رواية (ماركس العراقي) ح 15


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6807 - 2021 / 2 / 6 - 18:02
المحور: الادب والفن     

ومن ثم
السنة الثالثة من الدراسة بعد أن عدنا من مهمة (وطنية) كبرى كما يقول الرفيق عباس رئيس اللجنة الأتحادية في الكلية وأمر سريتنا في الجيش الشعبي، قاطع باكيرات في دهوك حيث عسكرنا في مهمة مسك الأرض ومراباة الطريق الممتد من أطراف مدينة دهوك وصولا إلى القرية المهجورة المبنية كمجمع سكني للفلاحين في المنطقة، كان مقر القاطع في أعلى التل الكبير المشرف على القرية والشارع المتعرج بين طيات الأرض صعودا ونزولا ويمينا وشمالا، وكأن الأرض تحاكي طبيعة الإنسان أو العكس كما هو واضح واقعا، في ثلاثة أشهر فقدنا البعض من زملائنا الطلبة نتيجة نيران غادرة ممن يدعون أنهم ثوار أو ربما يتوهمون أن القتل جزء من الثورة، وطريق لكسر طوق الظلم الذي يشعرون به.
لا أناقش في قضية الحق والباطل طالما لا نملك معيارا مشتركا يصلح الأتفاق عليه، طلبة يذهبون للمدينة أو يمارسون الواجب المكلفين به بحراسة الطريق فتغتالهم رصاصة غبية وبندقية لا تفهم لغة الحب، معظم الطلبة وإن تدربنا على السلاح في معسكر الخالدية في الرمادي لكننا أيضا لا نملك روح العسكري وثقافة الجندية، كما أننا لسنا مرتزقة ولا هم لنا سوى أن نبقى طلبة مع قرار بفصل كل طالب لم يشارك في القاطع، أمر قاطعنا الرفيق الدكتور غالب رنكه، عميد كلية وأستاذ يحمل الروح الرياضية الحقة لكنه مجبر أيضا أن يتولى مهمتين في أن واحد، حماية المكان وتنفيذ الأمر وليس له من خيار أخر.... نعم نحن رجال وعلينا واجب قد يراه البعض تمهيدا لشيء أخر، ولكن يبقى الطالب يحلم بسلام مع كتبه ورحلة الأمل في أن يكون شيئا ما في الغد.
عدنا لمقاعد الدرس وكان العود أحمد نسأل عن هذا ونتفقد من غاب أو رحل، الزميلات قضين العطلة في التدريب العملي والتطبيقي في دوائر الدولة، ومنهن من وفقت ومنهن من فشلت في تجربة أو في خيار، المهم نحن الآن بخير ومن ذهب نترحم له ومن بقى نتمنى له السلامة وربما نحلم هذه السنة بالسلام الضائع، تغيرات مهمة في جبهات القتال فقدنا أراضي ومواقع كانت تحت سيطرة الجيش العراقي مع الألاف من الضحايا والشهداء بقرار فوقي، معارك ضارية تدور بين وقت وأخر تنتهي بمجاز بشرية مروعة سرعان ما ننساها لنتهيأ لأخرى، صار أمر الموت شبيه بحديث الصباح وأخبار المساء يتكر يوميا وبدون حد، ما من شيء جديد سوى الوجم الذي يعتري نفوسنا كلما قرب موعد أنتهاء الدراسة والتخرج، فالنجاح مضمون بالتأكيد ولكن الرسوب في مرحلة للحصول على سنة أضافية هو الأمر الصعب والذي يحتاج لمن يفعله بطريق أو بأخر.
أنتقلت من القسم الداخلي القديم إلى مكان أقرب للكلية في راغبة خاتون حيث لا تفصلنا عنها سوى بضع أمتار نقطعها مشيا على الأقدام، الجو هنا مختلف فالمنطقة تعج بالناس والأسواق وحلويات رعد الشكرجي و الأورزدي باك وقهوة إبراهيم عرب أكبر كذابي وظرفاء بغداد ومطعم الضفيري صاحب أشهى وجبة تشريب عراقي باللحم الغنم، كان معي في الغرفة أثنان من الزملاء عباس عبد موحي الذي يسبقنا بمرحلة والحاج سيس أج الزميل الأفريقي اللذيذ المتعبد صاحب القامة الممشوقة، صوفي ومتعبد وشاعر وأبن زعيم ديني في بلده السنغال، ثلاثة لا نشبه لبعض ولا مشترك بيننا سوى أننا طلاب قسم القانون.
عباس شيوعي حد النخاع ومثقف بشكل رهيب لا يمكن مجاراته بالحوار والحديث عن الماركسية فهو حافظ لكل مقولاتها وكأنها جهاز حفظ كبير جدا، مع أنه طالب ويعتمد على راتب الطلبة فهو عاشق للخمرة وللقراءة ولكل ما هو مخالف لنا نحن الأثنان، شيخ سيس يقضي جل وقته بالقراءة المستمرة في محاولة لفهم الدروس باللغة العربية التي يتكلمها فصحى من غير خلط ولكن بلهجة محببة في نخارج الحروف، القراءة مع مسبحة طويلة ذات الألف خرزة وخرزة التي كثيرا ما يعلقها برقبته على شكل طيات حين ينشغل بشكل جاد في الدراسة، سجادته ممتدة بالقرب من سريره فهو كما قلت متعبد وصوفي، كان يسميني صغيري لأنه يكبرني بعام فقط، يقول أنت أخي وعباس الأخر أخي ونحن ضيوف عند بعضنا، لا يهمني ما يفعل عباس كما لا يهم عباس ما أنا عليه.... الصوفية لديه تعني شيء أكبر من الحب بين الناس وللناس، الصوفية عنده أن تدع كل شيء لله وحده فهو من يملكنا وهو من يصلح اخطأ إذا أراد.
بالرغم مما يلاقي منا أحيانا من معاكسات أو إزعاج لكنه متسامح بجمالية روحه الفياضة بالحب، قضينا سنة جميله كشركاء في السكن ولكن الأجمل منها أننا لم نختلف في قضية أخرى، لا السياسة فرقتنا ولا الجنسية ولا الدين ولا أي شيء ممكن أن يجعل من وجودنا مشكلة، عباس كان يمرر لي بعض الكتب والروايات المفقودة في السوق لأقراها بعيدا عن العيون الدقاقة والمدققة في كل شيء، لا أعرف من أين يأت بها لكنها أشبعت رغبتي في القراءة مع غياب شبه كامل لعناوين الحديثة أو العناوين التي لها وقع وتأثير مهم، في أيام قليلة عندما يثمل عباس أو تكون هناك مناسبة ما يجلس ليحكي لي وكأنني تلميذ في الصف الأول عن نضالات الشعوب والنخب الثورية ومأل مصير الصراع الوجودي وحتمية أنتصار قوى الثورة واليسار في العالم، الحديث الذي لم يتطرق له يوما لا مع ولا ضد هو حديث الحرب وعرس الدم العراقي.
في الغرفة الثانية من الشقة التي نسكنها في القسم وكان على شكل شقق كل واحدة منها بغرفتين زميلي كاظم الذي زاملته في الدراسة المتوسطة وجمعتنا الكلية، وكريم طارش أبن العمارة الذي له روح مرحة وحضور جميل فهو زاخر بحب الحياة والأناقة والبحث عن حب صادق، بالرغم من أنهما لا يتشابهان بالطبع ولكنهما صديقان جيدان أيضا بالرغم من كل ذلك، شريكهما الثالث رسول زميلنا النجفي إبن البيئة المتدينة والخائفة على وجودها من أي نظرة أو كلمة قد توحي للسلطة شيئا ما، كان حريصا أن يساير الوضع الفوضوي الذي كان يثيره كاظم بضحكة وأحيانا بلا مبالات، المهم أن تنتهي السنة الدراسية ويذهب كل منهم إلى ما تختار له الأيام.
من عادات الطلبة في الأقسام الداخلية حينما يكون هناك أتفاق على نظام معين، أنهم يعدوا الطعام في الشقة فهو لا يكلف كثيرا وأفضل من أكل المطاعم لا سيما أن الشقة مجهزة بما نحتاج طباخ غازي وثلاجة وغيرها، بما أني أكثر الأحيان أبقى في الشقة وأجيد الطبخ كانت المهمة من نصيبي، أما كاظم فعليه الذهاب إلى السوف حينما نحتاج لشيء، المشكلة أن كاظم لا يلبي طلباتنا كما نريد فهو يختر ما يعجبه مما يسبب لنا الإنزعاج، عرفنا السبب لاحقا فهو لا يتسوق إلا من مكان واحد فقط فيه فتاة تبيع الخضرة والفواكه، في يوم أشترى ثلاث مرات بطاطا وفي كل مرة نكلفه للذهاب ليأتي بشيء أخر يعود محمل بكيس البطاطا، صرخ بوجهه كريم متعجبا ومستنكرا، قال... ليس عندها في المحل غير البطاطا.....
في الشقة المجاورة لشقتنا والتي شغلت ركن العمارة في الطابق الأول صديقنا الكردي المستعرب صاحب القلب الفارغ من كل هموم الدنيا، كوفند فتحي معصوم بطل الأوهام والقصص المشتركة صديق الكل والذي ينهي كل زيارة لنا أو له بموقف زعل لا يدوم غير ليلة واحدة، عندما نتحدث عن الشعراء فهو أو أحد أقاربه شاعر كبير ومشهور، نتحدث عن السياسة فهو سليل عائلة سياسية لها وزنها، نتحدث عن الذكاء والمعرفة ففي عائلته الكثير من العباقرة والأذكياء، هو مع كل شيء وفي كل شيء مشترك، نقيضه ومن ينكد عليه مشاركته وحديثة كاظم ليخرج منزعجا وهو يشتم ويسب العرب لأنهم أغبياء، صحيح أني كردي بس أجدادي سادة من أل النبي يعني نحن عرب، يقول له كاظم طيب ولماذا صرتم أكراد هل حدثت طفرة وراثية كما يقول دارون، ينتفض كوفند ويقول أنتم العرب تبقون عمركم ما تفهمون.... ههههههه.... ويقول له كاظم وأنتم الأكراد لا يمكن أن تكونوا في صف الذين يفهمون... وتنتهي الحوارات والكل مستمتع بالمشهد.
الجو الخاص في القسم الداخلي لا يعكس صورة عن الجو العام وقد ننسى كل ما خارجه حينما نكون مع بعض، ثلاث سنوات تكفي لنا أن نعرف أننا أكثر من زملاء دراسة بل أكثر من أخوة، ومع ذلك كان هناك من يحاول أن يجعل هذا الجو ملوثا أو على الأقل يجعل منه شيء مزعج، كنت مسئولا عن القسم ومشرفا عليه ولي غرفة أخرى أستغلها للقراءة بعد أن يذهب الموظف المسئول بعد نهاية الدوام الرسمي، عرفت حكايات وأكتشفت أسرار ووصلتني معلومات كثيرا منها مهلكة أو مخزية، تعاملت معها تعامل الأصم الأبكم الذي لا يسمع ولا يرى ولكنه يتدخل حين يحتاج الوضع إلى سيطرة، أكتشفت في يوم من الأيام أن عنصرا أمنيا يدخل شقق الطلبة ويفتش باللوكرات وبالذات أسماء محددة، منهم زميلي وشريكي في السكن عباس، لكن الحيرة كيف لي أن أخبره عن هذا فليس بالأمر السهل أن تفعل ذلك وليس بيدك دليل، ومع ذلك طلبت منه في يوم ومع جرعة شجاعة أن لا يضع الكتب الغير المنهجية في خزانته لئلا تقع في يد من لا يرحم وأنتهى الحال.
في هذه السنة تحديدا ومع أشتداد أوار الحرب وضراوة المعارك على الجبهات، تحولت كليتنا إلى ما يشبه مركز أمني فهناك طلبة جد في مراحل مختلفة، منهم مسئولون كبار في الدولة منهم شقيق الرئيس، وشقيقة نائب رئيس الوزراء وقائد الجيش الشعبي، هناك موظفون كبار يدرسون في الدوام المسائي للكلية، ضباط أمن بزي طلبة وطالبات وكأنهم يبحثون عن عدو متخفي، صار لدى الكثير وعي أنهم تحت عين الراصد والمرصاد وأن يتصرفوا بحذر شديد وأنا منهم، حاولت الأبتعاد بكل الصور عن صورة الطالب المسئول المثقف، أتجنب لقاء الطلبة ممن يؤشر عليهم أنهم مع تيارات سياسية أخرى، كونا شلة من مجموعة من الطلبة انا وطارق وكريم عرب وسعد المحاويلي واخرون، شعارنا الوحيد والمتفق عليه أننا خارج كل التصانيف ومهمتنا أن ندرس للنجح فقط... مع مساحة عريضة من حرية البحث عن النكتة والمزحة والتطنيش.
هذه السنة في نهايتها علينا أن نذهب في العطلة للمشاركة في التطبيق العملي في دوائر الدولة، وبمجرد الأنتهاء من الأمتحانات علينا أن نختار دائرة أو محكمة أو جهة رسمية تناسب أختصاصنا، أخترت أنا وزميلي كاظم التطبيق في محكمة مدينة الجد بالرغم من أن المنطق يقول أن أختار المحكمة في مدينتي كربلاء لأنها الأقرب والأوسع والأكثر فائدة علمية لي، كان خياري له مبرر أنا أقنعت نفسي به، وقد يكون مجرد عودة للوراء لأرى نفسي أين كنت وما أنا عليه الآن، كان خياري حكيما هذه المرة وأسعدت به، فزميلي كاظم لا يمكن أن يتفوق علي في كم المعلومات التي درسناها سويا، كما أنها فرصة لي لأبحث ربما عن حب ضائع أو ربما لأعيش جزء من الجو القديم، ثلاثة أشهر كانت كافية لتجعلني أقرب للمسئولية وأقرب لكل موظفي المحكمة التي عملت في كل أقسامها بلا كلل غايتي أن أستفيد وأن أجهز حالي للمستقبل.
عدت في هذه الفترة لحوارات جدي وأصدقائه الذي رحل منهم من رحل وما بقي إلا القليل منهم، تغيرت صورة الحوار ولم يعد هناك عبد ابو عيون والكل لديها اجهزة تلفزيون والصحف تصل بأنتظام، الحزب يمسك الداخل بقوة وبقبضة من فولاذ، الحديث اليومي حول الفواتح والشهداء ومجرى المعارك، لا حديث عن يمين ولا يسار لا قومية ولا أشتراكية، أصدقائي الشيوعيين منهم من أنزوى بعيدا ومنهم أبو هارون الذي أدمن الثمالة حد الضياع، فهو لم يصحو من ثمالة حتى يقارع أخرى، لا وظيفة ولا زوجة ولا مستقبل، ذهبت أحلام الأنتصار وتكسرت فيهم قوة النضال الأممي بعد أن حل اللون الخاكي والزيتوني واجهة كل مكان، وأختفت راية المعول والمنجل الحمراء حتى من حديث عابر.
لقد تغير المجتمع وتغيرت قيمه وتهدمت بنايات شاهقة من أحلام رسمناها حينما لم يكن شبح الحرب يطل علينا بهذه القوة، بالرغم من أن وجه المدينة القديم تغير وتوسعت حدودها فهناك الحي العسكري وهناك حي الشهداء وهناك حي القادسية وكلها من نتائج ما أفرزنه الحرب وما خلفته على الواقع، لكن المدينة في قاعها العميق لم تتغير ولم تتحرك كثيرا عن ماضيها، يمكن أن تبني مدينة كبيرة وشامخة وفيها كل الخدمات في زمن قصير، لكن لا يمكن أن تبني إنسان بمثل مواصفات المدينة بنفس السرعة وبنفس المستوى، الإنسان كائن صعب التغيير ما لم تدفعه التجارب للتحرك ومغادرة موقعه القديم لا تنجح أي وسيلة بذلك إلا حين يحاصره الموت والفناء، هكذا كنت أقرأ مدينة جدي عبر المستور والمغطى منها، مدينة تتحرك ببطء نحو المستقبل لأنها وككل العراق مقيدة بشعار نفذ ولا تناقش.