوال الجوية في خلق القيمة تظافراً مع عمل الإنسان في الزراعة مبيناً : " وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة و أمثاله . إلا أنها إنما تكون معينة ، و لا بد من سعيه معها كما يأتي ". الإشارة هنا هي للتفريق بين الإنتاج المرهونة حصيلته النهائية بإرادة الإنسان لوحده (مثلما يحصل في "الصنائع كالنجارة و الحياكة" التي سيرد ذكرها بعدئذ مباشرة) ، و الإنتاج المرهونة حصيلته بتوفر الطقس المؤاتي في الزراعة .
ثم يأتي هذا النص البديع الذي يكرر على الأقل سبع مرات قانون العمل للقيمة توكيداً لأهميته :
" ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء ، و القصد إلى التحصيل : فلا بد في الرزق من سعي و عمل ، و لو في تناوله و ابتغائه من وجوهه . قال تعالى : " فابتغوا عند الله الرزق" ، و السعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى و إلهامه ، فالكل من عند الله . فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب و متمول . لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع ، فظاهر دال ؛ و إن كان مقتني من الحيوان و النبات و المعدن ، فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه ، و إلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع . ثم إن الله تعالي خلق الحجرين المعدنيين من الذهب و الفضة قيمة لكل متموِّل ، و هما الذخيرة و القنية لأهل العالم في الغالب . وان اقتني سواهما في بعض الأحيان ، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل ، فهما أصل المكاسب و القُنية و الذخيرة . و إذا تقرر هذا كله ، فاعلم أن ما يفيده الإنسان و يقتنيه من المنقولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتني منه قيمة عمله ، و هو القصد بالقنية ، إذ ليس هناك إلا العمل ، و ليس بمقصود بنفسه للقنية . وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها مثل النجارة و الحياكة معهما الخشب و الغزل ؛ إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر . وان كان من غير الصنائع ، فلا بد من قيمة ذلك المفاد و القنية من دخول قيمة العمل التي حصلت به ، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها ."
في النص أعلاه يميز إبن خلدون بين العمل البشري في" جمع" القيم الجاهزة التي توفرها له الطبيعة : " فلا بد في الرزق من سعي و عمل ، و لو في تناوله و ابتغائه من وجوهه .. المقتنى من الحيوان و النبات و المعدن" و بين "الإنتاج" البشري الخالص للقيم "من الصنائع" ؛ ليؤكد بعدئذ أنه لا وجود للقيمة بدون العمل الإنساني : " فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه ، و إلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع " كقانون مطلق .
ثم يتطرق للذهب و الفضة كمعادل عام للقيمة التبادلية : " ثم إن الله تعالي خلق الحجرين المعدنيين من الذهب و الفضة قيمة لكل متموِّل ، و هما الذخيرة و القنية لأهل العالم في الغالب . وان اقتني سواهما في بعض الأحيان ، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل ، فهما أصل المكاسب و القُنية و الذخيرة " . و يوضح أنهما "قيمة لكل متمول و هما الذخيرة و القنية لأهل العالم في الغالب" . هذه الجملة تعرِّف الوظائف الاقتصادية الثلاث المتراكبة فوق بعضها للذهب و الفضة : المعادل العام للسلع "قيمة لكل متمول " ، و القيمة المكتنزة "الذخيرة" ، و الحُلية النفيسة "القنية" . و في العراق لدينا المثل الشعبي : "الذهب زينة و خزينة" .
ثم تأتي ثلاثة مقولات خلدونية غاية في العبقرية الاقتصادية ، أولاهما : " وان اقتني سواهما في بعض الأحيان ، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل " و التي توضح الدور الخاص الذي يلعبه الذهب و الفضة كمعادل عام في الأسواق : استقلال قيمتهما النسبية عن بقية السلع التي تكون أقيامهما أكثر عرضة للصعود و الهبوط حسب التفاوتات بين العرض و الطلب عليها : "بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق " . لذا ، فإن الميل العام في الاستثمار المضمون نسبياً أنما هو : الاستثمار في الذهب و الفضة لتجاوز تذبذب القيم التبادلية لغيرهما من السلع المعرضة لتذبذب الاسعار . هذا الميل الخلدوني في الاستثمار بالمعادن النفيسة بفضل الثبات النسبي على المدى الطويل لأقيامهما التبادلية مستمر إلى يومنا هذا .
بعدها تأتي الجملة : " إذ ليس هناك إلا العمل ، و ليس بمقصود بنفسه للقنية " و التي توضح حقيقة أن الوظيفة الأصيلة للعمل البشري إنما هو انتاج وسائل العيش و ليس اكتناز الأموال (الأثراء) الذي هو وظيفة أجنبية طارئة أقحمها الجشع الأنوي لبعض الأفراد على المجتمع . و عند ربط هذه الجملة بزبدة هذا النص الخلدوني ككل نجد أنه يقرر هذه الحقيقة البسيطة : أن الجنس البشري يجب أولاً وقبل كل شيء أن يأكل ويشرب ويمتلك المأوى والملبس قبل ممارسة كل و أي نشاط آخر .
ثم تأتي هذه الجملة : " وقد يكون (العمل) مع الصنائع في بعضها غيرها مثل النجارة و الحياكة معهما الخشب و الغزل ؛ إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر " التي تميز لأول مرة في تاريخ علم الاقتصاد بين العمل "البسيط" و "المركب" .
و أخيراً يأتي هذا القانون الخلدوني : المال المكتنز (القنية) هو "قيمة عمل مجمَّدة" : " وان كان من غير الصنائع ، فلا بد من قيمة ذلك المفاد و القنية من دخول قيمة العمل التي حصلت به ، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها ."
يُتبع ، لطفاً .