رواية (ماركس العراقي) ح 8


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6801 - 2021 / 1 / 28 - 01:33
المحور: الادب والفن     

عود الكبريت
قيل قديما أن شجرة واحدة يمكنها أن تعطيك مليون عود كبريت ولكن يكفيها عود واحد لتحرق مليون شجرة من أخواتها، فالنار تخلف الرماد وأقسى أنواع الرماد الخاسر ما تتركه الأرواح التي غادرت عالم الأحياء لتشهد أن النار ليست فقط نعمة ونقمة، ولكنها ليست بالدائم ضرورة حين لا يكون لها معنى، حملة أعواد الكبريت دوما يتقدمون الصفوف ويظن البعض أنهم الممهدون للنور في ظلمة الديجور، هذا إذا كان هناك ديجور بحق وقد غابت أشعة الشمس عن العقول وحل محلها ظل الشيطان الظليل الضال المضل، في منتصف الثمانين وقبل أن يجلس العقلاء ليبحثوا فوائد النار والنور ويعودوا للدرس الأول دار دور داران، أشعل الحمقى أول عود كبريت في وجه الخصم، وهكذا توالت العيدان واحد إثر الأخر في مسيرة العدم واللا أبالية.
تحت الرماد القديم هناك نار تستعر لكنها تصمت عن البوح بوجودها تنتظر ريح لتقلع عنها الرماد لتعلن عن نفسها، هذا ما كان يحدث بالضبط، فجرح أتفاقية الجزائر من جهة وردة فعل النظام من أن تأت ريح غير موائمة تدفعها شعارات براقة يمكن أن تطيح بالجميع، هي من أرسلت ما كنا نخشى منه، في الجانب الأخر هوس الثورة والرغبة في أن يطغى فرعون على ملئه ليعيد قصة موسى الذي أوفى ويغرق أعداءه في بحر السياسة متوهما أنه يملك العصا التي تفلق البحر، ماذا كنا فعلين والصراخ يعلو من كل جانب يعيش يا، يموت يا، وهم لا يعلمون أن تتحرك على أرض صلبة لا على مستنقع وحل ولا في بحر كثبان الرمل المتحرك، ومع هذا لا أحد يجرؤ ليقول للجميع أين أنتم ذاهبون؟.
الأحداث تتسارع من هنا وهناك ونحن على أبواب الدخول للجامعة، كان الخوف حريا أن ينتزع بطاقات الأمل التي حرصنا على أن نرسمها كل يوم ويجردن حتى من الأحلام المشروعة، ما زالت نبرة الخطاب السياسي بشكلها الخشبي تطل عليتا كلما فتحنا المذياع أو أطل علينا مذيع بالتلفزيون ليخبرنا أن العصا لمن عصا، كاد شهر آب أن يفجعنا بشيء لا يتمنى العاقلون حدوثه أما الخائضون بما لا يدركون عمق الحفرة التي يحفرها الساسة والقادة فهم كما يقول المثل (على حس الطبل خفن يا رجلي)، سحب الحرب تتجمع والكل متوقع أن يصحوا صباحا ليسمع أخبار الكارثة، ومع ذلك كان رأي الشخصي أن الحياة لا بد أن تستمر والأحلام لا بد أن تطل برأسها مع كل القهر والحسرة على ما سيأتي.
في أوائل آب وفي الأسبوع الأول منه تحديدا هزتنا أخبار أشتعال أول عيدان الثقاب المولعة، فقد تم الأعتداء على مراكز حدودية بين البلدين، وإن كان الأمر مما تشهده الساحات الساخنة دوما وأنتهى بوقته، لكننا كنا نخشى من الأسوأ حيق لا تقدير مقنع أنها لا تتعدى محدوديتها، أيضا ومع هذا التوقيت أعلن التلفزيون الرسمي أن القيادة في العراق تعتبر أن أتفاقية الجزائر ملغية والعودة للوضع الذي كان قبل توقيعها وعلى الجانب الأخر أن يفهم ذلك ويحترمه، كانت ضربة أضافية وجهت في الوقت الغير مناسب لحائط الأستقرار الهش وحالة اللا سلام ولا الحرب التي ميزت الوضع بين البلدين، فيما دعوات وتهديدات الطرف الإيراني لا تنقطع وشعار تصدير الثورة يطل مع كل كلمة أو خطبة جمعة يلقيها الملالي لأتباعهم، أما على الصعيد الدولي فالكل يرقب ويراقب بل منهم من يدفع للمزيد من خلط الأوراق لعل النتيجة أن تظهر من هو القادر على فرض إرادته في الأخير.
كل شيء يجري سريعا ومتسارعا دون كابح أو أي محاولة لوضع العصي في عجلة الحرب القادمة، المتفرجون دوما لهم كما يقال المشرب الصافي أما من يكتوي بنار الحرب فهم وحدهم من يحسون بحرارة الدم وألم الفقد، ظهرت نتائج القبول مع أنتهاء أمتحانات الدور الثاني في منتصف أيلول وتهيأنا للشروع في التسجيل وما هي إلا ساعات حتى سمعنا أن الجيش العراقي توغل في الأراضي الإيرانية يوم 22-9، البعض ضنها لعبة أيام ويعرف كل من الطرفين حدود قدرته ويتصرف على أساسها، بين الرابع من أيلول والثاني والعشرون منه تأريخ أمتد لاحقا ليرسم وجه الدم على خارطة وجه الشعبين، كأنما قادة العراق وإيران أشعلوا عود كبريتهم الرئيس وتركوا الناس يتلظون بحرها وحريرها.
أسوأ الأحتمالات التي كانت تراودني أن تكون المعارك في حدود ما حول شط العرب، أو ربما من جهة الأهوار والأكثر بشاعة أن تكون في خاصرة العراق القريبة من بغداد بين واسط وديالى، خارطة المعارك رهيبة عندما أنظر لها بعين الجغرافية، وعين العقل أن هذه المساحة الطويلة ومتنوعة التضاريس والبيئات سوف لن تهدأ أبدا، مهما كانت قوة الجيش فلن يكون بوسعه سد كل هذه الثغرات أو أستحكام السيطرة على أرض منفتحة إلى أهوار وتلال وجبال وهناك من يتربص ويتصيد الأخطاء في الداخل، هذه الرقعة الواسعة تحتاج إلى تجنيد نصف الشعب ليكون الوضع شبه أمن، مع أناشيد النصر وشعر المهوسين بالمديح تساقط الشهداء واحدا تلو الأخر، في الأسبوع الأول وإلى قبل يوم 30 أيلول لم تدخل أي جنازة شهيد إلى كربلاء.
مع وصول أول جنازة شهيد إلى كربلاء وكانت من منطقة حي العامل خرج الألاف من الناس بين باك ومتفاخر، بين من يرى الشهادة وسام وبين من يتحسر على هذا الشاب الذي بالتأكيد سوف لن يكون الأخير، مع التشيع كانت زغاريد النسوة التي لم نألف مثلها من قبل على الأقل في هذه الفترة وهذه المدينة، وامرأة كانت تتحزم بعباءتها ترتدي السواد الكامل المعفر بالتراب والطين تسير خلف الجنازة، تزغرد وأثار اللطم على وجهها ووجنتيها وعيونها المحمرة كالدم، عرفت أنها أم الشهيد علي المحمول على الأكتاف، يتيم منذ الصغر ووحيد مع أربع أخوات، كان طالبا وفشل في الدراسة ألتحق بالجيش قبل ثلاث سنوات مضت، كانت تتأمل أمه أن يتزوج حين تسريحه من الجيش، لكن الحرب زفته عريسا للمقبرة سريعا.
وبدأت تتوالى القصص والحكايات ومشاهد التوديع والأستقبال بين ذاهب للجبهة وبين عائد ناجي من موت مؤجل، اليوم أو غدا لا يهم الموت بأنتظار الجميع لا فرق بين كبير ولا صغير ضابط أو جندي، الكل يترقب مشهد ربما يكون مفاجأة للبعض، أنتهت أخر فصول هذه الحرب القصيرة خاصة بعد صدور قرارات من مجلس الأمن بضرورة وقف هذه الحرب، كانت باردة لحد أنها لم تجلب أنتباه أحد إلا من أكتوى بنارها أو حالم بعودة عزيز سالما، غاب العقل تماما أمي بحكمتها الفطرية قالت يوما أول من يتألم من لعبة عض الأصابع هذه هو من يقبل بإيقافها والظاهر أن العض والعض المتبادل للأنامل لم يبلغ مستوى إعلان الوجع الآن.
توقفت الدراسة التي ما بدأت أصلا وخشيتي أن لا تبدأ وهذا يعني لي أن الحرب جاءت لتزيد من خيباتي ألما أخر، فلا كلام يدور بين الناس إلا عن الحرب وعن مصير الأبناء والآباء والأخوة، كان من بين من أخشى القدر عليهم أخي الذي كان ينتظر التسريح بعد أن أنتهت مدة خدمة العلم، وخالي الذي سيق ضابطا مجندا في صنف المدفعية، كان هناك أبن عمي وزوج أختي النائب عرف طالب الذي كنت ممن أفتخر ببطولات لواءه (المدرع العاشر) في حرب تشرين، وعلمت أن وحدته كانت من أولى القطعات التي أشتركت بالصفحة الأولى من التعرض في قاطع واسط، كلهم لديهم أحلام وأمال وغد ينتظرهم، ولكن الحرب كثيرا ما تستهزئ بالأحلام والآمال.
جارنا الرجل الكبير الوقور سيد ربيع الذي يكن كرها غير معقول للعجم، كانت لديه أمنية أن يتحول إلى صاروخ ذكي وينزل على رأس من لم يتوقف عن التبشير بالحرب، مهما كان منزلته إمام أو سيد أو شيخ أو جنرال، فهو الأخر يخشى أن تضيع ودائع الله من الرجال في زحمة التنافس على منصة الرابح والمنتصر، يشاركه كثيرا من الرجال الكبار الذين خبروا معنى الحرب ومعنى القتل ومعنى فقدان الأعزة، فقد كان وقودا لها في ما مضى حين تشتعل بين العشائر والقبائل فيخر العشرات لا لشيء سوى لنصرة كلمة أو تأييد موقف لهذا المحفوظ أو ذاك الشيخ.
وما زالت أناشيد النصر والتعبئة تملأ الجو حماسا ومعها ألاف القصائد الشعرية واللقاءات والمقابلات التي تحي (يوم النصر العظيم) ودون الأستشعار بأن الحرب تأكل منا الأخضر واليابس، ما قيمة النصر مع لهفة أم ثكلى وأب مفجوع ويتم طفل يريد أباه ليراه، بل ما قيمة النصر إن لم يكن نصرا للإنسان على وحشيته الحيوانية، كلا الطرفين يتغنى بالنصر وكأنهم يحاربون الشيطان مع بعض والشيطان هو الذي يمدهم بالسلاح والدعم والتبريك، أي حرب تتوقع منها نصرا وأنت مهزوم في إنسانيتك لا يمكنه أن تقول ولا حتى كلمة أوقفوها هذه اللعينة.
صار منظر وصول التوابيت الملفوفة بالعلم العراقي مشهدا معتادا، وخف الأهتمام بها أو الحفاوة التي كانت تلقاها من الناس، لقد عايش الجميع الحرب ولم يعد بمقدورها أن تصنع لنا واقعا غير الذي نعيشه، يقول بعض الحكماء (الموت وحده القادر الذي يجعل الحنظل بلا طعم إن تكررت زياراته على الإنسان)، فأقصى ما يثيرك به هو أن تعتاد وجوده كما القدر، الإنسان ينسى المرارة كلما أتخمته مرة بعد مرة، وكأنه لا يريد أن يتذوق غيرها، فهمت من ذلك أن الموت مهما كان ثقيلا يكفي أن تكون مرارة الأيام مداوية للجرح وإن كان عميقا، ولكن جروح الروح وحدها التي لا يمكن شفائها، لأنها أصلا ليست جروح حقيقية بل هي كهوف رهيبة داخل الروح نخبئ بها ألامنا الكبرى.