الإنسانيةُ بوابةُ النهوض والحضارة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6810 - 2021 / 2 / 10 - 12:22
المحور: حقوق الانسان     

الإنسانيةُ وقبولُ الآخر = النهوض والتنمية والحضارة. معادلةٌ منطقيةٌ بسيطة من الدرجة الأولى ولا شكّ في صحتها الأبدية الأزلية: نظريًّا وعلميًا وواقعيًّا وتاريخيًّا. فالدولُ التي تعاني من الأمراض الطائفية والوعكات العنصرية، تنفقُ دخلَها القومي وتحرقُ جهودَ أبنائها في إصلاح التداعيات الناجمة عن تلك الصدوع المجتمعية الخطيرة والصراعات الدموية بين بنيها. بينما تنفقُ الدول الناجية من تلك الأدران ميزانيتَها وجهود مواطنيها في التنمية والتطوير والنهوض والحضارة. أغمضْ عينيك أيها القارئ واستدعِ من خيالك أيَّ بلد في أيِّ حقبة زمنية. ثم انظرْ إلى موقعها على سُلّم التنمية والاقتصاد والحضارة، ثم اطرحْ هذا السؤال البسيط: هل تعاني تلك الدولة من أية محن عنصرية أو طائفية؟ هل يعاني المواطنُ فيها من التمييز على أساس العرق أو العقيدة؟ ستجد الإجابة دائمًا عكسية. الدولُ المتطورة حضاريًّا واقتصاديًّا، لا يعترفُ مواطنوها بالتمييز العقدي أو العرقي أو الطبقي، بل يحيا الجميعُ تحت مظلة شاسعة من الأخوة الإنسانية التي تنهضُ بالمجتمعات. والعكسُ دائمًا صحيح.
يوم 4 فبراير الماضي، الذي يحتفلُ فيه العالمُ سنويًّا "باليوم العالمي للأخوة الإنسانية"، الذي اعتمدته الأممُ المتحدة عقب توقيع البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف على وثيقة "الأخوة الإنسانية" في مثل ذاك اليوم عام 2019، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إننا نحتاجُ، أكثر من أيّ وقت مضي، إلى قيمة الأخوة الإنسانية، وإن هذه المناسبة تذكّرنا بحتمية الحوار المجتمعي لفهم وتقبُّل الآخر، وتعزيز التعاون بين المواطنين لنبذ التعصب والتصدي لخطاب الكراهية، ونشر قيم التسامح والعدل والمساواة من أجل تحقيق السلام والاستقرار.
ومصرُ أولى دول العالم بقيم الأخوة الإنسانية والتسامح العقدي. فهي الأرضُ الوحيدة على هذا الكوكب التي فتحت قلبَها وذراعيها للأديان الثلاثة في فجر مولدها. فعلى أرضها كلّمَ اللهُ النبيَّ موسى عليه السلام في أرض سيناء، وكانت أرضُها الطيبة هي الملاذَ الآمن الذي استقبل السيدةَ العذراء وطفلَها السيد المسيح عليهما السلام حين هربا من الملك السفاح هيرودس قاتل الأطفال في أرض فلسطين، ثم فتحت مصرُ بابَها للإسلام منذ فجره الأول، لتجمعَ الرسالاتِ الثلاثَ في قلبها. لهذا فمن الطبيعي أن تغدو مصرُ محطَّ أنظار العالم في شيوع قيم التحابّ والتآخي والسلام بين أبنائها، ومن غير المنطقي أن تنبتَ بين ربوع مصر أزماتٌ طائفية أو خطابات كراهية أو سقطاتُ تنمّر وإقصائية.
نحن أبناء الحضارة التي ابتكرت "قانون الإنسان" في فجر التاريخ البشري قبل صكّ مصطلح "الإنسانية" بأزمان وأزمان. نحن أبناء السلف المصري الصالح الذي علّم البشريةَ كيف يكونُ الإنسانُ إنسانًا فابتكر قانون "ماعت" الذي سبق العالم تحضرًا وسموًّا ونبلا، فما كان القويُّ يتجبّر أو يقسو، بل يمنحُ الضعيفَ من قوّته. في اعترافاته الإيجابية والسلبية لحظة وفاته كان الجدُّ المصري يقول: “كنتُ عينًا للكفيف. كنتُ ساقًا للكسيح. كنتُ يدًا للمشلول. كنتُ أبًا لليتيم. لم أتسبّب في دموع إنسان. لم أتسبب في شقاء حيوان. لم أعذِّب نباتًا بأن نسيتَ أن أسقيَه. لم أُسبّب البؤسَ لأحد. لم أقتل ولم أحرّض على القتل. لم أتسبّب في الإرهاب. لم أتكلّم بازدراء لأحد. لم أغضب دون سبب وجيه. ولم أسمح لغضبي بأن يتسبب في الإيذاء.” ذاك هو جدُّنا المصري العظيم، الذي علينا أن نجهد ونرتقي ونطوّر من أرواحنا وثقافتنا وسموّنا وإنسانيتنا حتى نستحقَّ أن نكون حفدةً له.
في كتاب "التطور الخلاّق"، يقول الفيلسوفُ الفرنسي "هنري برجسون": ( الإنسان الُعادي ميال بٌطبيعته إلى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها. أما العبقريُّ فيشعرُ أنه ينتمي إلى البشرية جمعاء. ولذا فهو يخترق حدودَ الجماعة التي نشأ فيها ويثور على العرف الذي يدعم كيانها وينبذُ الأغرابَ عنها. الإنسان الممتازُ يخاطبُ الإنسانية كلَّها بلغة الحب”.
إن كنّا ننشدُ النهوض بمصرَ حقًّا، على المستوى الأخلاقي والاقتصادي والتنموي والحضاري؛ علينا أن نُعيدُ إلى ألسننا ومعاجمنا الكلمة الطيبة التي قتلناها في أفواهنا وأن نُعيدَ إلى قلوبنا قيمَ التراحم والأخوة والمحبة. دعونا نُصمتُ ألسنَ التباغض والبذاءة والتلاعن والتكفير والتنمّر والطائفية والمذهبية التي أثبت الواقعُ والتاريخُ أنها تدمّر المجتمعات وتقوّض الحضارات وتعطّل جميع محاولات النهوض والتنمية. دعونا نؤمن بالفعل لا بالقول بآية كريمة من القرآن الكريم تقول: “ألمْ ترَ كيف ضرب َاللهُ مثلاً كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبة، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تؤتي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربّها. ويضربُ اللهُ الأمثالَ للناس لعلّهم يتذكرون.”
“الدينُ لله، والوطنُ لمن ينشرُ قيمَ الأخوة الإنسانية بين أبناء الوطن.”
***