إبن خلدون الصائغ الأول لقانوني القيمة وفائض القيمة 2-5


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6821 - 2021 / 2 / 22 - 12:38
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

قبل الخوض في تفاصيل النظرية الاقتصادية المتقدمة على زمانها لإبن خلدون ، من المفيد التطرق لوصف طبيعة ما هو وارد إلينا من الأفكار الاقتصادية قبل ابن خلدون - و هو الوصف الذي تقطع نتائجه بكون ابن خلدون كان أول عالم اقتصاد صاغ علمياً – كاكتشاف أصيل متفرد – قانوني القيمة و فائض القيمة للسلعة ، متجاوزاً بعملقة كل الفكر الاقتصادي للفلاسفة و المفكرين قبله – و خصوصاً أفلاطون و أرسطو – و كذلك علماء الاقتصاد الكلاسيكيين بعده مثل وليم بيتي و آدم سميث و ديفيد ريكاردو ، قبل أن يفجّر ماركس و انجلز ثورتهما المدوية في علم الاقتصاد (و الاجتماع و الفلسفة و السياسة) . و من المهم جداً الملاحظة هنا أن المنهج الجدلي في البحث و التحليل كان هو المتبع عند كل من ابن خلدون و ماركس و انجلز .
معلوم أن القيمة الاستعمالية للبضاعة (أي منفعتها في تطمين الحاجات البشرية المتنوعة) هي واقع يومي معاش عند كل البشر منذ أقدم الأزمنة لأن الأصل في انتاج السلعة إنما هو للاستخدام البشري - أي قيمتها الاستعمالية - و ليس للتداول في السوق حيث تتحقق قيمتها التبادلية مثلما هي عليه الحال في نمط الانتاج الرأسمالي . و طالما كانت كل سلعة تسد "حاجة حياتية" ما ؛ لذا ، نجد أننا في العراق – مثلاً – نسمي السلعة بـ "الحاجة" حيث يعلن باعة المفرد عن بضائعهم في الأسواق قائلين : "حاجة بربع .. حاجة بألف .. راس حاجة .. إلخ " تكريساً للعلاقة المتأصلة بين السلعة و المنفعة . و كذلك نجد أن المشترين يستخدمون نفس هذه التركيبة الذهنية لغوياً في التسوق : "أريد حبّاية وجع رأس / منظف سجاد / مواعين أكل ..إلخ". مثل هذه التسميات تستبطن كيف أن واقع منفعة السلعة هي الراسب الراسخ في العقل الجمعي المنعكس لغوياً ، و هو ما يقصي بعيداً الانتباه لدور العمل الاجتماعي الأساسي في خلق السلعة أصلاً .
نفس هذا الراسب الاجتماعي هو الذي وسم الكتابات الاقتصادية لأرسطو المعروف بكونه أفضل من كتب في علم الاقتصاد من بين فلاسفة العالم القديم . و لقد تميزت كل نظرية أرسطو عن الانتاج و التبادل و الملكية بالرجعية حيث كان مثله الأعلى هو دويلة المدينة الطبيعية البدائية ذات الاكتفاء الذاتي حيث حق التملك مقدس باعتباره الملكية الفردية هي التحقيق للكرامة الشخصية (عكس أستاذه أفلاطون الذي رفض الملكية الخاصة في مدينته الفاضلة) ، و حيث تَزرَع الأسَر الأرض و تدجن الحيوانات و يتم التبادل بالمقايضة و لا تُستخدم النقود إلا في التجارة الخارجية على غرار دويلة المدينة الاسبرطية القديمة البازغة تواً من مرحلة البربرية البدائية و التي كانت تستخدم العملات الحديدية في التبادل .
في أيام أرسطو ، كان كل العمل المنتج تقريبًا يحصل داخل نطاق الأسرة ، و ليس في المصانع و المكاتب و الأماكن الأخرى المطورة خصيصًا لمثل هذا النشاط في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة . و لهذا نجد أن مصطلح "الاقتصاد = economy" الاغريقي يعني "الخبرة في إدارة الأسرة" حيث أن الكلمة اليونانية التي تعني "منزلي" هي (oikos) و منها انتقلت هذه المفردة الى بقية اللغات الهندو أوربية .
اعتبر أرسطو أن قيمة البضاعة ترتبط بمنفعتها الاستخدامية المحسوسة (قيمتها الاستعمالية) و بالطلب عليها ، و ليس بكلفة انتاجها (المواد الأولية و قوة العمل) ؛ و أن لكل بضاعة "سعر عادل" متأصل بقيمتها الاستعمالية و بما تُشبعه من حاجة بشرية حسب الطلب . لذا ، فقد حَكَمَ على التجارة كعمل طفيلي غير طبيعي و غير لائق لكون تاجر المفرد إنما هو "سمسار" يبيع البضاعة بسعر أكبر من "سعرها العادل" المتأصل فيها الذي يشتريها به ، في حين لا يجوز – برأيه – للإنسان ان يتربَّح من أخيه الإنسان لقاء السمسرة في السوق ، بل يجب عليه ان ينهمك في الإنتاج الزراعي و الحيواني "الطبيعي". و كان شجبه لسعر الفائدة على القروض أقوى من شجبه للتجارة إذ اعتبره فعلاً شريراً ، في حين اعتبر أن العبودية إنما تصب في صالح العبد و سيده على حد سواء و ذلك تساوقاً مع الوضع الاجتماعي السائد الذي كان يعيش به ، و ذا أحد مصاديق المقولة الماركسية بأن الوضع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي (و هي الأخرى التي تعود أصلاً لإبن خلدون مثلما سأبين ".
احتقر أرسطو العمل البشري و اعتبر أن حياة العمل منحطة و مهينة ، حيث يتعذر على أولئك الذين يتوجب عليهم أن يعملوا من أجل تحصيل لقمة العيش أن يكونوا "أشخاصاً متميزين" مثل أولئك الذين لا يعملون . بل و بلغت درجة احتقاره للعمل حد القول بوجوب عدم قيام السيد بممارسة حتى عمل الإشراف بنفسه على عمل عبيده قائلاً : " بوسع أولئك الذين يمكنهم تجنب الانزعاج بمثل هذه الأشياء [أي: إدارة عمل العبيد] أن يفوِّضوا أحد المشرفين لتولي هذه المهمة ، لكي ينخرطوا هم أنفسهم في السياسة أو الفلسفة " ! هذا الاحتقار للعمل في كسب لقمة العيش هو بالضد تماماً من الفكرة الإسلامية القائلة بوجوب "سعي الانسان لتحصيل رزقه" باعتبار أن الرزق هو من عند الله مثلما بيَّن ابن خلدون في الحلقة السابقة ، و بالتالي فأن العمل البشري لكسب المعاش إنما هو نوع من أنواع "العبادة" .
أما أستاذه أفلاطون ، فقد قسَّم الطبقات لشعب مدينته إلى ثلاث : طبقة الحكام الذين "صنعهم الله من الذهب" ؛ و طبقة الجنود الذين صنعهم الله "من الفضة" ؛ و طبقة المنتجين من الفلاحين و الحرفيين الذين صنعهم الله من "الحديد و النحاس" في دولة المِلْكية العامة . و يشترك كل أفراد الشعب كأخوة في الفضيلة العامة المتمثلة بـ "الاخلاص للدولة" ؛ أما الحكّام ، فيلتزمون بفضيلة العدالة ، و يلتزم الجنود بفضيلة الشجاعة ، مثلما يلتزم المنتجون بفضيلة السيطرة على الذات بحكم القانون ، و ذلك بالتوازي مع تقسيم الواجبات اجتماعياً بينهم . و اعتبر أفلاطون أن أي دولة لا يمكن لها أن تزدهر إلا في ظل سيادة العدالة الاجتماعية ، و أن أكبر مصدر للظلم إنما هو الجشع في الاستحواذ على الثروة و اكتناز السلع الفخمة ، فناصر حياة الزهد و التقشف لدى الجميع . و أراد أفلاطون أن تتدخل الحكومة في كل شيء تقريبًا بما في ذلك الحياة الشخصية للأفراد مثل تحديد وظيفتهم الاجتماعية . كما أعتبر أن الأسواق و المال هما مجرد وسائط مريحة لتوزيع منتجات المواطنين . و رأى أن التسكع في السوق يمنع المواطنين من أداء واجباتهم الاجتماعية الرئيسية ، و طالبهم بإرسال مساعديهم الأكثر استغناءً عنهم وضعفًا جسديًا إلى السوق . أما القيمة عنده فهي ما يحدده المشرعون العدول من فوق و ليس مقدار العمل المنتج نفسه ، أي : ما يُجمع عليه المشرعون بالتشاور مع الخبراء في كل فرع من فروع تجارة التجزئة و التي يجب أن تتم كتابتها او فرضها من طرف وكلاء السوق ، ومسؤولي المدينة ، و الريف ، كل في مجاله الخاص .
الوصف أعلاه يوضح بأنه لا أفلاطون و لا أرسطو قد اعتبر أن العمل البشري هو خالق القيمة ؛ بل على العكس من ذلك تماماً في ضوء احتقارهما الصريح المعلن للعمل الاجتماعي المنتج . و لقد انتظر العالم أطول من ثلاثة قرون و نصف القرن حتى عام (1752) لكي يلتقط ديفيد هيوم مساهمة ابن خلدون هذه في كتابه "الخطابات السياسية" فيردد قوله "كل شيء في العالم يتم شراؤه بالعمل". و هو ما نقله حرفياً عنه آدم سميث نفسه و أثبته في هوامش كتابه "ثروة الأمم" عام 1776 .
كما لم يربط أي فيلسوف أو عالم اقتصادي آخر قبل عصر كارل ماركس و فريدريك انجلز فائض القيمة علمياً بالعمل البشري المجرد غير المدفوع الأجر (الاستعمال من غير عوض) باستثناء إبن خلدون . وجدت في هذا الصدد عدة تفسيرات غير علمية في مختلف الأزمان ربطت هذا الفائض (الربح) تارة بالزيادة في قيمة العملات و تارات بعملية شراء السلع أو بيعها أو بالغش أو "بيد الله" الفاعلة في الإنتاج الزراعي عند الفيزيوقراط و باستخراج المعادن النفيسة .. إلى أن حل ماركس و انجلز للبشرية هذا اللغز في نمط الانتاج الرأسمالي علمياً وطوّراه إلى أقصى مدياته المنطقية ليصبح هو حجر الأساس للاشتراكية العلمية .
أعود الآن للنظرية الاقتصادية المتقدمة على زمنها لابن خلدون مثلما يبينها نصه المقتبس في الحلقة السابقة . يبدأ نصه بالقول :" إعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته و يموِّنه في حالاته و أطواره من لدن نشوئه ، إلى أشده ، إلى كبره " و الذي يثبِّت الحقيقة العارية بكون الأنسان غير قادر بطبيعته البيولوجية (مفتقر بالطبع) على تغذية نفسه بنفسه ذاتياً مثلما تصنع النباتات ؛ لذا ، فهو محتاج لإنتاج القوت و التموين لنفسه طيلة حياته . ثم يقول : "و يد الإنسان مبسوطة على العالم و ما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف . و أيدي البشر منتشرة ، فهي مشتركة في ذلك . و ما حصل عليه يد هذا ، امتنع عن الأخر ، إلا بعوض". في هذا النص يضع إبن خلدون يده لأول مرة في التاريخ على المكونين الأساسيين لكل الثروة في المجتمع البشري : العمل البشري أبو القيمة ، و أمها الطبيعة (يد الإنسان المبسوطة على العالم) . ثم يوضح كيف أن الثروات الطبيعية إنما هي ملكية مشتركة بين كل البشر ، و أن ما ينتجه بالعمل هذا الفرد منهم يصبح ملكاً شرعياً له لوحده باعتباره خليفة الله على أرضه و لا يحق لغيره الاستحواذ على ثمار عمله إلا بعوض من خلال التبادل . هنا لدينا المبدأ القانوني : أن العمل البشري المنتج يكسب الفرد حق تملك ما ينتجه بنفسه فيمنعه عن غيره ، و هو نفس المبدأ الذي طبقه بعدئذ ماركس على الانتاج الرأسمالي : على أجور العمل أن تساوي إنتاج العمل و أن استحواذ الرأسمالي على فائض قيمة العمل المأجور هو سرقة مبطنة . و مبدأ ربط العمل البشري باستخلاف الله للإنسان على الأرض يجعل العمل البشري واجباً مقدساً علاوة على تمييزه للبشر كلهم من دون استثناء بمنزلة أرفع من بقية الكائنات بفضل قدرتهم المتفردة على انتاج قوْتِهم بأنفسهم .
يُتبع ، لطفاً .