ثقب بهيج .. في ذاكرة الولد الإمبابي


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 6815 - 2021 / 2 / 15 - 13:46
المحور: سيرة ذاتية     

لو أنني امتلك آداةً سحريةً اخترق بها الزمن ، استعيد بها لحظاته التي اختطفها من ذلك الصبي الذي لازال يعيش - علي عناده - في دغل روحي ..
لو أنني أمتلك تلك الآداة التي تحررنا معاً من قبضة اللحظة الحالية وتذهب بنا إلي منعطف اللحظة التي شكلت طفولة وصبا هذا الصبي ، لأصبح (أنا) كائناً موحداً .. حيث اختار ألا أعيش ممزقاً بين الإثنين .. فأكون أنا ذلك الصبي الذي يستند علي قضبان بلكونته التي تطل من بلوك ثلاثة مدخل أ في مساكن إمبابة الشعبية علي ذلك القطار العجيب الذي كان يأتي مرة في كل إسبوع لتنطلق منه جماعات من خيل السباقات الجميلة صاهلة ومتراقصة بحوافرها ، منها الأبيض الناصع ومنها الأحمر كما كنا نسميه أو البني الداكن أو الأسود أو البني الداكن ، أو الأبيض المرقط بالبني الفاتح أو العسلي أو الشهابي ..
كان قلبي يخفق بالبهجة بمجرد حلول هذا القطار العجيب الذي كان مجهزاً لنقل الخيل فقط ، والذي كان يقف في محطة إمبابة ، ليتراقص قلبي كما تتراقص ساقي وذراعي الممسكتان بقضبان بلكونة منزلنا التي كانت تطل من الدور الثالث علي شريط القطار ، حيث يقف في محطة إمبابة علي رصيف البضائع الذي كان لايفصلنا عنه من حيث الرؤية سوي طريق (التروللي باص) الذي يفصل مساكن إمبابة عن السكة الحديد ..
كانت الغبطة الكبيرة التي تشعل الشغف في داخلي أنا الصبي الصغير هي لحظة أن تنفتح الأبواب المبطنة بالإسفنج لعربات القطار المخصص لنقل الخيل أو (الأحصنة) كما كنا نسميها في ذلك الوقت ،
ويشتعل شغفي حينما أشاهد رؤوس الخيل عندما يبدأ عمال القطار بمعاونة مصاحبي الخيول بفتح الأجزاء العلوية لأبواب عربات القطار فتنطلق روحي إلي فرحها ويطمئن قلبي إلي أن هذا اليوم هو يوم فرجة الخيل ..
وعندما ينتهي أصحاب هذه الخيول الجميلة من فتح كامل الأبواب ينطلقون مترجلين إلي جوار الخيل ليعبرون بوابة السكة الحديد وطريق التروللي باص إلي حيث يمرون من تحت بلكوناتنا فأنطلق إلي الشارع لأصاحب هذا الركب الساحر إلي آخر الشارع الذي كان يفصل بين المساكن ومركز شرطة إمبابة ..
ظللت لسنوات أري هذا المشهد دون أن أدري إلي أين كان ينتهي مستقر هذا الخيل ، ولا في أي مكان يقضون نهارهم قبل أن يعودوا إلي نفس القطار ، وفي أي مضمار سباق سيتنافسون ومن منهم سيفوز ، وهل أن هؤلاء الرجال من ذوي القبعات الذين يمشون كل بجوار حصانه .. هل هم أصحابها أم حراسها أم ملاكها أو ياهلتري هم فارسوها المشاركون في السباق أم هم عمال لدي فوارس لم أرهم بعد ؟ ..
لم أكن أسأل ..
من أين تأتي امواج هذه الأحصنة الرائعة بتنوعاتها التي تفوق قدرة الولد الصغير علي استيعاب لحظة تختطفه فيها الدهشة والجمال ..
تلك البهجة العاصفة من حيث الإتساع والعمق لم تكن لتتيح لي مجالاً لهذا السؤال ، ولا لكي أسأل إلي أين يذهب بها مصاحبوها المترجلون إلي جوارها ، وهم ممسكون بقيادها في أياديهم ؟ ..
كنت فقط اكتفي بذلك الفرح الذي يجتاح كياني حين أتابع مشهد نزولهم من القطار في الصباحات المشرقة ، وهم يرتدون الرداءات الصفراء والحمراء والخضراء والزرقاء كل حصان حسب لونه وحسب مايليق به من زينة ، بخلاف تلك الشراشيب الملونة التي كانت تزين وجوه بعض من الخيل في حين كانت وجوه البعض الآخر مغطاة بالرداء الملون عدا فتحتين للعين وفتحتين تخرج من كلتاهما الأذنين الطويلتين ، بالإضافة لفتحة تسمح بمتسع لوظائف الأنف والفم سوياً ..
كان استعراضاً للجمال والبهجة في تلك الصباحات التي لازلت اتذكرها ، ولازالت تقبع في أعز ثنايا الذاكرة وأعمقها ...
، ليتها معي تلك الآداة
لكي أعبر بها إلي اترابي من الصبية الذين شاركوني هذه اللحظة ، وإلي جيراني القدماء في مساكن إمبابة الشعبية التي تركتها منذ مايقرب من سبعة وأربعين عاماً عندما اصطحبنا أبي إلي حيث البحيرة مكان عمله الجديد ..
حاولت بعدها لمرة واحدة أن استعيد هذا الفردوس المفقود عندما خصصت يوماً في أول الألفية الجديدة للسفر للقاهرة والذهاب إلي إمبابة حيث قادتني ذاكرة الصبي الصغير الذي يسكن روحي إلي مساكن إمبابة وطرقت باب عم الشحات الجبالي (أبو حياة) جارنا القديم ، وكلمتني الأبلة حياة من وراء شراعة الباب وسألتني من أكون، وأجبتها ، فردت وهي تحاول أن تفهم ماهية الشخص الغريب الذي يقف خلف الباب (حضرتك بتقول حمدي جارنا القديم؟) ، وسمعت من خلف الباب صوت رجل كبير (- مين ياحياة) ، (- ده حد بيقول أنه حمدي إبن عم ابو حمدي جارنا القديم يابابا) ..
ناولتها بطاقة الهوية الشخصية قبل أن تتركني إلي الداخل طالبة أن أمهلها لحظة ، وظللت خلف الباب المغلق إلي أن عادت هي وعم الشحات هاتفين ..
(- حمدي
مش ممكن
مش معقول ...)
ظللت في ضيافتهم لمدة ساعتين أحكي لهم محطات الذكريات واستمع منهم ، سألتهم عن مصائر جيراننا القدامي واصدقاء الطفولة والصبا فاكتشفت أن أحداً منهم لم يبقي وأن المساكن اصبحت أقرب لعشوائيان أحشاء المدن ولم تعد كما كانت عليه ..
هي تكاد أن تكون أنقاضاً لذكرياتي القديمة حيث أن السكان أصبحوا غير السكان ، والأبلة حياة كانت في زيارة لوالدها عم الشحات الذي اختار ان يقضي بقية أيامه في شقته الملاصقة لشقتنا القديمة بعد أن تزوج كل بناته أبنائه حياة وجمالات وهدي ومحمد وياسر والشحات حتي احمد الذي كان لايزال لم يكن عمره يتجاوز العامين عندما تركنا إمبابة قد تزوج ..
ألا توجد آداة
أكسر بها هذا الحاجز الزمني فأستعيد صباي بأصدقائه ، وجيرانه مستعيداً بذلك فردوسي المفقود؟