رواية (ماركس العراقي) ح 26


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6822 - 2021 / 2 / 23 - 18:01
المحور: الادب والفن     

أن تموت في أرض بلادك وإن كانت موتة شنيعة فهي عندي أشرف من أي شكل من أشال الموت في بلاد وأرض لا يمكنها أن تقبلني ولا يمكن أن أقبل بها مدفنا لبقايا جثتي، الآن يمكننا أن نتصرف بهدوء ولعل المهم أن نصل كخطوة أولى إلى البصرة أو ساحة سعد علنا نجد وسيلة تقلنا من دائرة الجحيم هذه، بين محاولة قطع المسافة مشيا أو أنتظار أي وسيلة أخرى حدث الخيار الأخير حينما جاء مزارع من أهل صفوان بسيارته البيك آب ليحملنا مباشرة إلى ساحة تقاطع الزبير شكرنا الرجل الذي كان شبه مشوش وفاقد التركيز، ذهب بعد أن أنزلنا ولكنه عاد مجددا وسألني هل معك ما يكفي من مال للوصول إلى مدنكم، أجبته شاكرا هذه الالتفاتة الكريمة منه في وقت يتحسر البعض على الدينار، قال لو كان الظرف يسمح لأوصلتكم إلى المكان الذي يناسبكم، ولكنني أبحث عن بقايا عائلتي التي فرت من القصف ولا أعرف عنهم شيء.
أختلفنا لأول مرة أنا وزميلي الذي رافقني في رحلة الموت والتعب والعطش والذلة التي عشنا فصولها منذ أن قررنا الخروج من طوفان القتل ولعبة الهلاك الفاني هذه، هو يريد الذهاب للزبير ومن هناك للناصرية فهي أقرب الطرق للنجف، أما أنا كنت أرى الذهاب إلى ساحة سعد باحتمال أن نجد سيارات تقلنا للنجف مباشرة من السيارات التي تتوافد يوميا على البصرة، هنا أفترقنا بعد أن تمسك كل منا برأيه، الحرب والموت الذي يرفرف فوق رؤوسنا لم يفرقنا فسحة الأمل هذه كانت أقوى من أن تجمعنا، ذهب ماشيا بأتجاه الزبير فيما أنا يممت وجهي صوب البصرة ملتفتا بين دقيقة ودقيقة لعل هناك من قادم، أكثر من ساعة من المشي المتقطع والحذر ومن بين الأنقاض وبقايا العجلات العسكرية المحترقة، توقفت لي سيارة برازيلي فيها رجل وامرأة وطفلين صغيرين وطلب مني الصعود، حاولت الأعتذار بعد أن رأيت أن المكان لا يسمح خاصة وأن الرجل فيما يبدو هو الأخر فارا من مكان ما، بلهجته البصرية المحببة أجاب )أصعد حبوبي وكلنا على الله(.
أجلست أحد الأطفال وكان في حدود الثلاث سنوات متأملا وجهه وأنا اسأل نفسي يا ترى هل أرى ولدي الجديد في هذا العمر بعد أن تضع عنا الحرب أوزارها؟ أم ما زال الخطر يحدق بي كلما قطعت مترا صوب الأمان الذي أبحث عنه؟ وسؤالي الذي لازمني منذ سنوات ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يفقدوا نعمة السلام التي يدوسها القادة تحت أقدامهم ليصنعوا أحلاما خبيئة تقتلهم وتقتل كل نبض بالحياة، من لطائف الصدف أني سألت الطفل عن أسمه.. أجاب أبيه أن اسمه زيد.... يا للهول هو زيد معي هنا..... كم جميل حين تذكرنا لحظات من القدر أن الحياة قد تبتسم لنا، قلت... يا صاحبي أنا أبني أيضا أسمه زيد وهو وحيدي وعمره الآن تجاوز الخمسة أشهر بقليل.
أنزلني الرجل قرب ساحة سعد حيث موقف السيارات الرئيسي الذي يربط البصرة بالنجف والمحافظات الأخرى، وقبل النزول شكرته جدا متمنيا له وللعائلة وزيد خصوصا حياة سلام وأمان، ألتفتت لي زوجته وبيدها كيس صغير الظاهر أن فيه بعض الأكل الذي أعد سابقا، أعتذرت وقالت لي... قد لا تجد مطعما أو عربة فيها طعام تناولها لمحبة زيد... أخذتها والخجل يطيح بأخر لحظات القوة مهما حاولت أن أصمد... القصف ما زال يسمع قريبا وبعيدا والأجواء ليست ملبدة بالغيوم فقط بل بمنظر الطائرات من مختلف الأنواع تمر من هنا وهناك.
بضع سيارات تأتي سريعا وتذهب سريعا بعد أن تمتلئ وزيادة بالناس التي تجمهرت بالمئات، عوائل وأطفال ونساء والغالب فيهم جنود منهم جرحى ومنهم من حمل حقيبة أحزانه مكسورا من هول ما رأى، جربت أن أبتعد قليلا عن الجمهرة لعل هناك مكان لي في سيارة تمر وتتحاشى الزحام الرهيب هنا، أكلت ما في الكيس الذي أكرمتني به السيدة أم زيد ولم أجد ألذ منه بعد ساعات الجوع والعطش التي مرت، لا أعرف تحديدا ما فيه ولكن طعم البطاطا والطماطم هو الغالب، ربما كان فيه بيض أيضا... حمدت وشكرت الله أن الخير ما زال موجودا بالرغم من كل هذا القهر الجاثم على القلوب، كانت هناك سيدة كبيرة أنزوت بين حائط وحائط تختفي من أثر القصف تبيع الشاي... جلست قربها وتناولت عدد لا أعرف كم هو من كاسات الشاي وحالي يقول....أشرب حلوا وأنسى مرا...
فجأة وبدون موعد وقفت سيارة كوستر ذي 22 راكب وقد تحطم كل زجاجها إلا زجاجة السائق الأمامية ليشرب كأس شاي... سألته عن وجهته... قال أنا ذاهب إلى العمارة ومن هناك سأذهب إلى الديوانية.. رفيقك أخي... لا تتركني فقد مر على وجودي هنا يوم كامل.... هكذا وبعد ساعات من البرد والتعب وكثرة التوقفات وجدت نفسي في الديوانية بيني وبين النجف ستون كيلومترا أو أقل.
صلينا الفجر في كراج الديوانية الرئيسي بأنتظار أي مركبة تقلنا للنجف... وطأة الحرب هنا أخف ووجوه الناس ليست تلك الوجوه التي ألفتها في البصرة... الأخبار تتقاطع بين خبر تقدم القوات الأمريكية داخل الأراضي الكويتية وبين أخبار تقول أن الجيش العراقي يلحق الهزائم بقوات الحلفاء... أخبار الجسور المقطعة ومحطات الكهرباء وحتى المستشفيات لم تسلم من القصف... إنها الحرب القذرة بكل ما تحمل القذارة من معنى بشع... يقول سيد عبد لا أبقاني لتلك الأيام... كان محقا فيما قال فالبشاعة هنا لا تشبه تلك البشاعات التي خضنا غمارها ثماني سنوات حسوما، أين أنت يا صاحبي أنهض من رقادك لترى بلدك يحرق وما من مزنة مطر تطفئ لهيب النار..... لو تنبأت لي بغير ذلك وبشرتني بجنة فيها العراق سيد الأمان وموطن السلام وحماماتك البيض التي تركتهن خلفك يرسمن في السماء لوحة كرامة وحرية.
بعد عدة محاولات لقطع الطرق التي تمر عبر جسور تهدمت وصلت الساعة الحادية عشر صباحا إلى مدينة النجف وحلمي الأول والأخير أن أحضن ولدي الذي فارقته منذ ثلاثة أسابيع أو أكثر، فلم يعد حسابا الأيام مهما في أجندتي، وأيضا مشيا على الأقدام وبأتجاه مسكني قطعت المسافة مشيا على الأقدام المنهكة وأحسست أن البسطال الذب ألبسه في قدمي كأنه قطعة من الحديد لثقله، وبالكاد وصلت حتى جلست على دكة الباب لأستريح بعد أن طرقته وما من مجيب... خرجت سيدة من جاراتي بعد أن هنأتني بسلامة الوصول لتخبرني أن زوجتي وأبني قد غادروا المنزل منذ أيام لعدم وجود كهرباء ولا ماء ولا أحد معهم... دعتني لأتناول شيئا من الأكل شكرتها وقررت العودة إلى المدينة مرة أخرى... ما من سيارة أجره حتى البانزين أيضا فقد ومحطات التعبئة لا تفتح إلا نادرا ولوقت محدد...
المسافة بين بيتي وبيت أهل زوجتي تقارب الثلاث كيلومترات إذا ما قطعتها بشكل أفقي وهو ما أخترته، ساعة أو أكثر تقريبا كان الوقت الذي أستلزمني للوصول...لا بأس فما زلت أملك قليلا من خزين القوة والصمود... شيئا فشيئا وفرحة اللقاء القادمة تغمرني لتنسيني كل هذا التعب الذي قضيته في الأيام الثلاث التي مضت بخوفها ورعبها وجوعها وفوق كل ذلك الشعور بالهوان وفقدان الكرامة... وأخيرا ها أنا في حضن عائلتي بين أحبائي وزيد أشمه وأقبله وكأن فاكهة الجنة قدت إلي بطبق من حنين وشوق... رائحة التراب والدخان وأشكال لم أألفها من قبل كلها تركزت في ملابسي، بالكاد أنتزعوا حذائي العسكري من قدمي وقد تورمتا من التعب وكثرة المسير... ما يلزمني حمام ساخن جدا يخلصني من كل ذلك ويعيد لي شيئا من روحي... الأخبار التي سمعتها للتو تكسر كل أمل بنهاية معقولة لهذه الحرب الكارثة.... ألاف الجنود المنسحبين من الكويت يتعرضون للغدر والإهانة ويسلب سلاحهم على أيدي مجموعات من الأهالي!!!.. البعض حاول أن ينهب مؤسسات الدولة ومرافقها العامة... الجيش المليوني يتراجع نحو مراكز المدن وقوات الحرس الجمهوري تتوجه لبغداد وهي تتعرض لسيل مستمر من صواريخ وقذائف التحالف.... أخبار لا تشتهي أن تسمعها عن عدوك فكيف بها وهي تحصل في وطنك الجريح.
في كل ذلك تذكرت مشاهد من رواية الحرب والسلام التي عرضها التلفزيون العراقي قبل سنوات.. الجيش الروسي ينسحب أمام الجيوش الغازية ليس مهزوما وإنما ليضعه أمام قدرة الطبيعة الصعبة لتنتقم منه بين الثلوج والجوع... المشهد ليس متطابقا ولا بينهما أي مقارنة ولكن تذكرت كيف تعامل القادة الروس مع الأمر... كيف هي روح المواطنة عند الشعوب التي تعتز بترابها الوطني وتفتخر بجيشها منتصرا أو مكسورا... القضية ليست مثاليات بل أحاسيس أصيلة داخل النفس... الحكام والسلطات تتبدل وتتغير لكن روح الإنسان وعمق أنتمائها من الصعب أن يتغير فجأة... الألاف التي كانت بالأمس تهتف وتتوعد أمريكا وحلفائها سرعان ما تحولت إلى قطعان متوحشة تأكل بعضها ... ما ذنب هذا المقاتل الذي كسرته غباءات السلطة ومجازفاته وسلاح الموت محاط به من كل جانب أن ينال كل هذا الأذى.